الدكتور أحمد الحراحشة: التأويل يُعِيدَ تكوين الحقائق التاريخيَّة الكبرى (حوار)الباب: مقالات الكتاب
محمود الديب الرياض |
حوار : محمود الديب
القصائد الجاهلية الغزليَّة لم يكن باعثها الغزل والعشق. والعرب لم يكن لهم أطلال، وأسماء المحبوبات لم تكن أسماء حقيقية وإنّما استعارة تصريحية، فوجه الشبه هو المشترك المعنوي بين الاسم وموضوع الشاعر، وإلاّ كيف استطاع الشاعر أن ينتقل من عاطفة الحب والحنين والغزل أو الطلل أو ذكر الشيب إلى عاطفة الغضب في الهجاء والفخر، ومن ثم إلى عاطفة الموضوع الرئيس التي ربَّما تكون عاطفة الرغبة أو الرهبة أو الرجاء والطمع. تلك بعض من الآراء التي خلص لها الدكتور أحمد الحراحشة الأستاذ المشارك في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لقد رفض التسليم بالكثير من الشروح القديمة للشعر الجاهلي، وخرج عبر قراءات وبحوث متأنية بدِلالات جديدة غير الدِّلالات المتعارف عليها.
- الدلالات المأنوسة لا تقيمُ صُلبَ البنيّة العميقة للشعر الجاهلي.
- تحدرت لفظة الأطلال من شعراء الجاهلية الأولى الذين عاينوا أطلال عاد وثمود وإرم ومدائن صالح.
- لعبت أسماء النساء دورًا في حصانة المرأة وحمايتها من ذؤبان الرجال.
- العرب كانوا أهل وبر لا أهل حصون.
- المجتمع العربي كان حريص على سلامة العلاقات بين الرجال والنساء ولم يكن ليتهاون مع الشعراء ويسمح بفوضى العلاقات بين الطرفين في مجتمع قلّت فيه أعداد النساء.
- أغلب الشعراء الجاهليين الذين ذكروا عددًا كبيرًا من النساء لم يكونوا معروفين بالعشق ولم يقولوا قصائدهم وهم في ميعة الصِّبا وبعضهم قال جلَّ قصائده وهو في سني المشيب.
- الأوضاع المعيشية أبعدت العرب عن إطلاق أسماء على بناتهم تشي بالجمال والرقة والنعومة.
كان العرب شديدي الالتصاق والتماهي مع بيئتهم، فما أبرز مواضعات التسمية لديهم؟
إنَّ لكلِّ بيئة مسمياتٍ تلوذ بها، متعالقة بطباعها، لائطة بأركانها، ولائقة لثقافاتها، وكلُّ ثقافة تخلو إلى مسميات خاصة بها، وتتناوب أجيالها عليها مع تعاقب الأزمان، تمثل ثمرة من ثمار ثقافاتها المتعددة والمتغيرة في ماضيها وحاضرها، وتحاكي بها ما حَسُنَ في سالف زمانها، وما يَحْسنُ من رغباتها في حاضرها، وفيما تتشوف أن يصير عليه المسمى بعد أن يكبر.
لذا خضعت أسماء النساء لمواضعات البيئة العربية الصحراوية في الجاهلية، وكانت تلعب دورًا في حصانة المرأة وحمايتها من ذؤبان الرجال في مجتمع ذكوري خشن، عُرِفَ بالكبت الجنسي، وحُرِّمَ فيه على الشباب التنفيس من حمى الشهوة؛ لذلك كان الخوف شديدًا ومبرراً على النِّساء؛ والمرأة أعظم غنيمة الرجل وعقيلة ماله، وهم ما بين حلٍّ وترحال، لا حِمَى لهم سوى السيف والخيل؛ فهم أهل وبر لا أهل حصون تمنع نساءهم من السبي والخطف؛ قال الأسعر الجعفي:
وَلَقَد عَلِمْتُ عَلَى تَجَشُّمِي الرَّدَى
أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَر القُرَى
في ظل هذه الأوضاع المعيشية والاجتماعية والقيمية، ابتعد العرب عن إطلاق أسماء على بناتهم تشي بالجمال والرقة والنعومة والميعة، وحاولوا أن تحمل أسماؤهن معاني نفسية وعقلية لا جسدية؛ كالعند والحدَّة والفصل والمنعة والحكمة والعقل؛ فكانت أسماء بناتهم نحو: هند وعنود وفصل والخنساء وشعثاء وفاطمة ورابعة وأروى وقتيلة وأمامة وسلمى، وغير ذلك من الأسماء التي تمنع خيال السامع من الرجال من التلذُّذ بموحيات الاسم وصفات صاحبته المتخيلة؛ خوفًا عليهن من حوف بيوتهن من قبل الرجال الطامعين بإدراك الطلب، أو التربص بهن على المفارق والعيون، وأكناف البيوت ومصاطب الكثبان.
كان الجمال البارع للمرأة يعرضها لكثير من المضايقات، ويزيد من احتمالية خطفها وسبيها، ويشهر أهلها بين العرب، حتى يترامى الأضياف على بيت أبيها، ويكثر المرتادون لحماها بشتى الذرائع لرؤيتها، وتنتقل أخبارها بين الناس حتى بعد زواجها، ويتنافس عليها الفرسان والشيوخ، وتكون سببًا للعداوة بينهم، وربما كانت نذير شؤم لزوجها، وإيجاد العداوة له، ومدعاة لقتله؛ طمعًا في الحصول عليها، وحسدًا منهم لما حازه زوجها من أغلى ملذات الحياة ومتعها عندهم ؛ لذلك غدا الزواج من المرأة الجميلة مكروهًا، ومحفوفًا بالأخطار؛ لخوفهم بأنَّها لن تسلم من تشوُّف الرجال لها وطمعهم فيها، في ضوء طبيعة حياتهم المقسمة بين غزو وعدوان وحلٍّ وترحال، وخلو الديار في كثير من الأحايين من الحماة والرجال، فقال الشاعر:
ولن تصادف مرعىً ممرعًا أبدًا
إلاَّ وجـــدت به آثـــار منتجع
برغم كثرة أسماء النِّساء في الدواوين العربية إلا أنك تشير إلى أنها ليست أسماء محبوبات بل تحمل معاني ودلالات أخرى ؟
تركزت أسماء النساء في مطالع القصائد الجاهليَّة، وفي البيت الأول من المطلع خاصة، وقلَّما وردت في المقاطع الداخليَّة، وإن وردت من هذا القليل، فسيكون غير الاسم الذي ذُكِرَ في المطلع على الأغلب، أو أنْ يأتي الاسم نفسه على صيغة غير التي ورد عليها؛ مصغرًا أو مرخَّمًا، ولكن كثرت أسماء النساء في ديوان الشاعر الواحد كثرة لافتة، فنافت على ثمانية عشر اسمًا عند الأعشى، وذكر امرؤ القيس ما يقارب سبعة وعشرين اسمًا، وأورد بشر بن أبي خازم ما ينيف على خمسة عشر اسمًا، وذكر النابغة ما ينيف على اثني عشر اسمًا، أمَّا زهير فذكر أربعة أسماء سوى الكُّنى والألقاب، وذكر الحطيئة حوالي خمسة أسماء، لكنَّه كررها كثيرًا بصيغ التصغير أو الترخيم حتى زادت على العشرين اسمًا.
وكان كلُّ شاعر يلوذ بأسماء معينة يكررها في شعره أكثر من غيرها؛ فتميم بن أبي بن مقبل كرر في قصائده مجموعة من الأسماء، مثل: كبشة، وكبيشة، والدهماء، وليلى، ومن الكنى: أمّ عاصم، وأمّ حاجز، وأمّ سهم، وأمّ خشرم، وغلب على أسماء النساء عند أبي ذؤيب الهذلي الكنى؛ نحو: أمّ عمرو، وأمّ وهب، وأمّ سنان، وأمّ الرهين، وأمّ الحويرث.
يَلمح الناظر في الأسماء في المستعرض من الدواوين الشعرية، كثرة أسماء النِّساء وتعدُّدها في الديوان الواحد، وأحيانًا في القصيدة الواحدة؛ الأمر الذي يحملنا على أن نستبعد أن تكون هذه الأسماء كنايات لنساء كان للشاعر معهن تجربة حقيقية، وأن للشاعر معهن علاقة ما من علائق الحياة الجنسية أو الاجتماعية الدائرة بين الذكر والأنثى؛ كالعشق بأنواعه أو الإعجاب والشغف والصَّبابة، وغير ذلك من حبال الوصل بين الرجل والمرأة في مجتمع معروف بالغيرة العمياء على الأعراض؛ حتى وصل به الأمر إلى أن يئد بناته وهنَّ في المهود رُضَّع قاصرات؛ خوفًا عليهن من السبي والعار.
فإذا كان المجتمع كذلك، فلن يسمح بانفلات العلاقات بين الرجل والمرأة، كما يُلْمَحُ من فيض علاقات التشبيك بين الشعراء والنساء اللواتي وردت أسماؤهن في دواوينهم، وستكون منظومة قيمهم الاجتماعية أشد حرصًا وتحوطًا مما حذروا منه على البنات، عندما يكبرن؛ وقد حدا بهم هذا الحرص على الشرف ونقاء العِرض إلى حرمان ممن تشتهر لهما قصة عشق من الزواج الشرعي وذلك عقابًا اجتماعيًّا على ما اقترفاه من مخالفة للسنن؛ وليظهر أهل الفتاة للناس براءة بنتهم من سقطات العشق والصبابة وتبعاتها، وغالبًا ما كان يتم تزويج هولاء الفتيات إلى أزواج غرباء لقطع دابر التقول على بناتهم ولدفن سيرة الماضي، وكان رجال العرب لا يتحرجون من الزواج بالمعشوقات لمعرفتهم ببراءة عشقهم وبعده عن التبذل والانحلال.
فمن غير المقبول لمجتمع يحرص كل هذا الحرص على سلامة العلاقات بين الرجال والنساء أن يتهاون مع الشعراء إلى هذا الحد، ويسمح بفوضى العلاقات بين الطرفين، وأن يسمح للواحد منهم أن يتصل بمجموعة كبيرة من النساء في مجتمع قلّت فيه أعداد النساء أصلاً، وظنت الأمهات بهنَّ لوأدهن صغيرات والاهتمام بالمواليد الذكور في توفير سبل الحياة لهم أكثر من البنات.
إنَّ أغلب الشعراء الجاهليين الذين ذكروا عددًا كبيرًا من النساء في شعرهم، لم يكونوا معروفين بالعشق، ولم يقولوا قصائدهم تلك، وهم في ميعة الصِّبا وشرَّة الشباب وعنفوانه، وإنَّ من الثابت أنَّ بعضهم، قالوا جلَّ قصائده وهو في سني المشيب المتأخرة: فالمثقب العبدي قال قصيدته النونية "أفاطم قبل بينك متعيني" في سن متأخرة حيث قالها بعد خلافه مع عمر بن هند، وقد عاصر الملك النعمان أبا قابوس وقال فيه شعرًا.
والحارث بن حلِّزة قال مطولته الهمزيَّة "آذنتنا ببينها أسماء" بعد أنْ تجاوز المئة والخمسين عامًا، وكان زهير ابن أبي سلمى يعيش في عقد الثمانينيات عندما ذكر أمَّ أوفى، وقد وثَّق لنا ذلك شعره في مطولته.
فإذا كانت هذه الأسماء كناية عن نساء عرفهن الشاعر الجاهلي؛ كان حريًا بزهير أنْ يكنِّي عن زوجه أمِّ كعب التي ذكرها في مطلع قصيدته الرائية، وأنْ يكنِّي ابن مقبل عن زوجته "الدهماء" التي ورثها عن أبيه في الجاهلية وفرَّق بينهما الإسلام؛ ليعصم نفسه من النقد، ويبعدها عن المخالفة والضلالة، وقد ذكرها في ست قصائد. والأحرى بالشعراء العشاق أنْ يُكَنُّوا عن معشوقاتهم؛ لذلك تجد أن معشوقتي المرقشين ذكرتا في قصص الغرام والشعر بالاسم نفسه "أسماء وفاطمة".
إن موضوع الهوى وإلف النِّساء موضوع خاص يتعلق بالجانب الذاتي من المرء، ويدور حول غرض متفرد من أغراض الشعر العربي، وتكاد العلاقة بينه وبين الأغراض الأخرى منبتَّة تمامًا، ومعروف أنْ جلَّ هذه الأغراض تتعلق بما خشن من علاقاتهم وتصادم؛ كالحرب والغزو والثأر والتهديد والوعيد والنهب والسلب والدماء، فكيف يتواصل الحديث في الغزل مع التهديد والوعيد والدماء (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) الأحزاب: 4، وبأي وشيجة يرتبط الفكر في الأبيات واللوحات المتوالية نفسيًّا وزمنيًّا؛ فتختلف، وتتناقض في هنيهة مشدود زمامها إلى الهمِّ المطروح على النفس الشاعرة! لا تنفك مشغولة به حتى تفرغه في صورة لفظية، وهذا ما أشارت إليه نتائج الأبحاث النفسية التي أقرَّت بأنَّه لا بد من علاقة بين فكرتين تلي أحداهما الأخرى، سواء أكانت تلك ظاهرة أو غير ظاهرة، فالعقل لا يستطيع أنْ يُغيِّر الموضوع حينما يشاء من غير إشارة إلى ماضيه القريب.
في ضوء ما يُجدي إليه فيض التحريات الأنفة الذكر، ومن نافع القول أن نعترف بأنَّه لم يبق لنا من سبيل لتفسير ذلك، سوى المنفذ الرمزي المتعالق مع الهمِّ الذي أرَّقَ الشاعر وكان سببًا في ميلاد القصيدة.
عندما لم يتوسع الشرح القديم بِدلالات أسماء النساء في المطالع؛ لأنَّه قصر جهده على المنفذ الواقعي، وعطل المنافذ الأخرى، وأصرَّ على واقعية التجربة الشعرية للجاهلي على الرغم من مغايرتها لواقع الحياة الجاهليَّة، تمَّ تخريج الأسماء بتخريجات فاسدة: فقالوا في أسماء الحارث: "إنَّها مما كان يواصل"، ونسبوا خولة إلى بني كلب، وهريرة جارية كان يتعشَّقها الأعشى، وعبلة فتاة عبسيَّة، وابنة شيخ القبيلة، وأجمل بنات زمانها، وأمَّ أوفى طليقة زهير، وهكذا دواليك.
لم يكن لعرب الجاهلية الثانية أطلال، فما هي أسانيدك؟
إن العرب الذين عاشوا في الجاهلية الثانية، وهي الجاهلية المعروفة التي وردت لنا أشعار شعرائها باللغة العربية الفصيحة، أمثال امرئ القيس وطرفة وزهير ابن أبي سلمى وأضرابهم، وهي تمتد إلى نحو ثلاث مئة سنة قبل الإسلام تقريبًا ليس لهم أطلال؛ لأنهم أعراب الصحراء، سكان بيوت الوبر - أي الشعر والخيام - والقصيدة العربية الجاهلية المعروفة قصيدة صحراوية تمثل حياة العرب في الصحراء والبوادي والقفار، وبيت الشَعر لا يترك بعد رحيله أطلالاً شاخصة فوق سطح الأرض، إنما يبقي رسومًا دارسة على سطح الأرض، وبذلك هي ليست أطلالاً بالمعنى اللغوي للطلل. والطلل هو ما شخص من آثار الديار فوق سطح الأرض، بعد رحيل أهلها عنها، فلذلك قالت العرب: حيا الله طللك، أي شخصك.
وكان يترك رسومًا تندرس بسرعة ـ وهي عبارة عن حفرة يحفرها البدو في فصل الشتاء أمام بيت الشعر تنعطف يمين البيت وشماله، لتسحب ماء المطر إلى الجانبين، ونقرة بسيطة كانت موقعا للنار، وثلاث حجارة سوداء مسفعة كانت تحمل القدر، تسمى أثافي ومفردها أثفية، وكانت بعض النساء تحمل هذه الحجارة الثلاثة معها لكي لا تبحث عنها مرة أخرى في المنزل الجديد، والعرب يكونون مشغولين في الرحيل، وهذه الرسوم سرعان ما كانت تختفي بعد أول فصل شتاء وبفعل الرياح وما تحمله من أتربة ورمال، ومن جانب آخر حتى سكان الحضر والقرى لا تتحول منازلهم إلى أطلال في عمر شاعر، وهذه بيوت في قرانا الآن عمرها مئات السنين لم تتحول إلى أطلال، وبعدها ماثلة للعيان ودليل آخر هذه سوريا عمرها آلاف السنين لم تتحول إلى أطلال إلا بعد هذه الحرب المقيتة.
لقد تحدرت لفظة الأطلال من شعراء الجاهلية الأولى الذين عاينوا أطلال العرب كعاد وثمود وإرم ذات العماد وطسم وجديس ومدائن صالح وغيرهم، أيام كان للعرب منازل فارهة وجنات من نخيل وأعناب ورمان، ودمرها الله تدميرًا لأنهم كفروا بأنعم الله، وذلك قبل أن تتصحر جزيرة العرب، والشاعر حفيد كل الشعراء السابقين، ولولا أن يأخذ الشعراء من سابقيهم لنفد الشعر والكلام، فيقول عنترة بن شداد: "هل غادر الشعراء من متردم "، أي هل أبقى لنا الشعراء القدامى شيئًا نقوله، فقد قالوا في كل الأبواب وكفونا المؤونة، وقول كعب بن زهير: "ما أرانا نقول إلاّ معارًا، ومعادًا من قولنا مكرورًا".
على ماذا اعتمدت للوصول إلى قراءتك الجديدة ؟
نتيجةً حراكِ العقلِ المعاصر، ورفضه المسلمات، وانقياده للتفكير العلميِّ والمنطقيِّ، وتوفر معطياته ووسائله في الوقت الحاضر، حينها بدأ النُّقاد بالتَّململ حين شعروا أنَّ الدِلالات المأنوسة المتوارثة لا تقيمُ صُلبَ معاني البنيّة العميقة للشعر الجاهلي خاصة، التي تفرضها المُعطياتُ المُتعالقةُ مع النص، مثل: مقام القصيدة، وأعني مناسبة قولها، ودوافعه المرتبطة بموضوعها الرئيسي، ومعطيات البِنيَّة الداخليَّة والخارجيَّة للنَّص التي تلتمع من تحت جمر الألفاظ.
لمَّا استقرتْ معاني الشِّعر الجاهلي ودِلالاته في بطون الكتب، وركزتْ في طيَّات الذاكرة الجمعيَّة العربيَّة دهرًا، لم يُلقَ على صفحتها حجرٌ ثقيلٌ مؤثرٌ؛ كان الأمرُ صعبًا على من يرغب في التجاوز والتفلَّت من ربقة الشرح القديم وأسْره، وتعرضتْ المحاولات الأولى إلى نظراتٍ شزراء من لدن الباحثين المحافظين على القديم لقدمه، والزاريين على الحديث وأهله.
توسلتُ المنهج العقلي الهيرمنيوطيقي المُتعالق مع صنعة الاتِّساع بِمُرجِحاتٍ داخليَّة وخارجيَّة، ومُستنطقًا بعد ذلك كلَّ الأسماء الواردة في النَّص من أماكن وأعلام، مستعينًا بالدوائر المعرفيَّة في اللغة والجغرافيا، وما تشفَّ عنه طبائعُ النُّفوس ومُواضعاتها، مُفترضًا أنَّ القصيدة العربيَّة ليست بدعًا بين الآداب العالمية حتى تُولد مُفككةً بالشكل الهندسي الذي عرفناه، وإنَّ أسماء النساء في المطالع ليست حقيقيَّة.
يقوم المنهج الهيرمنيوطيقي على رؤية منطقيَّة مفادُها أنَّ لكلِّ عمل أدبي هدف رئيس جذري تدور حوله أجزاء العمل الأدبي ومعانيه، وترتبط به ارتباط الأغصان والأوراق بالساق، وما من عمل فني راقٍ إلاَّ وتحته عاطفة قوَّية، دفعت الأديب إلى الكتابة والشَّاعر للنظم دفعًا، لا حيلة لهما بالتخلص من وطأته أو تجنبه إلاَّ بمباشرة النظم والكتابة، ولا تشتعل العاطفة القويَّة إلاَّ بسبب حدثٍ ما قويٍّ رَمَضَ نفس الشَّاعر، فهيَّجه وأثار انفعالاته، فيعمد الشَّاعر للتسريَّة عن نفسه بالنظم، ولتحقيق ما فشل في تحقيقه على أرض الواقع فيما يتعلق بباعث همومه التي أثارت عاطفته، فيحققه بالفن، أو لتسديد نقص ما نجم عن الحدث، فيكون فنُّه محاولة لتسديد نقصه إرضاء لنفسه، والأحلام العقلانيَّة التي يمثلها الإبداع الفني تبدو لصاحبها وكأنَّها عمليَّة عقليَّة من عمليات الحياة العقليَّة في أثناء اليقظة.
فالمذهب الهيرمنيوطيقي يفترض وجود فكرة محوريَّة، أو معنى جوهري، ترتبط به معاني أجزاء العمل الأدبي، فيعتمد مبدأ التماسك والترابط؛ أي يوجب تأويل عناصر النَّصِّ المتفرقة في ضوء المعنى الجوهري المرتبط بهدف النشاط الفكري التصوري، اللغوي، وهو النَّص، ولا ييأس نقَّاد هذا المذهب من ردِّ ما تفرق من العمل الأدبي إلى نيَّة الكاتب التي أنشأته، وإلى أصله الأول، أو جذره العميق، الذي يضمن وحدة أجزائه ووحدة معانيه المتفرقة.
فعلى المؤوِّل أنْ يتركَ سطح العمل الأدبي، وينقِّب في طبقات المعاني ليصل إلى مركزه الباطني، ويستنطق كلَّ القرائن والتفاصيل من أسماء وصفات أشخاص وأماكن ومواقعها، ومشخصات البيئة من جبال وبُرَقٍ وصُمَّان وصحارى، ونباتات، وأحوال الطقس من صحوٍ ومطر وغيث وغيوم، وفيضان، وأن يبحث في العلاقة الغائبة بين المتشابهات، ويحقق في وجه الشبه بدقَّة، ليستنبت دِلالات ذلك كلِّه، وسيجد أنَّ كلَّ ما هو منثور على سطح العمل الأدبي مربوط بخيطٍ قوي إلى المركز يبتعد عنه ولا يفارقه، والمركز يمثِّل المعنى الجوهري أو الفكرة المحوريَّة المتعلقة بالقصد والهدف الأول من العمل الأدبي.
إنَّ التأويل يبحث عن المعنى الأوَّل، وليس عن المعنى الثاني؛ لمعرفة مراد المتكلِّم ومقاصد النَّص، فباطن اللفظ هو الذي يحمل قصد المتكلم، فهو المعنى الأوَّل، ويؤكد ذلك معنى التأويل، فأوَّل من الأولُ: وهو الرجوع، وآلَ الشيء يؤول أولاً ومآلاً: رجع، وأوّل إليه الشيء: رجَّعه وأُلْتُ عن الشيء: ارتدتُ، إذا يكون التأويل الرجوع إلى أوَّل الكلام، وأوَّل الكلام وتأوَّله: فسَّره، وقَدَّره، والتأوُّل والتأويل؛ تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصحُّ إلاَّ ببيان غير لفظه.
لكلِّ قصيدةٍ قصدٌ وغايةٌ أرادها الشَّاعر، شأنها شأن أيِّ نشاط إنساني، وأرقى النشاطات الإنسانيَّة، النشاط اللغوي، "والإنسان يريد بالكلام معنى واحدًا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام، فإذا فُسِّرَ بغير مقصود المتكلِّم من تلك المعاني، فإنَّما فَسَّرَ المُفسِّر بعض ما تعطيه قوَّة اللفظ، وإنْ كان لم يُصِبْ مقصود المتكلِّم".
ما هي ضوابط القراءات الجديدة للشعر الجاهلي ؟
تهدف إعادة قراءة الشعر الجاهلي قراءة جديدة متأنية لإثبات أنَّ العقل العربي الجاهلي سليمُ البِنيَّة، عظيمُ القدرة التخييليَّة، يظهرُ الشاعرُ ما يريد ويبطنُ ما يريد، بعيدًا عن المباشرة والسطحيَّة ، وثانيها: إنَّ ما تعلمناه، وعرفناه من نساء في مقدمات القصائد الجاهليَّة ليست من النساء في شيء؛ إذ هريرة ليست هريرة المعروفة ، أمة بشر بن عمرو بن مرثد السوداء التي كان يتعشقها الأعشى، وعنترة لم يكن عاشقًا في بني عبس، وخولة صاحبة طرفة ليست فتاة بعيدة المرواح من بني كلب، وعنيزة ابنة عم امرئ القيس ليست كذلك، وفاطمة ورابعة وسعاد وأمّ أوفى وغيرهن من المظلومات.
إنّ تتبُّعَ الفضاءات المجازيَّة التي يُتيحُهَا علما المعاني والبيان في اللُّغة العربيَّة لا تسعف الناقد على إجلاء الطاقات الإيحائيَّة للغة الشعراء، لذا عطل الشرح القديم للشعر الجاهلي حركة التواصل الأدبي مع هذا الشعر، وبدأت العلاقة التواصلية تضعف شيئًا فشيئًا مع تقادم الزمان.
فالشعر لا يستخدم اللُّغة لمجرد التوصيل، ولا يستخدمها لمجرد أنْ تدلَّ الألفاظُ على معانٍ محددَّة، ومعاني الشعر لا نهاية لها، فالشاعر لا يحددُّ معاني ألفاظه، وإذا كان اللفظ ثابتًا فالمعنى متحول مع الزمان حسب ثقافات وقدرات النُّقَّاد والقارئين.
إنَّ المعاني التي نراها في الشعر ليست هي المعاني التي قصد الشعراء إلى إبرازها؛لذلك احتالت اللُّغة الشعريَّة على التصريح لمقاصد الصور اللفظيَّة الشعريَّة، ومردُّ ذلك هو احتواء اللُّغة الشعريَّة على سماتٍ انزياحيَّةٍ تُتيحُ للشاعر إخفاء مقصده على المتلقي السطحي الكسول الذي يقتنع بالمعنى السطحي الظاهري، ولا يكدُّ نفسه بالبحث عن المعاني العميقة المتأتِّية ليس من المعاني الحقيقيَّة للعلامات، وإنَّما من تشكيلات الشعريَّة الأسلوبيَّة.
ولكي نُفلِحَ بالتواصل الأدبي مع الشعراء علينا أنْ نتركَ سطح العمل الأدبي وننقِّب بالحفر بحثًا عن المعاني الأُوَل، حيث يقول رولان بارت: "النَّصُّ هو السطح الظاهري للنتاج الأدبي".
ويرى ليفي شتراوس بأنَّ المعاني متحولة وغير ثابتة؛ لأنَّ المعاني مرتبطة بالعقول، والعقول متغيرة من عصر إلى عصر، ومن طبقة اجتماعيَّة إلى أُخرى، ومن مستوٍ ثقافي إلى آخر، ومن مذهب إلى مذهب، ومن معتقد ديني إلى آخر.
إنَّ العمل الأدبي عملٌ موحد، يتجاذبه موضوع واحد وعاطفة واحدة، وما القصيدة العربيَّة القديمة ببدعة بين الأعمال الفنيَّة، حيث إنَّها لا بد وأن تكون قد انبثقت من عاطفة واحدة، بعثها همٌّ أرَّق الشَّاعر وأسهره؛ يرقب الليل بنجم طلع ونجم أفل، ويشيم البروق حتى استدر ذلك منه القول، فبدأ يرسم حياة جديدة مثاليَّة خاليَّة من الهموم، وقد حقق رغباته التي حُرِمَ منها وسدَّد النَّقصَّ في واقعه من خلال فنه، يحوك قصيدته كما يحوك الحائك بساطه، يلوِّنه بالرُّقم ويفوفه بالوشي، ويدبجه بكلِّ منظر بديع جميل، فخيط الحائك واحد من أول البساط إلى آخره، إلاَّ أنَّه يسدِّيه بالألوان والرسوم المتناسقة، وكذلك كان الشَّاعر الجاهلي يحوك قصيدته مشدودة يخيط رشق، يشدُّ أجزاءها من لوحة الافتتاح إلى اللوحة الأخيرة، ولا يستطيع الشَّاعر أنْ يفعل غير ذلك في وقت النظم، وغالبًا ما كان وقت النظم هو وقت الإنشاد في أغلب قصائد الشِّعر الجاهلي الشفوي، وإنْ بدأت القصيدة بلوحة غزل أو نسيب أو وقوف على الأطلال أو ذكر للشيب والهرم، وانتقلت انتقالاً مفاجئًا وسريعًا إلى لوحة أُخرى وموضوع آخر، كلُّ هذا يمور فقط على سطح العمل الأدبي، وتكمن تحت الألفاظ عاطفة واحدة وموضوع واحد وقصد واحد، يجلوه التأويل، فمن أجل ذلك أضحى التأويل ضرورة أدبيَّة نقديَّة وقوميَّة وتاريخيَّة.
وبمقدور التأويل أن يفعل كلَّ ذلك، وأن يُعِيدَ تكوين حقائق تاريخيَّة كبرى عن طريق العودة إلى قراءة النُّصوص القديمة، وما كانت تخبِّئه من مختلف ألوان الحقائق والعلامات، وأنْ يُوجِدَ قراءة موضوعيَّة بعيدة عن التكرار والنَّقل الساذج والسطحيَّة يكون للقارئ دور في إنتاج النَّصِّ ضمن عمليَّة تفاعلٍ مبدع.
تغريد
اكتب تعليقك