في الإصلاح السياسي والدينيالباب: مقالات الكتاب
ثابت الأحمدي الرياض |
منذ غابر الزمن ومسألة الإصلاح السياسي والديني محل جدل واهتمام النخب الاجتماعية والثقافية، بصرف النظر عن الأولوية التي يراها البعض لهذا الجانب أو لذاك. وفي تقديري فإن عملية الإصلاح الديني والثقافي في أي مجتمع تأتي من حيث الأهمية قبل عملية الإصلاح السياسي، وأعتقد أن هذا هو رأي جمال الدين الأفغاني المؤسس الأول للحركات الإصلاحية في التاريخ الحديث؛ وهو عكس ما ارتآه تلميذه محمد عبده الذي ركز على التربية أولاً بصورة أكبر، ثم السياسة ثانية، متأثرًا ربما برفاعة الطهطاوي أحد أعلام التجديد في هذا المنحى؛ ذلك لأن السياسة والمشهد السياسي لأي بلد من البلدان هو في النهاية انعكاس مباشر للمشهد الثقافي فيه، وهو الصورة المعبرة عنه. وقد أثبتت الشواهد التاريخية أنه لا ثبات ولا استقرار لأي نظام سياسي إلا بولاء المثقفين ورجالات النخبة أنفسهم؛ ففي السابق كان الكهنة أو رجالات الدين ـ وهم مثقفو عصورهم ـ يحوطون السلطة إحاطة السوار بالمعصم، وفي العصر الحديث أضيف إليهم بعض المثقفين، أدباء وشعراء وإعلاميين، وغيرهم؛ ولذا عادة ما تذهب كثير من السلطات ـ خاصة في البلدان غير الديمقراطية ـ إلى شراء ولاءات المثقفين والكتاب وصناع الرأي، ضمانًا لبقاء سلطاتها وديمومتها؛ خاصة في أوقات استقرارها السياسي الذي يخلو من العنف في غالبه؛ إذ يكون العنف في فترتي البداية والنهاية، كما يشير إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته: أن الدولة تبدأ بالسيف وتنتهي بالسيف!
قبل أن تصل أوربا إلى هذا المستوى من الرشد السياسي والنضج الحضاري كانت الثورة الثقافية أولاً قبل الثورة الصناعية، وقبل الإصلاح السياسي، التي أشعل شرارتها الأولى الراهب الألماني "مارتن لوثر كنج" 10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546م، بالتمرد على الكنيسة، معلنًا مصفوفة الإصلاحات الكنسية الجديدة، في خمسة وتسعين نقطة أو بندًا، بوصفها مبادئ عامة للإصلاح الديني، داعيًا إلى فهم الكتاب المقدس من الكتاب المقدس نفسه، لا عن طريق الكهنة أو الإكليروس "رجال الدين" بوصفهم واسطة بين الناس وبين الله، رافضًا الاتجار بالصكوك الدينية، من قبل رجال الدين الذين مارسوا أبشع أنواع الاستبداد الديني في أرذل تحالف بينهم وبين النبلاء من الحكام، لم يعرف له التاريخ مثيلاً، على الرغم من كل الاعتراضات التي جُوبه بها وتبنتها الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وقد تتالت المدارس الإصلاحية الدينية عقب هذه الصيحة الأولية مباشرة في أنحاء أوربا؛ حيث كانت الكالفينية "نسبة إلى جون كالفن" أولاً في فرنسا، التي أضافت المسألة القدرية إلى ذات الإصلاحات السابقة، وأيضًا حق تنظيم كل كنيسة لنفسها، بعيدًا عن سلطة المركز المقدس وعن طريق الانتخاب. وإلى جانب الكالفينية الفرنسية كانت أيضًا المدرسة الإنجليكانية البريطانية، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها عن المدرستين الأوليين من حيث ارتباطها بالسلطة السياسية؛ إذ بقي الملك على رأس الكنيسة بدلاً عن البابا.
هذه الثورة الثقافية/الدينية التي أشعل فتيلها مارتن لوثر كينج كانت نقطة البداية لتوجه جديد في السياسة والاقتصاد وكافة مناحي الحياة العامة، بما في ذلك المنحى المفاهيمي والسلوكي؛ حيث بدأت تنتشر مفاهيم أخلاقية جديدة أفضت بعد ذلك إلى ما أسموه "نظرية الأخلاق" التي تحترم الإنسان لإنسانيته أولاً وآخرًا، بدلاً عن المعايير القديمة ومفاهيمها الكلاسيكية، وانتصر لهذا الاتجاه الإنساني كل أو أغلب فلاسفة تلك المرحلة فما تلاها، أمثال ديكارت وسبينوزا وجان جاك روسو وجون لوك وايمانويل كانط، وغيرهم. فكان الإنسان ـ فردًا أو في إطار الجماعة ـ قيمة تنتهي عندها كل القيم! فتخلصت أوربا من داء العنصرية المقيت، وتصالح الكل مع الدولة الوطنية التي أساسها الجغرافيا، ورابطها المصلحة، وقليلاً قليلاً وصلوا إلى ما أسماه جودت سعيد "الرشد السياسي" بتأسيس السوق الأوربية المشتركة على الرغم من حربين عالميين قامتا، وعلى الرغم من الدماء التي سالت أنهارًا، والجماجم التي تكومت تلالاً، لكن القضية تكمن في أن الإنسان كان واعيًا، ولم يتم تدمير العقل، تدمرت البنى والممتلكات ولم يتدمر العقل، بدليل أن ألمانيا التي خرجت مهزومة في الحرب العالمية الثانية ومدمرة بما نسبته 75% من بنيتها التحتية؛ لكنها شاركت بعد عشر سنوات في أكبر معرض عالمي لصناعة السيارات في العالم!
ووفقًا لما سبق فإننا في العالم الإسلامي والعربي منه على وجه التحديد في أمس حاجة لما يمكن أن نسميه "لوثرية إسلامية" لكن من هو لوثر العربي أو المسلم الذي سيكسر الصنم؟ وقبل هذا لماذا اللوثرية الإسلامية؟
أقول: بقدر ما يحفل الفقه الإسلامي ـ المرجعية التشريعية للمسلمين ـ بصور من التشريعات الحية والمسائل الاجتهادية في قضايا كثيرة، بقدر ما يحمل أيضًا من المسائل الأخرى التي جعلته يبدو كخرافة أمام تشريعات اليوم وقوانين العصر التي أعادت للإنسان اعتباره، فثمة "ألغام فقهية" هي إلى اليوم مرجعية تشريعية لدى بعض فقهاء العصر من البائعين نقدًا ودَينًا، وعليها مدارات تصرفاتهم وتبريرات مسلكياتهم، جلبت لنا الويلات والدمار في كل أنحاء الوطن العربي. والمتابع لأدبيات كل الجماعات السياسية المتناحرة ـ وكلها متناحرة تقريبًا ـ يجدها تنطلق من جذر واحد أو من منبع واحد، هو النص الديني الذي تفسره كل جماعة على هواها، أو من منطلق التفسيرات التاريخية لكل منهم، وربما وجدت بعض الجماعات في أدبيات الجماعة الأخرى المناوئة لها ما يفسر رؤيتها أو يقوي حجتها، كما هو الشأن لدى الشيعة القائلين بالبطنين في الولاية، إذ يحاجون أهل السنة بأن أدبياتهم الفقهية أيضًا تشترط القرشية في الولاية، وإذا كانت القُرشية شرطًا لديهم فمن باب أولى البطنين، مع أن الشرط لدى أهل السنة في أدبياتهم الفقهية شرط تفضيل لا شرط وجوب؛ على العكس مما هو عليه لدى الشيعة الاثناعشرية، إذ يعتبرونه شرط وجوب، وأصلاً من أصول العقائد..!
ومن جهة ثانية لم يمارس أي طاغية أي فساد سياسي إلا وكان له سند ديني من رجالات الدين أنفسهم، فعلى سبيل المثال حين ولي الخليفة الأموي يزيد بن عبدالملك الحكم شهد له أربعون فقيهًا أن ما على الخلفاء يوم القيامة حساب ولا عقاب! مضيفين حديثًا في الحال"من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار"!! ثم إن كل الرؤوس التي طارت بها السيوف مذاك وإلى اليوم كانت بفتاوى دينية ومثّل الفقيه ـ وهو المثقف بلغة اليوم ـ أداة قمع وقهر لأخيه الفقيه أو المناهض لفساد الخلفاء والولاة، ناهيك عن الجمهور العريض من الناس المناوئين أو الرافضين للاستبداد الذين أشارت إليهم بعض مراجع الفقه بمصطلحات من أمثال: الدهماء، والعامة، والغوغاء وجهلة القوم؛ إذ لم يكن للجمهور العريض ذلك الاحترام اللائق بهم كبشر، ومن هنا كان الاقتصار في القضايا السياسية المتصلة بهم على من أسموهم أهل الشوكة في المجتمع.
والواقع أن النصوص الدينية حمالة أوجه كما يُنسب للإمام علي، وهي أشبه ما تكون بالمادة الخام، ويستطيع الفقيه أو المؤول التلاعب بنصوصها وتفسيرها وفقًا لما يخدم ويقرر مصلحته أو مصلحة الطاغية، من هنا كانت الدعوة إلى مأسسة الفتوى الدينية أمرًا ذا أهمية حتى لا تصبح الفتوى لعبة بأيدي أشخاص يتلاعبون بها كما هو الشأن سابقًا ولاحقًا وحتى اليوم، وقد رأينا خلال الأحداث السابقة أن لكل فريق من الفرقاء المتصارعين سياسيا فقهاءه ورجال دينه، وكل فقيه يدعي الأحقية، مدعمًا إياها بنصوص الدين!
مهما قيل عن عظمة التشريع الإسلامي ـ وهو بحق كذلك ـ إلا أن كثيرًا من القوانين والتشريعات الحقوقية المعاصرة تنقصه اليوم، وأغلب تشريعاتنا اليوم مستمدة من الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان التي جاءت من أوربا، ومن الاتفاقيات والعهود الدولية كحقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الحيوان، وغيرها من التشريعات استوردناها من الغرب، ولا ضير في ذلك؛ لكن لماذا الاستيراد من أساسه ونحن ندعي أن عندنا الأفضل؟ وأين فقهاؤنا ومشرعونا وكتابنا من هذه الحقوق وغيرها؟! ثم أين هو الأفضل في هذا المجال تحديدًا؟ مع العلم أنه إن وجد نظريًّا فإنه على الصعيد العملي لا وجود له!
إن إعادة النظر في منظومة الخطاب الثقافي ـ ومنها الخطاب الديني اليوم ـ أمر من الأهمية بمكان، وهي القاعدة الأساس لانطلاقة جديدة في الشأن السياسي والاقتصادي، وفي كل مناحي الحياة؛ لأن مشكلتنا اليوم في العالم العربي لم تعد مشكلة بسيطة أو واحدة فحسب، بقدر ما أصبحت مشكلة مركبة.. أي جملة مشكلات في مشكلة واحدة، فهي ثقافية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، معرفية، في زمن يوصف بزمن المعرفة، وإن إعادة إنتاج خطاب ثقافي جديد هو البوابة الأولى لجملة الإصلاحات التي يتوخاها ويسعى إليها مواطن اليوم مهما عولنا على الخطاب السياسي أو حدقنا كثيرًا فيه.
يعاني عربي اليوم اغترابًا في هويته، وانقطاعًا مع حضارته، وهو انقطاع طويل كاد أن يفقد معه ذاته، ويصبح مسخًا تابعًا يقتل أخاه لا يدري لماذا قتله؟ بل لقد أصبح القتل اليوم حرفة لمن لا حرفة له، في صورة لم يشهد لها تاريخ العرب مثيلاً! لا مجال للتفكير ولا صوت للضمير، ولا حضور للمستقبل، وكل صراعاتنا جرجرة لأوهام الماضي الذي لا ينتج إلا مزيدًا من الصراع! فقضايا جوهرية وأساسية مثل التنمية.. المستقبل.. الحريات السياسية والمدنية.. حقوق الإنسان، مفردات غائبة عن ذهن مواطن اليوم، حلت محلها مفردات من قرون سحيقة ينوء بحملها الجميع بلا مبرر! وكل ذلك بسبب الأنظمة الشمولية التي جثمت على صدر هذه الأمة قرونًا، وبرر لها رجالات الدين ذلك أو على الأقل سكتوا عن مناوءتها. ونحن اليوم أمام تركة ثقيلة وتحدٍ كبير من النهوض الذي تفرضه المرحلة، خاصة بعد أن تململت هذه الأمة مؤخرًا بعد طول سبات وبدأت تفتح عينيها على مدارات الدهشة والإبداع، الذي وصل إليه العالم اليوم، وذلك لصناعة المواطن الصالح، ولتحقيق الشهود الحضاري، وكلاهما مما أناط بهما الله هذه الأمة.
إن تحرير الفكر من ربقة التقليد والجمود هو أول المسير، وإن صناعة التغيير مرهون برجالات التنوير، ولو استقرأنا تاريخ أوربا قبل أربعة قرون لهالنا تلك المشاهد المزرية التي كانت عليها، ولوجدنا أنها تغيرت بفعل كسر جمود الخطاب الكنسي وصناعة خطاب فلسفي تنويري، وبفعل تراكم كمّي أفضى إلى الوجود النوعي من خلال أشخاص قلائل أمثال جاليلو جاليلي وفولتير، وكوبرنيكس، وميكافللي، وجون لوك الذي أشعل أوربا بالدعوة إلى التسامح الديني، وأيضًا كانط ومونتسكيو وروسو، وغيرهم..
إن الإنسان الشرقي اليوم في أغلب أحواله لما يصل بعد إلى الحالة التي وصل إليها أبونا آدم ـ عليه السلام ـ من حيث الاكتفاء الذاتي المرتبط أيضًا باحتياجات العصر، على الرغم من التراكم المعرفي المهول منذ تلك اللحظة وإلى اليوم؛ فآدم ـ عليه السلام ـ تحقق له ما ذكره الله تعالى في كتابه، كما أشار إلى ذلك مالك بن نبي: (إن لك فيها ألا تجوع ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) وهي بمعيار اليوم: حق المأكل والمشرب والمسكن والملبس، المتسلسلة على هرم "ماسلو" بينما شرقي اليوم "الشقي" لا تزال أمنياته دون هذه الأساسيات! فمن أين تأتي المواطنة الصالحة؟ ومن أين يكتسب صفة الشهود الحضاري المنوطة به؟ بينما هي بالنسبة للإنسان الغربي أمر مفروغ منه في الغالب الأعم.
ظهرت المطبعة في أوربا وأحدثت هناك نقلة حضارية مهولة، ودخلت لدينا في الوطن العربي ولم تحدث نصف ذلك الأثر الذي أحدثته هناك، كما هو الشأن في بقية المخترعات العلمية الأخرى، والسبب يرجع إلى الفرق بين الإنسان الصانع للحضارة وبين المستورد لها!
المشكلة تكمن في العقل الغائب، والعقل الغائب مرهون حضوره بالخطاب اليقظ، والخطاب اليقظ من فعل رجل اللحظة الذي يقتنص الفرصة، وعادة لا تُبنى الدول إلا بعد أن تصل إلى مرحلة الحضيض لينشأ ما أسماه توينبي الاستجابة للتحدي، وحالنا اليوم في الحضيض غير أن رجل اللحظة لم يبد بعد، وقبله لا يزال الخطاب الثقافي أسير الماضي السحيق بعيدًا، هناك.. هناك..!
تغريد
التعليقات 1
المقال فيه قدر من الواقع، وفيه استقطاب لبعض الحوادث التي تجعل الفقهاء في محل التهمة، وهذا مسلك غير حميد، وله خلفياته الفكرية، وهو مجانب للصواب، فالفقهاء بالمعنى المصطلحي الحققيقي دائما ما يجددون أفكارهم، ويغيرون اجتهاداتهم، لكن ضمن قواعد منضبطة، قد تختلف تنزيلاتها، ويمنعون من لم يكن من أهل الصنعة من التعدي على هذا المقام، لأنه مقام لا يخوضه إلا الراسخون فيه، وما يجري الآن من انتقادات على الفقهاء هي ممن لا يتقنون من العلم إلا الشبهات، وقل من ينتقد وهو من أهل العلم، ومرحبا به عموما المقال طرق موضوعا مهما، لكنه يحتاج إلى وقفات مع كثير من أفكاره، لتقويمه وإثرائه، ولعل الأوقات تسنح فأتمكن من إعادة قراءة المقال، وكتابة مناقشة علمية عله. تحياتي للكاتب القدير
اكتب تعليقك