غيرنيكا... تصوير أقوى من الرصاصالباب: فنون
عبدالإله بوبشير الجزائر |
تلك البلدة الصغيرة في إقليم الباسك الإسباني تعرّضت في عام 1937 من القرن الماضي لهجوم بالطائرات والقنابل على أيدي القوات التابعة لنظام "فرانكو" بمساعدة جنود المانيا النازية. وقد راح ضحيّتها أكثر من ألف وستمائة شخص.
الحادثة فجّرت حينها ردود فعل شديدة في العالم مستنكرة ومندّدة بما حدث، من خلال المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، وصلت أخبار المذبحة إلى باريس حيث كان يقيم الفنان الإسباني" بابلو بيكاسو".
بعد هذا الخبر الذي نزل كالصاعقة بدأ بيكاسو يفكّر في إنجاز عمل فني يجسّد فظائع الحرب الأهلية الإسبانية وما جرّته من موت ودمار، لكن حالة الاضطراب النفسي التي كان يعيشها نتيجة ذلك كانت تمنعه من تحقيق تلك الرغبة .
وقد وفرت له الحادثة فرصة مواتية لتحقيق ما كان قد فكّر فيه مرارًا، مع أنه كان يكره السياسة وينفر من فكرة توظيف الفن لأغراض سياسية، هي في النهاية تبقى مأساة إنسانية.
في تلك السنة أقيم معرض باريس الفني، وهو مناسبة أراد من خلالها منظمو المعرض الاحتفال بالفن الحديث، الذي يستخدم التكنولوجيا الحديثة، ويقدم رؤية متفائلة لعالم مختلف عن عالم الثلاثينيات الذي تخللته الحروب والاضطرابات السياسية والكساد الاقتصادي العظيم.
وعندما أنجز بيكاسو "غيرنيكا" بتقنية ألوان زيتية على قماش، أنجزت سنة 1973 دفع بها لتمثل إسبانيا في معرض باريس لتلك السنة, اللوحة تصوّر فراغًا تناثرت فوقه جثث القتلى وأشلاؤهم الممزّقة، وهناك حصان في الوسط وثور إلى أعلى اليسار، بالإضافة إلى مصباح متدلٍّ من الطرف العلوي للوحة، أما على الأرضية تمدّدت أطراف مقطّعة لبشر وحيوانات، بينما تمسك اليد الملقاة على الأرض بوردة وبسيف مكسور، وإلى أعلى يمين اللوحة ثمّة يد أخرى تمسك بمصباح. ويبدو أن وظيفة المصباح المعلق في أعلى اللوحة هي تسليط الضوء على الأعضاء المشوّهة لتكثيف الإحساس بفظاعة الحرب وقسوتها، أما الثور إلى يسار اللوحة فليس واضحًا بالتحديد إلامَ يرمز، لكن ربما أراد بيكاسو استخدامه مجازيًا للتعبير عن همجية المهاجمين.
فالشيء المهم في هذه الجدارية وهو خلوّها تمامًا من أي أثر لمرتكبي الجريمة، فليس هناك طائرات أو قنابل أو جنود. وبدلاً من ذلك فضّل بيكاسو التركيز على صور الضحايا.
ردود الفعل الأولية على الجدارية اتّسمت بالنقد والهجوم الشديدين. فالنقاد الألمان قالوا: إنها مجرّد هلوسات كابوسية لرجل مجنون، وأن بوسع أي طفل في الرابعة أن يرسم أفضل منها. أما الروس فقد تعاملوا معها بفتور, ويبدو أن المنتقدين كانوا يعتقدون بأن الفن الواقعي أكثر قدرة على تمثيل الصراعات والحروب ومآسيها.
حتى العام 1981، كانت غيرنيكا ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث بنيويورك، ومع ذلك فقد طافت بالكثير من المتاحف في أوروبا وأمريكا.
وقد طلب من بيكاسو أكثر من مرّة أن يشرح مضمون عمله هذا، لكنه كان يردّ دائمًا بأن تلك مهمّة المتلقي، وأن اللوحة قابلة للعديد من التفسيرات المختلفة وحتى المتناقضة.
لكن برغم ذلك، أصبحت الجدارية تمثل صرخة بوجه الحرب وشهادة حيّة على حجم البؤس والخراب الذي تخلفه الحروب بشكل عام.
كان بيكاسو يطمح في أن تنتقل "غيرنيكا" إلى إسبانيا في النهاية، لكنه فضل الانتظار إلى أن ينتهي حكم فرانكو العسكري.
وبعد سنتين من وفاة بيكاسو في العام 1973، توفي فرانكو نفسه. وفي 1981، قام النظام الجديد بنقل الجدارية إلى إسبانيا كأفضل احتفال بالذكرى المئوية لمولد بيكاسو، وكانت تلك الخطوة رمزًا لتحوّل إسبانيا الكبير من الديكتاتورية إلى عهد جديد من الحرية والديمقراطية.
غيرنيكا هي اليوم من ضمن مقتنيات المتحف الوطني الملكة صوفيا في مدريد. والمشهود أنها بمثابة تحفة فنية، تأخذ مكانها الصحيح بين كنوز لفنانين آخرين من إسبانيا من "إل غريك"و"غويا" و"فيلاسكيز".
تقول مؤرخة الفن باتريشيا فيلينغ: "هناك الكثير من الناس يعرفون هذه الجدارية".
تغريد
اكتب تعليقك