حرائق الشعر العربي المعاصرالباب: مقالات الكتاب
حسين أحمد المحمد سوريا |
لا غرو أن يكون الشعر ديوان العرب, وخزانة حكمتهم, ومستودع آدابهم, وقد مر بعدة مراحل في طور نضجه, وهو الجنس الأدبي, الأوفر حظًّا من بين الأجناس الأدبية, حيث فرض نفسه بقوة لعصور عليها, حتى إن البعض جعله المشكاة التي خرجت منها جميع الأجناس الأدبية. في البدء كانت المعلقات, عيون الشعر جاهليًّا, التي كان لها من القدسية الأدبية ما لا يستطيع أحد الإنكار عليها, ولو بالمجاز, جرحًا, أو تعديلاً حتى مطلع القرن العشرين, عندما فجر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مفاجئته المدوية (1926) حيث أصدر كتاب - في الشعر الجاهلي - وفيه يقول: «أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت بالشك أو قل ألح عليَّ الشك, فأخذت أبحث, وأفكر, وأقرأ, وأتدبر, حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينًا, فهو قريب من اليقين. ذك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا, ليس من الجاهلية في شيء. إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام- ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًّا, لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه, في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر» وهنا كانت قدحت الشرر التي أشعلت لهيب أول حرائق التغيير, في العملاق الذي ظل راكدًا لقرون طوال. كانت الحركة الإحيائية الاتباعية, ورائدها محمود سامي البارودي, هي أول حركات التغيير, وأول الحرائق, حيث وجد البارودي الشعر العربي يكاد يكون جثة هامدة, فعاد به إلى العصور الزاهية كما في العصر العباسي, حيث نظمت الروائع من القصائد على منهج المحاكاة, والتقيد الصارم, ببحور الخليل بن أحمد, وأوزانه, وسار على نهجه كوكبة من الشعراء المخضرمين مثل شوقي, وحافظ, والرصافي, والزهاوي وكان من أهم أهداف هذا التيار هو بعث التيار الأصيل في الشعر العربي, مع التحديث في التجربة , والصياغة ولعل شوقي كان الأبرز في إظهار ذلك حين قال:
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
قــد قضى الله أن يؤلفنا الــجــــر
ح وأن نلتـقي على أشجانه
من الواضح لكل ذي بصيرة, أن الالتزام الصارم بقواعد الشعر قد أشعل حريقًا جديدًا, وحرك تمردًا عنيفًا هز كيان الشعر العربي, متمثلاً بعدة حركات تجديدية, كانت الرومانسية القاتلة عمودها الفقري, وكان جناحاها الشعر المهجري من جهة, ورائدها ميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي, وغيرهم ثم أصحاب مدرسة الديوان من جهة أخرى, كالعقاد, والمازني في محاولة لفرض النظرية الرومانسية, للشعر الإنجليزي, وتقديمه كبديل للاتجاه الإحيائي. لكنها لم تسمُ مواكبتها للمديح, من أن يشعل حريقًا وجدانيًّا جديدًا, متمثلًا بجماعة أبولو التي أسسها أحمد زكي أبو شادي, وكان الشابي, وعلى محمود طه, وناجي, وقودها الوجداني إلى منتصف القرن تقريبًا, لتعصف رياح التغيير مرة أخرى, ليكون الحريق الهائل في الشعر العربي متمثلة بالشعر الحر أو شعر التفعيلة الذي هز المنظومة التقليدية هزة كادت تطيح بها لولا صلابة الجذور في عمق التاريخ الأدبي. خصوصًا بعد مواكبتها للمد القومي في العراق ومصر والشام. كان لنازك (قصيدة الكوليرا) قصب السبق هي والسياب ونزار قباني الذي يقول ملخصًا الحالة التي دفعتهم ليكونوا وقودًا لهذا الحريق الجديد:
يا عصور المعلقات مللنا، ومن الجسم قد يمل الرداءُ،
نرفض الشعر كيمياءً وسحرًا قتلتنا القصيدة الكيمياء
طبعًا حري بنا ذكر فيها شيء تظهر كانت تلاقي الويلات من رواد سابقتها, في عام 1960 اعترض عباس محمود العقاد على اشتراك بعض الشباب المجددين، وهدد بالانسحاب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، احتجاجًا على اشتراكهم بقصائد من الشعر الحر، فكان أن أذعن هؤلاء، ومنهم عبدالمعطي حجازي فألقوا قصائدهم بالطريقة التقليدية، منعًا لتفاقم الأزمة، لكن حجازي أسرها في نفسه، وكتب قصيدة من البحر البسيط يهجو بها العقاد.
طبعًا القصيدة كان فيها شيء من التطاول على مكانة العقاد الأدبية، لكن يشفع لصاحبها حب التجديد وحماسة الشباب.
آخرًا وليس أخيرًا في حرائق الشعر العربي المعاصر كانت قصيدة النثر التي كانت في البدء تمشي على استحياء ورائدها محمد الماغوط وأدو نيس وعفيفي مطر. ثم بدأت تجد السير مسرعة إلى الأمام... ومن يدري ما سيكون غدًا لتبقى المقولة الخالدة لأبي العتاهية «أنا أكبر من العروض» لتثبت صدقها وصيرورتها مع الواقع, ولتبقى حرائق عصي الريح تعصف في كل وقت وحين بما لا يخطر على قلب بشر، وليظل الشعر متربعًا على عرش الأدب، ويبقى ديوان العرب وخزانة علومهم ومستنبط أدابهم.
تغريد
اكتب تعليقك