محطة ما (قصة قصيرة)الباب: نصوص

نشر بتاريخ: 2016-11-25 10:15:27

أمينة الزّاوي

تونس

محطة القطار مثل جسد منهك جاثم على قارعة الوقت. تتعاقب الأحداث بسرعة. يسطع الضوء ثمّ يموت تدريجيًّا بتواتر. تتسارع الحركات. يعلو الضجيج فجأة ثم سرعان ما يخمد مع بداية كلّ رحلة جديدة .

الحياة تشبه محطة القطار كثيرًا.

كنت وحيدًا في إحدى المحطات الغريبة. ربما لم أعد أذكر تحديدًا سبب وجودي هناك. سوف أعود إذن للحديث عن القطارات مجددًا. القطارات تحمل في جوفها الكثير من الحكايات، تعلن بدايات جديدة، وقد تكون سبيل الهروب في بعض النهايات أحيانًا ..

تلك المحطة لم تكن مهجورة كما قد يظن البعض. الوقت بعيد الفجر. ضوء خافت يصلبه عمود الكهرباء على الرصيف المبلل برذاذ المطر. لابدّ أن غيمة ما مرّت من هنا.

كنت أنفض رماد آخر سيجارة تبقت بحوزتي عن معطفي البالي حين ابتسمت لي فتاة. لم تكن تبدو جميلة تمامًا. مراهقة ترتدي ملابس رياضية. نثرت على وجهها بثور مثيرة للاشمئزاز. تعتمر قبعة صوفية سوداء، تسلل البعض من شعرها الطويل الأشعث خارجها أطرافه المبللة، وبقايا الكحل المنساب حول حدقتيها، أكدت لي مرور تلك الغيمة الماطرة منذ حين. أحمر الشفاه الفاقع اللون الذي كانت تضعه كان يبدو شاذًّا عن المشهد. كانت تسند ظهرها على الحائط. جسدها المكتنز محشور في معطف أخضر. أنا لا أحبّ غريبي الأطوار هواة الموسيقى الصاخبة ومتتبعي الموضة الصارخة. عبثًا حدجتها بنظرات حادة علّها تتوقف عن إرسال تلك الابتسامات الكريهة ونظرات الغزل المشفرة. لا شكّ أنها لم تكن البلهاء الوحيدة ضمن جميع المسافرين، الذين ينتظرون القطار في تلك الساعة، فلا ريب أن فتاة سوية المدارك لم تكن لتعجب برجل شاحب الحضور مثلي.

فجأة، رأيت شجرة وارفة أينعت على حافة الطريق .. تفرعت أغصانها حتى تداخل بعضها والتصقت بسور المحطة. بينما أطل غصن ما من الشباك ليحتل بذلك حيزًا من قاعة الانتظار.. لا بد أنّ مشغلي السابق كان ليقبل متثاقلاً ببطنه المنتفخ ووجهه المتجهم، ليجتهد بدوره في تشذيب ذلك الغصن وطرده. ما زال صدى صوته يتردد على مسامعي، وهو يردد جملاً طويلة مسترسلة من الكلام البذيء .. كان لا بد أن يتخلص منه بسرعة، مثلما قام بطردي من تلك المجلة المغمورة. منعني من مواصلة تحرير ركن "نوافذ على المجتمع"، لأنه لم يكن يريد أن تتسلل أفكار أمثالي من المجانين حسب تعبيره إلى شبابيك النقاد، لتقوم الرقابة بدورها بتهديده بإيقاف عمل المجلة .. مازلت أذكر جيدًا أنه طردني دون أن يمكنني من مستحقاتي فقط، لأنني تحدثت بإسهاب في مقالي الأخير عن إفرازات الثورة، وما نتج عنها من ظواهر اجتماعية دفينة طفحت على السطح، حتى ظنني ذلك المعتوه خطرًا محدقًا عبثًا حاول الحدّ منه، حتى تيقن أخيرًا أن عليه اجتثاث الجذور حين لا يجدي التقليم ..

احتل تفكيري حوار باطني مقيت.

فجأة، تسارعت حركات المسافرين. تفاقم صخبهم. أقبل القطار. رأيت صاحبة المعطف الأخضر يساعدها شاب ما، سرعان ما تبين لي أنه كان يقف خلفي، في حمل حقائبها الثقيلة. سوف تحظى برفقته طيلة ساعات الرحلة الطويلة.

لابدّ أنني سأفرح قريبًا، هذا ما فكرت فيه حين تذكرت ما قالته لي بائعة العلكة العجوز، وهي تدعو لي حين اشتريت الكثير من بضاعتها بما تبقى في حوزتي من مال فابتسمت ..

كان لا بد أن أحاسب نفسي. يجب ألاّ أضيع تذكرة القطار مجددًا، ثمّ أوهم نفسي في كلّ مرة أنه قد يذهب إلى وجهة لا أريدها.. صوت صافرة القطار يبتعد ببطء. يبتلعه الأفق البعيد. يمضي إلى وجهة لا أعلمها. لوحت بيدي عاليًا. ودعت ركابه بابتسامة مبهمة. مضيت أجر حقيبتي الصغيرة وجسدي الثقيل كتمثال حجري. دلفت إلى قاعة الاستقبال، ثمّ جلست بهدوء على أحد المقاعد الشاغرة لم يكن هناك مسافرون لأراقب حركاتهم وأصغي لصخب الأصوات التي يحدثونها.


عدد القراء: 4164

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-