بناء الشعر على السرد في ديوان أنشودة المطرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-08-19 03:23:48

أ.د. سمر الديوب

جامعة البعث- حمص- سوريا

يقوم هذا البحث على فرضية اعتماد البنية السردية في بناء شعري، قوامه الإيقاع والتشبيه والتمثيل، ويهدف إلى البحث في البنية السردية في الخطاب الشعري لدى السياب من خلال عناصر السرد والحكي، ويثير جملة أسئلة منها: ما الأدوات التي تستعيرها القصيدة من النثر، لكي تحقق سرديتها؟ كيف يطغى السرد على النص الشعري، ويظل مخلصًا لطبيعته الشعرية؟

ويُدرس - لتحقيق هذه الغاية- بناء الشعر على السرد في محورين:

- حدود السردي والشعري في ديوان أنشودة المطر.

- ركائز السرد في قصائد الديوان.

 

1 - السرد لغة واصطلاحًا

ورد لفظ السرد في المعاجم اللغوية بمعنى تقدمة شيء إلى شيء، تأتي به متسقًا بعضه في إثر بعض  وتشير اللفظة إلى تداخل الأشياء بعضها في إثر بعض1. فالسرد هو النسج، وهو ضم الأشياء بعضها في إثر بعض.

ويعد مصطلح علم السرد "Narratology " من المصطلحات التي دخلت دائرة النقد على يد الشكلانيين الروس، فقد حلل فلاديميير بروب تراكيب القصص إلى أجزاء ووظائف، والوظيفة لديه عمل الشخصية2 .

أما تودوروف "Todorov" فقد وضع مصطلح علم السرد، وعرّفه بعلم القصة. وقد خرج السرد من دائرة الأدب، فتحدث النقاد عن وظيفة السرد في كتابة التاريخ والصحافة والسياسة.. ويمكن أن نرى أن السرد موجود في أي أثر أدبي، أو غير أدبي3 .

إن كل محكي يحمل طابعًا سرديًّا، وتبقى لغة النثر لغة تواصل، ونقل فكر، وطريقة في التعبير عن الواقع؛ لذا يرى النقاد أنها تجد تسويغًا خارجها في حين أن اللغة الشعرية تجد تسويغها في ذاتها، فلم تعد وسيلة تواصل بل هي مستقلة، أو ذاتية الغائية4 .

يتعين على ما سبق أن الخطاب الشعري خطاب ترتفع فيه نبرة الغنائية، خطاب غائيته قائمة في ذاته، له تتابع زمني خاص، والخطاب النثري مضاد له 5.

ويرى جاكبسون أن ما يحدد الشعر الوظيفة الشعرية6  وهي وظيفة تثير الاهتمام بشكل الرسالة نفسه، لكن ديوان أنشودة المطر يثبت خلاف ما جاء به جاكبسون7  حول الوظيفة الإحالية، فقد رأى أن مبدأ المشابهة يحكم الشعر، ومبدأ المجاورة يحكم النثر، فلا يحيل الشعر على نفسه بصفة مطلقة. إن مبدأ المشابهة هو ما يحكم الشعر، ومبدأ المجاورة ما يحكم النثر لكننا نجد أن القصيدة السيابية تميل إلى مبدأ المجاورة؛ لذا نتفق مع ما جاء به جان إيف تادييه حين رأى أن كل قصيدة هي في مستوى من المستويات محكي في الأصل، ولكنها متدرجة في نسبة الحكي فيها8  فكل نص شعري حكاية في مستوى ما، ويأخذ الكلام الشعري سياقًا سرديًّا ما، ولا يستطيع أن يتخلى عن سرديته9. 

يتعين على ما سبق أن السردية موجودة في الخطابين الشعري والنثري، الأدبي وغير الأدبي، فوجودها في النثر وجود غير قار، ولا توجد قصيدة خالية من السرد، والمقصود بالشعر المسرود أن الصورة الكلية تكون مبنية على حكاية أحداث متسلسلة، وتتابع معقول في الأحداث، أو في طريقة تقديمها.

وإذا كنا قد بنينا البحث على فرضية بناء الشعر على السرد في ديوان أنشودة المطر لبدر شاكر السياب، فكيف تجلى الشعر مسرودًا في هذه القصيدة؟ وما مستويات السرد، وما أساليب البناء السردي؟ وكيف تم التفاعل بين الشعر والسرد.

  وإذا كانت القصيدة قد بنيت بناء سرديًّا، فما الركائز التي نهض السرد عليها، وأسّس سرديته على أساسها؟

2 - ركائز السرد في الديوان

نهضت القصيدة على جملة ركائز جعلت الشعر مسرودًا، والسرد مراوغًا، وسنتناول منها ركيزتين:

1 - 2 - الإيقاع  السردي

  إن حركة الشعر الحر امتداد طبيعي لحركة التجديد، اكتفت من العروض الخليلي بوحدة التفعيلة. ويمنح هذا الأمر الشاعر إمكان التنويع في عدد التفعيلات بما يناسب تجربته، وموقفه الفكري، ودفقته العاطفية. وقد تعلق السياب بالبحور الشعرية تعلقًا يكشف ولعه بالإيقاع والموسيقى الشعرية10 .

وقد وضعت نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر شروطًا للشعر الحر، حصرت بها العملية الإبداعية في الأبحر الصافية، وبالسريع والوافر من الأبحر الممزوجة، فخرجت من دائرة مغلقة لترسم دائرة مغلقة أخرى، لكن الشعراء لم يلتزموا بشروطها، وساروا في طريق الإبداع والتجريب. ويعد السياب أبرزهم، فقد جرب كتابة القصيدة ذات الأبحر المتعددة باستعمال الوافر والرجز، والسريع والرجز. يقول في قصيدة مدينة السندباد11  مزاوجًا بين المتقارب والرجز:

أهذا أدونيس هذا الخواء؟

وهذا الشحوبُ وهذا الجفاف؟

أهذا أدونيس؟ أين الضياء؟

وأين القطاف؟ "متقارب"

بقبضٍ تهدهدُ

ومنجلٍ لا يحصدُ

سوى العظام والدم

اليومَ؟ والغدُ

متى سيولدُ

متى سنولد؟  "رجز"

  وتعد هذه الطريقة كسرًا للنظام الحسابي من الأعاريض والأضرب، فقد جمع بين المتقارب والرجز، ويعد الرجز بحرًا شعريًّا يجنح بالنص إلى السردية، فهو البحر الوحيد الذي يشاكل النثر في شكله ويفارق الشعر، كما أن إيقاعه السريع يناسب سرد الفكرة، وكذلك المتقارب. وقد أجاز السياب إدخال الزحافات والعلل على التفعيلات أينما كان موقع التفعيلة من السطر الشعري. ويؤدي هذا إلى شيء من السردية. 

  ولكي يزيد من حضور السرد في شعره لجأ إلى تناوب الشعر العمودي مع الشعر الحر. فيبدأ قصيدة "من رؤيا فوكاي" بمقطع من الشعر الحر يحكي فيه إحدى الأساطير الصينية مستخدمًا موسيقى الرجز، وقد بدا أنه تكلف القافية لكي يشد النص إلى دائرة الشعر12:

هياي.. كونغاي.. كونغاي..

ما زال ناقوسُ أبيكِ يقلقُ المساء

بأفجع الرثاء

هياي.. كونغاي.. كونغاي..

فيفزعُ الصغارُ في الدروب

وتخفق القلوب

وتغلق الدورُ ببكّين وشننغهاي

من رجع كونغاي.. كونغاي! وفي المقطع الثاني ينتقل إلى بحر البسيط13 :

تلك الرواسي كم انحطَّ النهارُ على

                        أقصى ذراها وكم مرت بها الظُّلَمُ

فما  فرحن  بآلافِ  الشموسِ  ولا

                        من ألفِ  نجــمٍ  تردّى  مـسّـهـا  ألمُ

صماءُ بكماءُ لم تأخذ ولا وُهِبَت

                            ولا  تــــرصّــدهـــــا  مـــوتٌ  ولا  هــــرمُ

  ويؤكد هذا الانتقال تسمية هذا الشعر بالشعر الحر، فالحرية تنويع البحور داخل القصيدة الواحدة، والاعتماد على التفعيلة مع حرية القافية. وفي هذه القفزات بين البحور يجنح الشعر نحو السردية، فالرجز بحر سردي، والبسيط بتفعيلاته العديدة يساعد الشاعر على بسط وجهة نظره، فيوجد فضاء نصيًّا لعرض أفكاره، ويجنح بالنص نحو السردية مع احتفاظ النص بالوزن والقافية اللذين يشدانه إلى الشعر.

  وثمة علاقة بين موسيقى القصيدة وموضوعها والانفعال النفسي المترتب على ذلك. فقد لجأ قصدًا إلى البحر الكامل في قصائده، التي اعتمدت على السرد. والكامل من أغنى بحور الشعر العربي قوة، وأكثرها إضربًا، وأغلبها حركة14 ففي قصيدة "المومس العمياء" يسرد الماضي البعيد، ماضي الطفولة والطهر والنقاء قبل احتراف مهنة البغاء، ثم ينتقل الراوي إلى المقطع الثاني حين يسترجع الماضي الأليم ليسرد حادثة قتل الأب التي تعد سببًا مباشرًا لانحراف ابنته، فأصبحت مومسًا عمياء. وهو يقول: إنها ستجوع بعد أن عميت لكنها لن تموت، بل ستعيش حتى تثأر. إنه يقارن بين المومس التي تستباح، وبلده الذي يستبيحه المحتل الأجنبي، فيجنح إلى السرد مع تفعيلة الكامل15. 

وتتسم قصائد الديوان بوفرة التدوير. وإذا كان التدوير قديمًا ظاهرة تربط طرفي البيت الشعري فيغدو شبيهًا بالنص النثري، فإن التدوير هنا يقع على التفعيلة لا على الكلمة، فتغدو موسيقى القصيدة دورة واحدة لا يقف القارئ إلى عند انتهائها أو انتهاء مقاطعها، فتُلغى الأشطر، أو الأبيات، ويتشاكل النص الشعري مع النص السردي. يقول في قصيدة جيكور والمدينة 16:

شرايينُ في كلّ دارٍ وسجنٍ ومقهى

وسجنٍ وبارٍ وفي كلِّ ملهى

وفي كلّ مستشفيات المجانين

في كل مبغى لعشتار

يُطلِعنَ أزهارهنَّ الهجينة

  يأتي جزء من التفعيلة في آخر السطر الثالث وبداية السطر الرابع. فقد نُظمت القصيدة على بحر المتقارب "فعولن" وقد أتت تفعيلة السطر الثالث الأخيرة مدورة مع بداية تفعيلة السطر الرابع. فالتدوير ظاهرة إيقاعية في جوهرها، فيفتقر الشطر إلى استقلاله العروضي، وهذه خصيصة للشعر الحر. فلا توجد وقفة في التدوير، ويؤكد التدوير تعالق الأبيات الشعرية، ويعني تشابك المشاعر واتصالها. يعلي من درجة انفعال الشاعر/السارد، ويزيد درجة الشعور بالعلاقة بين الأبيات المدورة والفكرة التي يتحدث عنها، وتغدو وظيفة التدوير الربط العضوي بين الإيقاع وعاطفة الشاعر، فيوجِد الشاعر/السارد حالاً شعورية ممتدة تتدفق فيها المشاعر والانفعالات بما يتناسب مع طبيعة التجربة الشعرية وضروراتها الفنية17  فيغدو التدوير متعدد الوظائف.

ويتضافر التدوير مع البعد الدرامي في القصيدة مما شكل نزوعًا نحو السردية على حساب الشعرية.

2-2 البعد الدرامي18 

  يسرد الشاعر في قصيدة أنشودة المطر الهم الشخصي متداخلاً بالهم الوطني، والخاص متداخلاً بالعام، ويتحدث عن الشعور بالغربة، ودمار الوطن، وارتفاع وتيرة الانتماء السياسي والنضال الوطني.

  وتتشكل درامية أنشودة المطر من التلاحم بين الأنا الموجوعة سياسيًّا واجتماعيًّا والـ "نحن" المكافحة، فتأخذ الأنا قوتها من الـ "نحن"، ويعلو صوت الـ "نحن" بصمود الأنا.

  ويتسم سرده الشعري بالإخبار، ويصنع موضوع السرد المتوغل في الإخبار الحدث الدرامي19  فالحدث أساس الفعل السردي، وحين يتوغل الشاعر في السرد يقترب من الدرامية والحكائية، فقد روى بصوته حدث هطول المطر بغزارة، والليل أسود فاحم، وهو جالس يتأمل الشباك الذي تلطمه قطرات المطر، فيسبح مع الذكريات، فبدأ بالجانب الفردي، وسرد أحداثاً كانت تنقطع مع قطرتي مطر، ثم لجأ إلى تشكيل خطابه بأدوات الاستفهام والوصف والتصوير20 :

أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريبُ إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟

بلا انتهاء- كالدم المراق، كالجياع

كالحب، كالأطفال، كالموتى- هو المطر

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروق

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار

كأنها تهمُّ بالشروق

فيسحب الليلُ عليها من دمٍ دثار

أصيحُ بالخليج "يا خليج

يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!"

فيرجع الصدى

كأنه النشيج

"ياخليج

يا واهب المحار والردى"

 ويظل التكرار المقصود لكلمة مطر المحرك للحظات الدرامية وصولاً إلى الغربة الإيديولوجية، ثم يصور تأزم الحال، وهنا تبلغ الدرامية ذروتها، فالعراق يزخر بالرعود، إنها – في هذه الحال- ذات هيكل هرمي، فما ذكره من حزن، وألم يوصل إلى قمة الهرم، فثمة تفاؤل؛ لأن مع كل قطرة من المطر، صفراء، أو حمراء من أجنة الزهر سيعشب العراق بالمطر. 

  ويعدُّ الصراع عصب الدراما وأساسها. وتقوم القصيدة على أساس الحركة، وترفض السكون، والحركة عماد الدراما، وهي حركة تقود إلى العمل. فثمة حركة فكرية أدت إلى حركة على أرض الواقع، وتصادم وصراع. وتوجد الدراما من التقابل بين طرفين، وتتضمن رؤية متجددة لسلوك الإنسان ومواقفه.

  وتظهر القصيدة صراعًا، ومثالية، وتعبر عن الذاتين الفردية والجمعية، وعن قلق الذات الفردية، فلا يعبر الشاعر عن مشكلة خاصة بقدر ما يعبر عن مشكلة مجتمع بأكمله، فتشاكلت القصيدة مع النص النثري، وغدت سيرة خاصة بتاريخ العراق، وحاضره، ومستقبله، ويتجسد البعد الدرامي في الذروة/الثورة التي سبقتها لحظات تأمل وسكون، فتقوي ثورة الجياع العراقيين درامية القصيدة التي ترتقي من التعبير الخاص إلى التعبير الأعم، فكلما ازداد المستوى الدرامي اقتربنا من مكونات الفضاء السردي.

  يقدم النص – بناء على ما تقدم- حدثًا دراميًّا منضويًا على حركة داخلية21 ويعني وجود الحدث الدرامي وجود تفكير درامي، فكل فكرة تقابلها فكرة، ولكل عاطفة عاطفة مضادة. إنه صراع بين قوتين يؤكد حقيقة أن إرادة الشعب لا تقهر.

  والتفكير الدرامي تفكير مجسم لا تجريدي، فقد قدم صورة رفض الشعب وثورته بالرعود في العراق، وجعل الطبيعة مشاركة له في مشاعره المتأججة، فللطبيعة في العراق موقف يخالف موقف من أراد له السوء22 :

أكاد أسمع النخيل يشرب المطر

وأسمع القرى تئنُّ والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع

عواصفَ الخليج والرعود منشدين

مطر.. مطر.. مطر

    ويغذي السرد درامية النص حين يرفده بخيوط درامية تغذي الصراع. فثمة مفارقة درامية23  تقوم على التقابل بين الحزن الذي يبعثه المطر: "أتعلمين أي حزن يبعث المطر" فالمطر كالدم المراق، والمطر واهب الحياة. إنه يشعر بالوضعية المتردية التي وصل إليها مجتمعه، فقد سبب المطر آلامًا كثيرة، وترك ضحايا وفقراء، ويتامى، لكن ثمة مفارقة فالمطر هو الواهب، والدافع إلى العمل "أكاد أسمع النخيل يشرب المطر"  ثم تتكرر المفارقة، فالمطر لديه مصدر الاعتلال24 :

وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع

ثم اعتللنا- خوف أن نلام- بالمطر

مطر.. مطر.. مطر

  فالمطر سيستفيد منه غرباء، وهو يقصد ظلم المعتدين، واستبدادهم، فالجوع حال دائمة، والخير حال دائمة، فكيف يجتمع الجوع مع دوام الخير؟ فالأيادي الغاشمة تمتص كل خير.

إن الدراما فعل، والفعل حركة، ويغدو الشاعر فاعلاً في تصحيح حركة المجتمع؛ ليعيد تشكيله على وفق رؤياه. فقد ظهر المطر في النهاية أمل الإنسان، وابتسامته :

في كل قطرة من المطر

حمراء أو صفراء من أجنّة الزهَر

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكل قطرة تراق من دم العبيد

فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

أو حُلمةٌ تورّدت على فم الوليد

في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة

ويهطل المطر

  كما أن الإيقاع الذي بنيت القصيدة عليه إيقاع درامي، فقد نظمت القصيدة على تفعيلة مستفعلن وجوازاتها، ففيها خفة واضطراب، تتسم بالحركة؛ لذا تتفق وروح الدراما؛ لوجود الحركة التي تؤدي إلى الصراع. ويُخرِج الإيقاع الدرامي النص من الغنائية إلى الموضوعية. وكثيرًا ما عدل عن تفعيلة مستفعلن إلى مُتَفعلن، فغلّب الحركة على السكون، وكانت الحركة مضاعفة، من جهة مع بحر الرجز، ومن جهة أخرى مع حذف الساكن في التفعيلة. والإيقاع الدرامي مجموعة من المواقف النفسية التي يتكون منها النص، يؤدي إلى خروج الشاعر من صوته الغنائي إلى الفضاء الموضوعي، فينفتح الإيقاع الدرامي على السرد والحوار.

3 - خاتمة

انطلق البحث من فكرة أن فعل السرد مادة للشعر والنثر على حد سواء، وأن ديوان أنشودة المطر قد بني بناء سرديًّا، وقد حاولنا تعقب أثر السرد في الخطاب الشعري بهدف تأكيد الفكرة التي بني البحث عليها من جهة، وتأكيد فكرة أن السرد مكون أساس في الشعر من جهة أخرى. ويمكن – بناء على ما سبق- إثبات النتائج الآتية:

- قدم بدر شاكر السياب نصًّا شعريًّا مفارقًا النص الشعري العربي مع أنه ولد من رحمه.

- تذهب القصيدة السيابية في مستوياتها السردية الحكائية مذاهب متعددة، منها: الأسطرة والترميز، والبناء الدرامي، وعرض وجهة النظر، والإيقاع السردي.

- تغلب النزعة الدرامية على ديوان أنشودة المطر، ويمكن أن يكون السرد غنائيًّا؛ إذ يحوي الشعر بنية سردية تتضمن حكيًا وتقنيات سردية.

- القصيدة شعر سردي عبر عن علاقة الشاعر بالعالم المحيط به، وهو سرد ذاتي يقدم الحكاية من وجهة نظر خاصة، والبنية السردية انعكاس لوجهة نظر الشاعر.

- لا يقتصر السرد على الإخبار بل يعنى بالتعليل الإخباري في داخل الشاعر، فتظهر وظائف السرد التعبيرية والانفعالية والتنبيهية والإفهامية.

- إن ثمة اقترابًا من الرمز الشعري الملحمي، والبعد السردي الحكائي في الوقت نفسه. وهذا ما يجعل القصيدة السيّابية في منطقة سحرية خاصة، لا تشبه غيرها من القصائد.

 

الهوامش:

1  - ابن منظور: 2003، لسان العرب، دار صادر، بيروت. مادة سرد، وقد ورد اللفظ في الاشتقاق: ابن دريد، 1991، تحقيق: عبدالسلام هارون، ط1، دار الجيل، بيروت، ج1/143 السرد ضمك الشيء بعضه إلى بعض، نحو النظم وما أشبهه، ومنه قولهم سرد الدرع؛ أي ضم حديد بعضها إلى بعض.

2 - فلاديميير بروب: 1982، نظرية المنهج الشكلي، الشكلانيون الروس، ط1، تحقيق: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ص65

3  - يرى يان مانغريد أن السرد في كل مكان حولنا؛ لأن بناء التمثلات السردية هو أحد الوسائل التي نعطي بها شكلاً ومعنى للواقع الذي ندركه. السرد بعبارة أخرى طريقة أساسية للتفكير، أو أداة للمعرفة. انظر: 2009، علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد، ترجمة أماني أبو رحمة، مكتبة الجيل العربي، الموصل، العراق، ص6-7

4  - يلخص تودوروف موقف الشكلانيين الروس في قوله: تحقق اللغة الشعرية وظيفتها الغائية – أي غياب أي وظيفة خارجية- بكونها أكثر نسقية من اللغة العملية، أو اليومية. إن العمل الشعري هو خطاب زائد الانبناء، حيث يستقيم كل شيء فيه بفضل ذلك ننظر إليه بذاته، أي من كونه لا يحيل على مجال آخر. انظر: تودوروف: 1986، نقد النقد، ط2، ترجمة سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ص26

5 - يرى صاحبا نظرية الأدب أن الوظيفة الأساسية للشعر أن يكون أمينًا لطبيعته. انظر: رينيه ويليك وأوستن وارين: 1987، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص38

6  -Roman Jakobson: essais de linguistiqu générale. Ed. De minut. Paris 1963. P. 61- 67

7  -قضايا الشعرية، ص11

8 -       Le récit  poétique. P U F, 1978, p:6     : Jean Yves Tadié                                                                                                                                   

9 - يرى د. محمد مفتاح أن كل نص شعري حكاية؛ أي رسالة تحكي صيرورة ذات، ورأى أن لعوامل غريماس دورًا مهمًّا في تشكيل بنية النص الشعري، لكنه لم يهتم بالسرد بوصفه بنية قائمة في ذاتها، بل ربطه بالبنية اللغوية في النص الشعري، فقد ركز على علاقات غريماس الثلاث: علاقة التواصل، وعلاقة الرغبة، وعلاقة الصراع. انظر: تحليل الخطاب الشعري- إستراتيجية التناص، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، ص149

وتحدث د. كمال أبو ديب عن مسألة السرد في الشعر، ورأى أن القصيدة الجاهلية تحمل زمنين: زمن الفعل وزمن السرد الذي يوازي زمن المتن الحكائي لقيام زمن السرد مقام المبنى الحكائي. لكنه لم يجمع عناصر السرد المنتشرة في القصيدة الجاهلية في بنية واحدة. انظر: 1986، الرؤى المقنعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص606

10 - الدراسات التي تناولت شعر السياب عديدة، وتركز معظمها حول الإيقاع الشعري لديه، ونذكر على سبيل المثال:

سامي سويدان: 2001، بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ط1، دار الآداب، بيروت

إحسان عباس: 1978، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ط4، دار الثقافة، بيروت

11 - ديوان أنشودة المطر، ص135-136

12 -  ديوان أنشودة المطر، ص39 وفوكاي كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما، جنَّ من هول ما شاهده غداة ضربت بالقنبلة الذرية.

13 -  الديوان، ص42

14 -  انظر: إياد الباوي: 2003، التسهيل في علمي الخليل، ط1، مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، ص48 وقد أشار حازم القرطاجني إلى أن ثمة انسجامًا بين البحر والموضوع بقوله: "ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة، وما يُقصَد به الصغار والتحقير وجب أن تُحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان" 13 - انظر: حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، ص266

15 -   الديوان، ص173

16 - الديوان، ص95

17 - انظر للتوسع: محمد صابر عبيد: 2001، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص161

18  - الدراما حركة فكرية، تخلَق من الصراع والتضاد، وهي "ثنائية وليست أحادية؛ فالدراما تقابل بين موقفين يتولد عنه موقف جديد، الدراما رؤية متجددة ومتنوعة لسلوك الإنسان ومواقفه، الدراما هي الحركة، ولا تتفق مع السكون، وهي التنوع، لا الرتابة. انظر: د. محمد حمدي إبراهيم، نظرية الدراما الإغريقية، ص4 ونستطيع القول كلما ابتعد الشاعر عن الغنائية اقترب من الدرامية التي تبدأ بالخروج من إطار الذات لتتحاور مع الواقع، وترتقي بالنص من الذاتية إلى التعبير الأعم عن الظاهرة الاجتماعية.

19  - يرى جيرار جينيت "G. Genette" أن المادة الأساسية لأنواع الشعر الأخرى هي الأحداث. مدخل إلى جامع النص، ترجمة عبد العزيز شبيل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999، ص31

 20 -  الديوان، ص144

 21 - عبد العزيز حمودة، البناء الدرامي، ص45. انظر أيضًا معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، ص99 "الحدث الدرامي أية واقعة تحدثها الشخصيات في حيزي الزمان والمكان، وتسهم في تشكيل الحركة الدرامية والفعل المسرحي."

  الديوان، ص145

22 - المفارقة الدرامية "وسيلة لفظية أو فعلية يعبر بها الكاتب عن معنى آخر مناقض للمعنى الظاهري الذي تفهمه بعض الشخصيات. ومن هنا قد يتشابك المدلول مع مدلول التورية في علم البديع، ولكنهما لا يتطابقان. والمفارقة الدرامية Dramatic Irony  موقف في مسرحية يشترك فيه المؤلف مع جمهوره في معرفة ما تجهله شخصية ما من حقيقة، وتتصرف بطريقة لا تتفق تماماً مع الظروف القائمة أو تتوقع من القدر خلاف ما يخبئه في طياته، أو نقول شيئاً نتوقع منه أن تكون فيه النتيجة الحقيقية ولكن يحدث أن تأتي النتيجة عكسية تمامًا" انظر معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، ص248 ونرى أن المعنى الظاهري ليس مناقضًا للمعنى الخفي بل هو مضاد له. وفرق كبير بين التناقض والتضاد.

23 - الديوان، ص146

24 -  الديوان، ص150

 

المصادر والمراجع:

- حمادة، د. إبراهيم: د. ت، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار المعارف، القاهرة.

- إبراهيم، د. محمد حمدي: 1994، نظرية الدراما الإغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، مكتبة لبنان ناشرون.

- أبو ديب، د.كمال: 1986، الرؤى المقنعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

- الباوي، إياد: 2003، التسهيل في علمي الخليل، ط1، مركز الكتاب الأكاديمي، عمان.

- بروب، فلاديميير: 1982، نظرية المنهج الشكلي، الشكلانيون الروس، ط1، تحقيق: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت.

- بوتور، ميشال: 1982، بحوث في الرواية الجديدة، ط1، تر: فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، سلسلة زدني علمًا.

- تودوروف: 1986، نقد النقد، ط2، ترجمة سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد.

- جينيت، جيرار: 1999، مدخل إلى جامع النص، ترجمة عبد العزيز شبيل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة

- حمودة، د. عبد العزيز: 1998، البناء الدرامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

-سويدان، سامي: 2001، بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ط1، دار الآداب، بيروت.

-عباس، إحسان: 1978، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ط4، دار الثقافة، بيروت.

- عبيد، د. محمد صابر: 2001، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.

- لحميداني، حميد: 1997، الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم "العصر الجاهلي"، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

- مانغريد، يان: 2009، علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد، ترجمة أماني أبو رحمة، مكتبة الجيل العربي، الموصل، العراق.

- مفتاح، محمد: 1985، تحليل الخطاب الشعري- إستراتيجية التناص، ط1، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء.

- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: 1990، لسان العرب، ط1، دار صادر، بيروت.

- النصري، فتحي: 1006، السردي في الشعر العربي: في شعرية القصيدة السردية، الشركة التونسية للنشر، تونس.

- ويليك، رينيه، ووارين أوستن: 1987، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

- المراجع الأجنبية

Roman Jakobson: essais de linguistiqu générale. Ed. De minut. Paris 1963

       Le récit  poétique. P U F, 1978       : Jean Yves Tadié                                                                                                                                    


عدد القراء: 12234

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة غيث من سوريا
    بتاريخ 2016-08-19 19:49:39

    دراسة قيمة وعميقة وجديدة أفدت منها شخصيا شكرا لكم وللدكتورة الباحثة

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-