القص في التاريخ بين المرجعي والتخييليالباب: مقالات الكتاب
قالط حجي العنزي السعودية |
إن استعادة الماضي المعيش تاريخيًّا، وإعادة تسجيله داخل الزمنية (زمان العالم) ينفي عن الكتابة التاريخية أن تكون مجرد تتابع وتعاقب وتسلسل لعدد من الوقائع والأحداث البسيطة والمتفرقة والمنفصلة. فالأحداث والوقائع لا تكتسب تاريخيتها بمجرد حدوثها أو وقوعها في الزمان، بل بقابليتها للقص والسرد، ومن ثم تكون قابلة للفهم والمتابعة والتصديق بواقعيتها ومعقوليتها. وهنا يأتي دور الحبكة بوصفها توسطًا بين الأحداث والقصة المروية، بين المعيش الزمني والفعل السردي، فالحبكة هي التي تمنح الأحداث والوقائع سرديتها التخييلية والمرجعية1.
والتاريخ بما هو سرد وبناء حبكات، وتصوير للفعل الإنساني في الزمن بعد انقضائه، لا يغدو بمقدوره تفادي، أو تجنب العناصر التخييلية أو الأدبية، لا على أنها آثار أو مظاهر ثانوية، بل هي مما تشكل سماته النوعية الخاصة، هي جزء من محتواه إلى جانب ما هو واقعي، كما أنها محدد أساسي لما يأخذه من صيغ وأشكال2. ويمكن أن نستدل على ذلك بقولة بليغة لبول ريكور، يقول فيها: «كتابة التاريخ ليست شيئًا يضاف من الخارج إلى المعرفة التاريخية، بل هي شيء من داخلها، فلا شيء يمنعنا من الإقرار أيضًا أن التاريخ يحاكي في كتابته الخاصة أنماط الحبك التي يتداولها تراثنا الأدبي»3. ويؤكد جيروم برونير أن «جميع أنواع السرود بما فيها السرد التخييلي تعد بمثابة إطار لعرض ما يتضمنه العالم الحقيقي، ويمنحه من ثم قدرًا من الواقعية»4.
تتمثل المرجعية المشتركة بين التاريخ والتخييل في العمق الزمني للتجربة الإنسانية، فإذا كان القص التخييلي يملك مرجعًا، فإن المرجع الخاص بالنص التاريخي يملك صلة وثيقة بالمرجع المنتج للمحكي التخييلي، وهذا لا يعود إلى كون الماضي شيئًا غير واقعي؛ بل لأن الواقع الماضي غير قابل للتأكد منه؛ لأنه، باختصار، لم يعد موجودًا الآن، ولهذا فإن الخطاب التاريخي لا يستهدفه إلا على نحو غير مباشر، وهنا تفرض القرابة بين التاريخ والتخييل نفسها5. فــ«إعادة تشييد الماضي، كما أكد على ذلك كولنكوود، هو من عمل المخيلة. والمؤرخ أيضًا، بحكم العلائق المشار إليها آنفًا بين التاريخ والحكي، يشخص حبكات تسمح لها بالوثائق أو تمنعها، إلا أنها لا تشتمل عليها قط، بهذا المعنى، فإن التاريخ يلائم بين التماسك السردي والتطابق مع الوثائق. وهذه الصلة المعقدة تطبع الوضع الاعتباري للتاريخ بوصفه تأويلاً»6.
فالقصص التخييلية والقصص التاريخية متشابهة، ومهما كانت الفروق بين مضامينها المباشرة، يظل مضمونهما الأخير واحد، وهو بنية الزمن الإنساني، فصيغتهما المشتركة، أي السرد، هو وظيفة هذا المضمون المشترك7. فـ«الأحداث التاريخية تمتلك البنية نفسها التي يمتلكها الخطاب السردي، وطبيعتها السردية هي التي تميز الأحداث التاريخية عن الأحداث الطبيعية، ولأن الأحداث التاريخية تمتلك بنية سردية، فللمؤرخين الحق في اعتبار القصص تمثيلات صادقة على هذه الأحداث بوصفها تفسيرات لها»8.
والسرد التاريخي بإحالته إلى الماضي الواقعي الذي لم يعد موجودًا، ولا يمكن - من ثم -معاينته والتثبت منه، إنه يقصده بطريقة غير مباشرة، رمزية أو مجازية، منتجًا صورة له أو عنه، هي جزء من مرجعيته، تمنحه حضورًا وتحققًا من نوع ما، يجعله مرئيًا أمام القارئ، فيتمثل له الماضي الواقعي كما لو كان حاضرًا. الأمر الذي يعني أن السرد التاريخي لا يتجه حصريًّا إلى مطابقة الماضي الواقعي بل إلى احتمال المطابقة، مما يدفع به إلى الانفتاح على آفاق المحتمل والممكن، على ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، أي على إمكانيات الماضي واحتمالاته، التي لم تتحقق بالفعل. وهذا ليس ببعيد عما يصنعه السرد التخييلي الذي يقدم الأحداث المتخيلة غير الواقعية بوصفها وقائع ماضية9.
الهوامش:
1 - ينظر: ريكور (بول)، من النص إلى الفعل: أبحاث في التأويل، ترجمة: محمد برادة، وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م، ص ص9 ، 10.
2 - ينظر: الطوانسي (شكري)، شعرية السرد التاريخي من خلال "تاريخ الأمم والملوك" للطبري، ص 120. وفائزي (توفيق)، التصديق والتخييل في القول التاريخي، مجلة يتفكرون، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، المغرب، العدد الثالث، شتاء، 2014م ،ص 118.
3 - ريكور (بول)، الزمان والسرد، الزمن المروي، ترجمة سعيد الغانمي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2006م، ج 3، ص 279.
4 - ريفاز (فرانسواز)، كتابة التاريخ بين فن السرد والعلوم الدقيقة، ترجمة: باتسي جمال الدين، مجلة فصول، القاهرة، العدد 67، صيف – خريف ، 2005م، ص197.
5 - ينظر: ريكور (بول )، من النص إلى الفعل، ص 13.
6 - م . ن، ص 13 .
7 - وايت ( هيدن )، ميتافيزيقا السردية، ضمن: الوجود والزمان والسرد (فلسفة بول ريكور)، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1999م، ص203.
8 - م . ن، ص189.
9 - م .ن ، ج3 ، ص 288
تغريد
اكتب تعليقك