الموقف والرؤية/ قراءة في المجموعة القصصية «المشي خلف حارس المعبد» للكاتب الجزائري محمد الكامل بن زيدالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-03-20 17:44:28

د. دليلة مكسح

أستاذة جامعية - جامعة الحاج لخضر- باتنة- الجزائر

القصة القصيرة في عمقها التقاط لجزئيات الواقع، ووقوف على موقف الذات الكاتبة منها، ولذلك لا تحتاج القصة إلى أدوات بنائها فقط من حبكة وأحداث وشخصيات وزمان ومكان ولغة..، بل تحتاج أيضاً إلى موقف خاص يرتبط بالذات وبالمجتمع وبالكتابة، والمُطَّلِع على مجموعة (المشي خلف حارس المعبد) يقف دون صعوبة على تلك المواقف، التي تتجاوز بقصصها من أن تكون مجرد عملية تصوير فوتوغرافي للواقع، إلى إمكانية خلقها لواقع جديد يستحضر ما غاب في الواقع الحقيقي، ولا تكمن أهمية القصص في عملية التجاوز فقط، بل في طبيعة الموقف المتخذ من طرف الكاتب، إذ لا خير في نص أدبي يقوم بتصوير الواقع كما هو للقراء، أو الاكتفاء بسرد إحساس الكاتب من أحداث معينة، وإنما الأهم من ذلك هو إبراز موقف خاص، وطرح الأسئلة إزاء ما هو واقع؛ لأن الكتابة الحقيقية هي التي تتجاوز الوصف إلى إبراز الرؤية، وهذه الأخيرة تحتاج طبعاً إلى طرح الإشكاليات للوصول إلى إجابة، ليس بالضرورة أن تكون يقينية، ولكنها على الأقل تجعل القارئ مدركا لقيمة الكاتب، من حيث قدرته على الغوص في الأحداث والوقوف على تمفصلات الواقع، وتأسيس فاعليته في محيطه، من خلال بحثه عن الحلول والبدائل، والإشارة أو التنبيه إلى ما هو مغيب أو سائد.

ولأن المظهر الدلالي حسب تودوروف هو ما يمثل ثيمات النص أو أغراضه، وذلك من خلال الدلالات التي يحيل إليها1، فإننا نجد موقف الكاتب محمد الكامل بن زيد، يتمظهر في مجموع الموضوعات التي يطرحها، والتي يبدو استقاؤها من الواقع المعيش بمختلف مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث تتنوع مظاهر الواقع في المجموعة بين طفولة منتهكة، وشباب ضائع، وكهولة ميتة، يسعى عبرها الكاتب طرح مواقفه المختلفة النابعة من رؤى خاصة، ففي قصة (أجراس لا تدق) المهداة إلى الولدين هاني ورمزي، نجد الكاتب يؤسس قصته من الواقع بتضمين حادثة حقيقية وقعت في إحدى الولايات الجزائرية لولدين ضاعا في الغابة، ووُجدا بعد ذلك ميتين من البرد والجوع والخوف بعدما ضيعا الطريق وضيعهما الليل، وهما يحضنان بعضهما البعض في مشهد أبكى الملايين، وتنبني القصة على مجموعة من الانفعالات التي يبديها الكاتب إزاء الحادثة، وهو موقف انفعالي أكثر منه فكري، قائم على إحساس الحزن والألم والرفض، وإن قُدم على لسان الطفلين هاني ورمزي: «نحن مازلنا أطفالاً لم نهنأ بحياتنا الطبيعية..بطفولتنا..لم نشبع من نثر الثرى فوق رؤوسنا..لم نهنأ بحريتنا المهزومة..»2 وهي إشارة من الكاتب لشكل من أشكال السلوك الاجتماعي، الذي تعامل معه بنوع من الإدانة التي يظهرها في قوله: «أسوار المدينة بأي ذنب قتلنا» 3 إذ تظهر الإدانة من خلال استعمال الفعل قتل بدل مات، لأن موت الطفلين وإن كان يبدو ظاهرياً موتاً طبيعياً ناتجاً عن الجوع والبرد، إلا إن الكاتب حوله إلى قتل من طرف المدينة التي حاصرت البراءة وجعلتها تبحث عن ملاذ آخر. وكان بإمكان الكاتب أن يجعل القصة أعمق لو حول الولدين إلى رمز دال على كل إجهاض للأحلام، وأن يخرجهما من الإطار الطفولي إلى إطار مفتوح يجعلهما قابلين للتأويل المختلف، كأن يكونا إشارة إلى كل حالم في الواقع.

في قصة (أعمى الطريق انتهى الدرس) يبرز الكاتب موقفه من خلال شخصية أشار إليها بالغائب، وشخصية الأعمى واللذين يتبادلان الحوار أثناء محاولة عبورهما الطريق، والمهم في القصة ليس عبور الطريق، وإنما لب القضية يتمثل في المفارقة الحاصلة بين الإبصار والعمى، حين تتبدل الأدوار والحالات، فيصبح البصير غير قادر على تلمس الطريق، بينما الأعمى بإمكانه المرور بسهولة، والشخصيتان هنا تتحولان إلى دليل، ولهما وجهان دال ومدلول، فتشكلان دلالة المفارقة الواقعية التي لمسها الكاتب وعبر عنها بهذه الطريقة، إلا إن الملفت في القصة أن الشخصية المبصرة سلمت أمرها لشخصية الأعمى كي تعبر بها الطريق، وهو موقف يحيل في عمقه إلى رؤية الكاتب إزاء ما يراه من تناقضات في واقعه، والتي يدعو عبرها إلى الاعتراف بالعجز حين تقول الشخصية المبصرة: «يا شيخ أريد أن أعبر الطريق فأنا أعمى كما ترى». 4

تتنوع أشكال المواقف في المجموعة بين موقف انفعالي أو فكري أو أخلاقي، وفي قصة  (جنازة قناديل السير) التي يبحث فيها الكاتب عن معنى للذات التي أرهقها الواقع وسلبها كرامتها، عبر شخصية المَدين الذي يلاحقه الدائنون ويتوعدونه بالموت، نجد الموقف الأخلاقي هو البارز من خلال إدانة فعل الدائنين الذين يدركون جيداً وضع الرجل وقلة حاله، حيث يقول: «إنهم ليسوا بحاجة إلى أحد ليعلمهم مدى فقره..ليعلمهم أنه لا يملك فلساً وأنه لحد الساعة لم يستطع أن يوفر عملاً يعينه على نوائب الدهر..»5 هذا الموقف الذي هو إدانة للواقع أجمع، والذي لا يترك مجالا للإحساس بالأمل أو التقاط الأنفاس «... وهاهو الـ..وهاهو..وهاهي..وهاهو..ها..هو». 6

وفي إطار الرمزية تتشكل قصة (المشي خلف حارس المعبد) التي نتحسس من خلالها إشارة للواقع بشتى تشكلاته السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث يبرز المعبد الذي له حارس يحرسه ومحاط ببحر عاتٍ، وهناك أحلام مؤجلة ترصد المعبد، وتسعى لإسقاط الأقنعة، وإخراج الحارس، هذا الأخير الذي يستفيق على فاجعة الوهم الذي كان يعيشه، وعلى تربص الأحلام المؤجلة، ولكن استفاقته كانت متأخرة مما يجعله حائراً وخائفاً مما هو قادم، مدركاً لفداحة الأمر بعد فوات الأوان، ويبرز موقف الكاتب وإن كان متوارياً خلف الرمز من خلال إدانته لأشكال الحصار والسطحية، وعدم التعمق في الرؤية والدخول في دوائر الوهم، الذي لا يوصل إلا إلى الانهيارات «لم يستطع جسده أن يقاوم أكثر..بدأ يتمايل كريشة في مهب الريح أو كشمعة بدأت تأكل فتيلها..ومعه شيدت العتمة أسوارها..». 7 

إن الموقف الفكري الذي يتأسس حسب روجر فاولر بالموقف من الأحداث، على خلاف الموقف الجمالي الذي يكون موقفاً مرتبطاً بمنظور الراوي للأحداث8 لا يتشكل حسب رأيي إلا من خلال الأسئلة، لأن الموقف من الأحداث لا يكون فقط بملاحظتها وكشفها، وإنما أيضاً بمساءلتها وإثارة النقاش حولها عبر مجموع الشخصيات، وفي إطار مكاني وزماني، وحينما نبحث في المجموعة القصصية (المشي خلف حارس المعبد) نجد هذا النوع من الطرح الذي يُفَعِّلُ مواقف الكاتب، إلا أن أغلبها لا يحيل إلى تشكيل رؤى بقدر ما يبرز حيرة الكاتب وانفعالاته، ومن الأسئلة التي تقترب من تأسيس رؤية وتدعم بذلك موقف الكاتب نذكر قوله: «يا سيدي اختر أي الأبواب السبعة لتدخل عالم آخر(...) الاختيار الاختيار..هل هي مزحة أم ماذا؟» 9 وهو سؤال يعقبه سؤال من خلاله يبين الكاتب موقفه على لسان الشخصية الرئيسية، في إدانة للواقع عندما تغيب فيه الفرص، ويُحارَب فيه الفعل الإيجابي: «إن كان فعلاً من حقي الاختيار  فكيف لي لم أختر عكس  ما حدث لي في اليومين الماضيين..» 10، نعم إنه سؤال مصيري نابع من موقف الشخصية وهي تبحث عن بارقة أمل في واقعها.

نقول أخيراً إن مجموعة (المشي خلف حارس المعبد) مليئة بالمواقف والرؤى إزاء الواقع والذات، ولا نجد التفاتا إلى الموقف من الكتابة، ربما لتأثير الواقع العميق على شخصية الكاتب، الذي سار على وتر الإحساس والانفعال، حيث نجد في قصصه الكثير من أساليب الإنشاء المتعددة الأغراض، والتي حاول عبرها نقل التوتر إلى القارئ، وهو بذلك يخاطب قراءه بلغة الانفعالات ليوصلهم مع كل قصة إلى رؤيته وموقفه الخاص، وهذا الجانب مهم؛ لأن من مهام الأدب الرئيسية إثارة الانفعال، وطبعا هذا الأخير يكون بحاجة إلى رؤى من خلالها تتأسس فاعلية النص الأدبي.

 

 

الهوامش:

1 - تودوروف: الشعرية، تر: شكري المبخوت، رجاء سلامة، دار طوبقال، الدار البيضاء، ط 2 ، المغرب، 1990 ، ص 50 .

2- محمد الكامل بن زيد: المشي خلف حارس المعبد، مجموعة قصصية، سلسة رؤى(قصص وروايات)، منشورات مديرية الثقافة، اتحاد الكتاب الجزائريين، بسكرة،ط 1، 2013، ص 7.

3 -المجموعة: ص 18 .

4 -المجموعة: ص 21 .

5 -المجموعة: ص 37 .

6 -المجموعة: ص 37 .

7 -المجموعة: ص 14 .

8 -عبد الله إبراهيم: المتخيل السردي، مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة)، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1990 ، ص 64 .

9 -المجموعة: ص 45 .

10 -المجموعة: ص 45 .    


عدد القراء: 5046

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-