نظرة في مسرح هنريك إبسن- «عدو الشعب» أنموذجاً الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-03-20 18:56:19

د. فؤاد عبد المطلب

جامعة جرش - الأردن

كان هنريك إبسن أول كاتب مسرحي رئيسي يعالج مآسي الناس العاديين الذين يعيشون ظروفاً اعتيادية، مستخدماً في ذلك لغة الحياة اليومية في حوارات الشخصيات، بالمقارنة مع المسرحيات المأساوية السابقة التي اختصت بحيوات الملوك وشؤونهم وبلغة شعرية منمقة عالية. أما موضوعات المسرحيات الضاحكة أو الهزلية فكانت تدور حول أبناء الطبقات الوسطى أو الدنيا. ما قام به إبسن هو تنقية حبكات مسرحياته من العنصر الضاحك إلى حد كبير، مبتعداً عن ممارسات المسرح السابق له الذي استند إلى تقنيات اصطناعية: فمسرحياته تخلو من المناجاة أو أحاديث تُسمع مصادفة أو اتفاقاً أو استرقاق السمع، أو رسائل معتَرَضة أو ارتداء أقنعة. كما قام عموماً بضغط عدد فصول المسرحية الكلاسيكية من خمسة إلى ثلاثة أو أربعة فصول. كما أن نثره المسرحي غالباً ما يُعد من أفضل ما كتب في ميدان النثر الإبداعي. فكثيراً ما جعل شخصياته تتحدث بصورة طبيعية، لكن مختلفة عن بعضها بعضاً مثلها مثل شخصيات الروايات العظيمة. كما يتجلى عمقها الإنساني وتعقيدها النفسي من خلال تلك الأحاديث التي تتجرد من الزيادات في الكلام وتقتصد في تعابيرها عن الأفكار. وقد أثر ذلك على نحو واضح في طريقة التمثيل وجَعَلها أكثر واقعية وبعداً عن الرومانسية والمواقف المصطنعة. كما تتطلب عمق الشخصيات وتعقيدها من الممثلين التأني والتحليل أكثر، والغوص في أعماق الشخصيات وحساسيتها وقد جعلت واقعيته الممثلين يستندون إلى معرفتهم الحياتية في أثناء تمثيلهم للشخصيات أكثر من قيامهم بالاستحواذ على إعجاب الجمهور من خلال أقوال بالغة التكلف، أو دموع وعواطف مفتعلة، أو انفعالات صارخة، أو غيرها من المهارات الفنية.

كُتبت مسرحيات إبسن بداية باللغة النرويجية، ثم أخذت ترجماتها إلى اللغات الأوروبية تظهر تباعاً. وقد أسهمت الترجمات الإنكليزية والدراسات النقدية المسرحية المكتوبة بالإنكليزية في انتشار إبسن في العالم الآنجلو ـ أمريكي وفي بلدان كثيرة. ويمكن النظر في ثبت مراجع أية دراسة حول مسرحيات إبسن كي تُظهر حجم الاحتفاء النقدي بمسرحياته حتى في أيامنا هذه كما يمكننا أيضاً النظر في آراء نقاده من المعاصرين له ممن أبدوا آراءهم حول مسرحية (عدو الشعب).

بعد مسرحية (بيت الدمية) عام (1879) ومسرحية (الأشباح) عام (1881) اللتين هاجم فيهما قيم المجتمع البرجوازي المحترم المحافظ وعلى رأسها النفاق والأنانية والكذب، تابع إبسن نقده لهذا المجتمع في مسرحية (عدو الشعب) عام (1882) مؤكداً أن الأغلبية عادة هي على خطأ وأن الأقلية دائماً على صواب عبر رفضه المطلق للإصلاح المنفرد واهتمامه بموضوع الحرية: حرية الفرد الكاملة أن يكون صادقاً مع نفسه وأن يقول الحقيقة كاملة. وقد كانت مهمته توضيح ذلك عبر تصويره للشخصيات الإنسانية، وفي طليعة هذه الشخصيات شخصية الدكتور ستوكمان. على ما يبدو أن إبسن قد وجد عزاءً في شخصية هذا المتمرد الوحيد، فقد صرح مرة في رسالة إلى جورج براندز أن: (الأغلبية، الجمهور، الكتلة لا يمكنها إدراكه، لذلك لا يمكنه أن يحصل على الأغلبية إلى جانبه... في النقطة التي أقف عندها حين أكتب أياً من كتبي، تقف الآن الأغلبية الساحقة في معظمها، لكنني أنا نفسي الآن لا أقف عند هذه النقطة، أنا في مكان آخر، آمل، أن يكون متقدماً أكثر. صحيح أن الدكتور ستوكمان ينتهي إلى هزيمة شنيعة، لكنه يرفض أن ينسحب من المعركة مع ما يسمى (رأي الجمهور) أو (الغالبية الساحقة) أو ما شابه ذلك من التعابير الشيطانية... فأنا أريد أن أسوق إلى أذهان أولئك الغوغاء أن الليبراليين هم أخبث الأعداء الذين ينبغي على الناس الأحرار أن يواجهونهم، وأن البرامج الحزبية تقصم ظهور الشباب والحقائق الحية جميعها، إن الاعتبارات العملية تقلب العدالة والأخلاق رأساً على عقب، بحيث يصبح العيش في الحياة ببساطة لا يطاق. يخسر الدكتور ستوكمان المعركة من أجل ينابيع المياه، لكن معركته ضد الكذب أو النفاق تستمر.

كتب إدموند غوس عام 1882 معلقاً على الشخصية الرئيسة في المسرحية:

إن بطل مسرحية (عدو الشعب) هو على نحو ما هنريك إبسن نفسه في الحياة العملية، هو ناقد مكروه لأنه يقول الحقيقة الواضحة لآذان لا ترغب في سماعها... فيتهم بصوت عال بأنه عدو للشعب، ويُقاطع، ويُرجم بالحجارة، ويُقاد خارج البلد، لمجرد قوله بصوت مرتفع ما يقتنع كل شخص بداخله على أنه الحقيقة.

الرمز واضح وشفاف، والمسرحية هي حقيقة قطعة من الجدال الشخصي العنيف. والقصة يمكن أن تكون موضوعاً لرواية ماتعة، لذلك هي تتحمل المعالجة المسرحية بصعوبة. على أية حال، يبقى هذا العمل إلى حد بعيد صحيح مسرحياً من حيث أنه لا علاقة شخصية بين الدكتور ستوكمان وإبسن نفسه، أو حتى إنه قد لا يكون متحدثاً باسم إبسن وأفكاره، إنما هو تمثيل لنموذج أو لمزاج معين، لكنه من النوع الواضح والمنسجم تماماً. إنه متطرف وبصورة حادة مع أن التطرف هو أمر مكروه بالنسبة إليه مثله مثل أي شكل من أشكال الخداع السياسي. وقواعد السلوك الوحيدة التي يعترف بها هي الصدق الكامل ومهما كان الثمن، والاعتماد على الذات الفردية مهما تعرضت للأذى. وطبقاً لهذا الكلام، بينما يُجمع النقد المسرحي الاسكندينافي على الاعتقاد أن مسرحية (عدو الشعب) هي ليست في طليعة الأعمال المسرحية التي كتبها إبسن، فإن لا أستطيع إلا أن أقول إن شخصية الدكتور ستوكمان هي من أكثر الشخصيات أصالة، وبالنسبة إلي من أكثر الشخصيات تميزاً، ضمن إبداعات إبسن المسرحية، ثمة تشابهات كثيرة بينه وبين الكونت ليو تولستوي، سواءً كان إبسن يعرف شيئاً أم لا عن الحياة الخاصة أو عن شخصية الأديب الروسي الكبير حتى العام 1882 لا أدري.

في مسرحية (عدو الشعب) بدت الروح الطبيعية عند الشاعر وكأنها تعزز من موجة المثالية الغاضبة العالية لديه. لقد صرح بأن الأكثرية مُدَجنة وجبانة ومنافقة، وهذا صحيح، لكنه وعد بأن الرجل الخير، حتى وإن كان وحيداً، يجد في مبدئه مكافأة له، ويشعر بالانتصار مثله مثل أبناء النور... .

كما أبدى ويليام آرتشر رأيه حول المسرحية قائلاً: لقد حاول الشاعر في هذه المسرحية بعناء تجنب أي تأثير للإثارة المسرحية، بيد أن الفكرة برمتها وكثير من المشاهد المنفردة مؤثرة بقوة، لكن الحالات المثير في مسرحيات مثل (أعمدة المجتمع) و (بيت الدمية) هي غائبة كلياً. ففي الأوضاع المضحكة الكثيرة، كما في حالات أخرى، تشبه هذه المسرحية مسرحية (رابطة الشباب) أكثر من المسرحيات التي كتبها سابقاً. فحواراتها تامة ـ لا يوجد كلمة واحدة تلقى جزافاً، ولا يوجد كلام متألق بصورة غير مناسبة، ولا يوجد كلمة واحدة مملة. وكل شخصية متفردة على نحو واضح، لذلك ستأخذ شخصية الدكتور ستوكمان مكانها اللائق يوماً ما ضمن مجموع الشخصيات التي أبدعها إبسن والتي من الممكن أن نتعاطف معها. ليس هناك في بقية مسرحياته مثل التقنية الدقيقة التي استخدمها في هذه المسرحية، حيث تلتحم الشخصية والحدث بصورة أكثر جدية. لعل بعضنا يرغب أن يعود الشاعر إلى طريقته المسرحية القديمة ويقدم لنا مسرحيات خيالية رائعة شعراً، لكنه طالما يقدم لنا مسرحيات مثل (عدو الشعب)، لا يوجد سبب وجيه يجعلنا نأسف لاستخدامه النثر والواقعية... .

وقد كتب إي . أ . بوغان عام 1905 حول إبسن ومسرحيته: من المعروف أن إبسن كتب (عدو الشعب) كجواب على النقد العدائي الذي وُجه إلى مسرحية (الأشباح)، وليس على نحو أولي كمساهمة في نقاش يدور حول الأخلاق الاجتماعية والخاصة بأعمال البلدية... .

بالنسبة إلى محب المسرح العادي ليست المشكلات الاجتماعية المطروحة في هذه المسرحية المفعمة بالحركة والمشاعر هي النقاط المهمة. إن هدف المسرحيات كلها هو السؤال الآتي: هل نجح الكاتب المسرحي في الحفاظ على تسلسل انتباه النظارة وتحريك مشاعرهم؟ قد توافق الدكتور ستوكمان على أن الفردية هي الموقف المطلوب أن يتخذه الرجل القوي، وأن الأقلية هي دائماً على صواب، أو أن الأغلبية الساحقة، حسب قول كارليل، هي بالتأكيد على خطأ، وقد تناقش مسألة إذا كان الأول للإنسان هو تجاه عائلته أم تجاه العائلة الأكبر لمجتمعه الذي يعيش فيه لكن حيوية هذه المسرحية لا تكمن في الأفكار التي تعبر عنها أو تقترحها الكراسة الدينية أو السياسية لا تشكل مسرحاً.

إني أترك الإجابة عن هذه الأسئلة كلها إلى أقلام أكثر قدرة من قلمي. وجل ما أبغي معالجته هنا هو كثافة المسرحية التي مكنت إبسن من بنائها من المادة المتوافرة لديه. أعتقد هنا أن الجميع يوافق على أن المسرحية قوية، وأنها تحرك الكثير على نحو أصيل، إن مشهد رجل قوي وجريء يتحدى جيش من الجبناء أخلاقياً لابد أن يكون محركاً دائماً. وتمتاز هذه المسرحية بأنه ليس فيها وعظ. فالشخصيات هي شخصيات في مسرحية وليست تجريدات فحسب أو دمى تتحرك في كراسة الكاتب المسرحي الصغيرة... .

وقد كتب الممثل والمخرج المسرحي الشهير كونستنتين ستانسلافسكي (1863ـ1938) والمؤسس المشارك لمسرح موسكو الفني، عن مسرحية (عدو الشعب) في مقال بعنوان (نظام الفن الخلاق وطرائقه) نشره ديفيد ماغارشاك في كتاب حرره ونشره تحت عنوان: (ستانسلافسكي حول فن المسرح) عام 1950.

عندما كنت أعمل على دور ستوكمان، كان حب ستوكمان وتوقه للحقيقة الأمر الذي أثار اهتمامي بالمسرحية وبدوري فيها. لقد كان الحدس، والغريزة، ما جعلاني أفهم الطبيعة الداخلية لشخصية إبسن، بكل خصوصياتها، وطفولتها، وقصر نظرها، فهي التي ألقت الضوء على العمى الداخلي عند ستوكمان حيال الشرور الإنسانية، وعلى موقفه الرفاقي تجاه زوجته وأطفاله، وعلى حبوره حيويته. لقد وقعت تحت سحر شخصية ستوكمان، الذي يجعل كل أولئك الذي يحتكون به ويتعرفون عليه أناساً أفضل وأنقى ويظهر الجوانب الأفضل من طبائعهم أثناء حضوره.

لقد كان حدسي الذي أوحى لي بمظهر ستوكمان الخارجي، الذي تكون بصورة طبيعية من عمق هذا الإنسان: فقد اتحد جسد الواحد وروحه بالآخر عضوياً، ستوكمان وستانسلافسكي. وبمجرد أن نظرت في أفكار ستوكمان وهمومه، تبدى أمامي قصر نظره من تلقاء نفسه رأيت انحناءة جسمه نحو الأمام ومشيته السريعة. الأصبعين الأول والثاني مشدودين إلى الأمام عفوياً وكأنهما يرميان للكبس على مشاعري وكلماتي وأفكاري لتنطلق باتجاه روح ذلك الرجل نفسه الذي كنت أتحدث إليه.

وقد كتب هارولد كلارمان في كتابه (إبسن) (ماكمبلان، 1977) حول شخصية ستوكمان في خاتمة نقاشه للمسرحية:

إن هزيمة الشخصيات العظيمة مؤقتة، فهم يحرزون النصر بعد سنين من النضال الشاق. ويبقى ستوكمان على الرغم من ذلك متفائلاً حتى النهاية. إنهم الشباب كما يتصورهم هو، عبر أطفاله وخصوصاً ابنته التي تتلفظ بالوقائع الحقيقية بترا، والتي تقول، (في البيت يقولون لنا لا تتكلموا اضبطوا ألسنتكم، وفي المدرسة نعلم الأولاد الكذب)، إنها هي التي تربح اللحظة (ربما لحظة واحدة) ولكن بالنسبة إلى عائلة ستوكمان فهي تربح العالم كله.

لقد كتب مرة الكاتب الكلاسيكي الهادئ بول فاليري: إن المتطرفون يعطون العالم قيم، والناس العاديون يجعلونه يستمر، أما الثوريون فيجعلونه جديراً بالعيش، والمعتدلون يجعلونه مستقراً. إن ستوكمان متطرف أو أنه يصبح كذلك مثل إبسن كما يظهر في هذه المسرحية. بيد أن هذا العالم يجب أن يحتوي على متطرفين إذا كان على مجتمعاتنا ألا تفسد أو تنوي إلى التسطح أو العدم.

لقد قيل أن إبسن بعد مسرحية (عدو الشعب) بدأ بالتراجع في حربه الاجتماعية. ولكن من باستطاعته أن يؤكد ذلك تماماً. فردّاً على هذا الاتهام بأنه سريعاً ما انسحب من مواقفه التي اتخذها سابقاً، يبدو كما لو أنه قد أطلق تصريحه مثل والت ويتمان (هل أناقض بذلك نفسي؟ حسناً، أنا أناقض نفسي!.


عدد القراء: 6321

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-