وصية أمبرتو إيكو إلى حفيدهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-05-11 20:03:58

د. محمد عبدالقادر المعداوي

باحث بجامعة روما

وصية أمبرتو إيكو إلى حفيده 1

ترجمة: د. محمد عبدالقادر المعداوي

 

مقدمة المترجم:

في يناير 2014، طلبت مجلة إسبريسو الإيطالية من مجموعة من مفكري ومثقفي إيطاليا وأوروبا كتابة خطاب يوجهونه لأبنائهم أو أحفادهم في مطلع العام الجديد. في هذا النص يمكن لنا الاطلاع على وجه مغاير للسيميائي والروائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو والذي بجانب نشاطه الأكاديمي والروائي لم ينقطع أبدًا عن كتابة المقالات "الخفيفة" الموجهة لا للمختصين ولكن للقارئ العادي.

في هذه المقالات الصحفية كان المثقف الكبير يتمكن من إيصال أفكار مجردة ولمحات فلسفية بعد تبسيطها وتقديمها في قالب جذاب وسهل لا يتميز بالحذلقة أو الفوقية كما يقع للأسف من الكثير من مدعي الثقافة والفكر.

في هذا النص الذي يتراوح بين الجد والهزل يؤكد إيكو على أهمية الحفظ والتذكر وكأنه يرد على أولئك الذين يفرقون بين أهل الحفظ "والصَمّ" من جهة وأهل الفهم والحذق من جهة أخرى. لكأني به يقول لهم: حتى في عصر الإنترنت لا غياب لدور الذاكرة بل العكس هو الصحيح وإلا فالزهايمر "الثقافي" في انتظارنا.

***

مقدمة المجلة:

أمبرتو إيكو:

"حفيدي العزيز: احفظ دروسك عن ظهر قلب"

المفكر وعالم الدلالات الإيطالي في خطاب وجهه إلى حفيده. يقدم فيه وجهة نظره حول استخدام التكنولوجيا المتزايد ويقدم نصيحته الواضحة والصريحة لمستقبل أفضل: يجب أن نحفظ عن ظهر قلب قصائد الشعر، وقائع التاريخ كتاريخ الإمبراطورية الرومانية...وحتى أسماء الشخصيات الثانوية في رائع الأدب كرواية ألكسندر دوما "الفرسان الثلاثة". لأن الإنترنت لا يمكن أن يحل محل المعرفة، كما أن أجهزة الكمبيوتر لا يمكن أن تحل محل أدمغتنا.

أمبرتو إيكو

3 يناير 2014

***

حفيدي العزيز، لا أريد في رسالتي إليك مع مطلع هذا العام الجديد أن أسديك نصائح تقليدية عن حب الرفاق أو الوطن أو العالم أو أشياء من هذا القبيل. لن تُصغي إليها، وعندما يحين الوقت لتطبيقها (عندما تصبح بالغًا وأصبح أنا من الماضي البعيد) ستكون منظومة القيم قد تغيرت بشكل ربما يجعل نصائحي لك تبدو عتيقة قد عفا عليها الزمن وتجاوزها.

لذلك أُريد أن أقتصد على نصيحة واحدة، نصيحة يمكنك أن تشرع فورًا في تنفيذها، بينما تتصفح الإنترنت على جهاز التابلت (أو الأي باد) الخاص بك. ولن أسقط في هوة تعنيفك ونُصحك بعدم اللجوء لمثل هذه الأجهزة، ليس لأني سأبدو ساعتها جِدًّا خَرِفًا فقط ولكن لأني استخدمها أنا أيضًا.

على كلٍ، ليس هذا ما كنت أود الحديث إليك بخصوصه، موضوع رسالتي إليك يتعلق بهذا المرض الذي أصاب جيلك واستشرى حتى طال كذلك جيل الشباب الأكبر منك سنًّا، والذين ربما قد التحقوا بالجامعة: وأقصد بهذا المرض "فقدان الذاكرة".

صحيح أنك إذا رغبت الآن في معرفة من كان "شارلمان" أو أين تقع "كوالا لمبور"، ما عليك إلا الضغط على بضعة أزرار وسيتكفل الإنترنت بتزويدك بالإجابة فورًا. قُم بذلك وقت الحاجة، لا ضرر في الأمر، ولكن اجتهد بعدها في تذكر ما عرفته حتى لا تضطر للقيام بالبحث عنه من جديد إذا لزم الأمر واحتجت إليه مثلاً لإنجاز واجبك المدرسي. موطن الخطر هنا هو أن تفتقد الرغبة في استذكار الأمر وحفظه عن ظهر قلب، ظنًا منك أن جهاز الكمبيوتر سيسعفك دائمًا وفي أي وقت. سيكون الأمر مماثلاً قليلاً لشخص تعلم أنه من أجل الذهاب من شارع محدد إلى شارع آخر يمكن له ركوب الحافلة أو المترو وغيرها من وسائل النقل التي تسمح له بسرعة الحركة (وهو شيء صحيح ومريح للغاية، أنصحك بالقيام به كلما دعت الضرورة وكنت على عجلة من أمرك) ولكن المُشكل هنا أن يظن المرء أنه بهذه الطريقة لم يعد بحاجة لممارسة المشي.

تذكر أنك إن لم تمش بالقدر الكافي ستصبح وقتها من "ذوي الاحتياجات الخاصة"، كما نقول اليوم للإشارة إلى أُولئك الذين يُضْطَرون لاستخدام كرسي متحرك في تنقلاتهم.

حسنًا، حسنًا، أعلم أنك تمارس الرياضة ومن ثم تعرف كيف تُحرك جسمك في مهارة، ولكن دعنا نعود إلى دماغك.

الذاكرة هي عضلة مثل عضلات الساقين، إن لم تستخدمها تَضْمُر وعندها تُصْبِح (من الناحية العقلية) عاجزًا، أي (لنقلها بصراحة) أحمق!

كما أن هناك سببًا آخر، فبما أن الجميع أصبح مهددًا بأن يصاب بعد عجزه بالزهايمر، فإن واحدة من أهم طرق تفادي مثل هذا المرض تتمثل في استخدام وتنشيط الذاكرة دائمًا.

بناء على ما سبق، إليك وصفتي السرية: كل صباح، احفظ بضع أبيات من الشعر، أو قصيدة قصيرة، أو حتى أناشيدك المدرسية كما كنّا نفعل نحن في زماننا. وربما أمكنك التنافس مع أصدقائك لمعرفة من يمتلك ذاكرة أقوى. إذا كنت لا تحب الشعر، قُم بالأمر ولو مع تشكيلات فرق كرة القدم، ولكن انتبه في هذه الحالة لا يجب عليك فقط معرفة أسماء لاعبي فريق روما الحاليين على سبيل المثال، ولكن أيضًا أسماء لاعبي الفرق الأخرى، وحبذا تشكيلات الفرق في الماضي (تصور أني ما زلت أتذكر التشكيل الكامل للاعبي فريق تورينو عندما تحطمت الطائرة التي تقلهم فوق مدينة سوبيرجا لتودي بحياة جميع لاعبي الفريق والذين كانوا على متن الطائرة: باتشيجالوبو - بالّارين - ماروزو... الخ).

نظم أنت وأصدقاؤك مسابقات في قوة الذاكرة: يمكن أن يكون محورها الكُتب التي قرأتموها (مَنْ هِي الشخصيات التي كانت على متن هيسبانيولا في رحلة البحث عن جزيرة الكنز؟ لورد تريلاوني، الكابتن سمولت، الدكتور ليفيسي، لونج جون سيلفر، جيم ...) لِتَرى إذا كان أصدقاؤك سوف يتذكرون اسماء خدم الفرسان الثلاثة ودارتانيان (جريمو، بازين، موسكيتون، بلانشيت) ... وإذا كنت لا تريد قراءة "الفرسان الثلاثة" (ولن أخبرك أي شيء رائع قد فاتك) قُم بالأمر إذن، لا أدري، ربما مع أيٍ من القصص الأخرى التي قرأت.

سيبدو الأمر كما لو كان لعبة (وهو كذلك) ولكنك سترى كيف ستمتلئ رأسك بالشخصيات والقصص والذكريات من كل نوع.

ربما سألت نفسك لماذا كان يطلق على أجهزة الكمبيوتر حتى وقت قريب مصطلح "العقول الإلكترونية": يعود ذلك لأنها تم تصميمها على نموذج دماغك (ودماغنا)، ولكن دماغنا يتميز بوصلاته التي تتجاوز وصلات جهاز الكمبيوتر. دماغك هي نوع من أجهزة الكمبيوتر، تحملها بداخل رأسك وهي تنمو وتقوى مع الممارسة والاستخدام، بينما يبلى جهاز الكمبيوتر الموجود على مكتبك ويصبح أكثر بطئًا كلما استخدمته حتى تضطر لتغييره بعد سنوات قليلة. أمّا دماغك فيمكن استخدامها حتى تسع وتسعين سنة وعندها (إذا أبقيتها محل الاستخدام والممارسة) ستتذكر أكثر بكثير من الأشياء التي تتذكرها الآن. كما أن استخدام دماغك مقارنة بالكمبيوتر لا يكلفك شيئًا فهو مجاني. هناك أيضًا الذاكرة التاريخية، وهي تلك التي لا تتعلق بوقائع حياتك المباشرة أو قراءاتك اليومية، ولكن بكل ما حدث قبل ولادتك.

اليوم إذا ذهبتَ إلى السينما يجب عليك الالتزام بوقتٍ محددٍ قبل بداية الفيلم بقليل. عندما كنتُ صغيرًا كان من الممكن الدخول إلى قاعة السينما في أي وقت، حتى في منتصف العرض: تصل بينما تقع بعض الأحداث وتحاول فهم ما حدث سلفًا (ثم، عندما يبدأ الفيلم مرة أخرى من بدايته، تكتشف إن كان فهمك صحيحًا أم لا - بصرف النظر عن أنك كان يمكنك إذا أعجبك الفيلم البقاء وإعادة مشاهدة الجزء الذي رأيته من قبل).

حسنًا... تشبه الحياة في أيامنا هذه فيلم السينما. ندخل الحياة بعدما وقعت الكثير من الأحداث بالفعل، منذ مئات الآلاف من السنين، ومن المهم معرفة ما حدث قبل أن نولد؛ حيث يساعدنا ذلك على أن نفهم بشكل أفضل لماذا تقع الكثير من الأحداث الجديدة.

الآن يجب على المَدْرَسة (بالإضافة إلى قراءاتك الشخصية) أن تجعلك على معرفة لما حدث قبل ولادتك، ولكن لا يبدو أنها تقوم بواجبها هذا بشكل جيد، لأن هناك العديد من الدراسات المختلفة التي تُخبرُنا أَنّ فتيان اليوم اليافعين، حتى أولئك الذين التحقوا بالجامعات، إذا كانوا مثلاً من مواليد 1990 فهم لا يعرفون شيئًا (وربما لا يريدون معرفة شيء) حول ما وقع من أحداث في عام 1980 (ما بالنا إذن بما وقع قبلها بخمسين عامًا). تخبرنا الإحصاءات أنه إذا سألت البعض اليوم من كان "ألدو مورو"2  فسيجيبونك بأنه كان زعيم "الألوية الحمراء" - رُغم أنه لقى حتفه على يد "الألوية الحمراء".

دعنا لا نتطرق للحديث عن "الألوية الحمراء"3: هي مازالت شيئًا غامضًا ولغزًا للكثيرين، مع أنها كانت فقط منذ قرابة الثلاثين عامًا تمثل الحاضر في إيطاليا.

وُلِدْتُ في عام 1932، بعد عشر سنوات من وصول الفاشية للسلطة، ولكني كنت أعرف من كان رئيس الوزراء خلال "المسيرة إلى روما" (ماذا تقول؟).

ولعل المدرسة الفاشية قد علمتني ذلك لتوضح كيف كان هذا السياسي وزيرًا غبيًا وسيئًا (لويجي فاكتا المُلقب بالرعديد) لدرجة جعلت الفاشيون ينجحون في إقصائه وحل محله. هذا صحيح ولكني على الأقل كنت على دراية به.

بالإضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن المدرسة، لا يعرف شباب اليوم ممثلات السينما منذ عشرين عامًا بينما أعرف أنا الكثيرات منهن ممن لَعِبن دور البطولة في أفلام السينما الصامتة قبل مولدي بعشرين عامًا مثل "فرانشيسكا برتيني". ربما يعود ذلك لأني كنت أتصفح المجلات القديمة المكدسة في خزانة منزلنا.

أُريد بذلك أن أشجعك على تصفح حتى المجلات القديمة لأنها وسيلة لمعرفة ما وقع من أحداث قبل ولادتك.

ولكن لماذا من الأهمية بمكان معرفة ما حدث من قبل؟ لأنه في العديد من المرات يكفي معرفة ما حدث من قبل لفهم العديد من الأمور التي تحدث اليوم وفي كل وقت. بالضبط كما في حالة حفظ أسماء لاعبي فرق كرة القدم، تعد هذه أيضًا وسيلة لإثراء وتنشيط ذاكرتنا.

انتبه حفيدي العزيز؛ كل ما سبق لا يقتصر تطبيقه فقط على الكتب والمجلات، ولكنه صالح كذلك للتطبيق على شبكة الإنترنت. والتي يمكنك استخدامها ليس فقط للدردشة "الشات" مع أصدقائك ولكن للدردشة كذلك (إذا جاز التعبير) مع تاريخ العالم: من كانوا الحيثيون؟ ومن كانوا الكاميزار (يطلق عليهم أيضًا "ذوي القمصان")؟ وما هي أسماء سفن كولومبوس الثلاث التي أبحر على متنها في رحلاته الاستكشافية؟ متى اختفت الديناصورات؟ هل كانت هناك دفة في سفينة النبي نوح؟ ما اسم جد الثور؟ هل كان عدد النمور منذ مئة عام أكثر مما هو عليه الآن؟ ما المقصود بإمبراطورية مالي؟ ومن كان يشير في خطاباته كثيرًا إلى "إمبراطورية الشر؟4  من كان ثاني بابا للكنيسة في التاريخ؟ ومتى ظهر ميكي ماوس للمرة الأولى؟

يمكنني الاستمرار في ذكر المزيد والمزيد من الأسئلة بلا نهاية. وستكون مهمة البحث عن إجاباتها دومًا مغامرة شيقة وممتعة. وكلها معلومات جديرة بالحفظ والتذكر.

سيأتي اليوم الذي ستكون فيه متقدمًا في السن وستشعر وقتها كما لو أنك لم تعش حياة واحدة فقط، بل ألف حياة.

سيكون الأمر كما لو أنك حضرت بنفسك وقائع معركة واترلو، وشهدت أمام عينيك اغتيال يوليوس قيصر، وربما تصادف بك الأمر لتقف بعيدًا بعض الشيء عن المكان الذي قام فيه بيرتولدو "الأسود" بخلط بعض المواد في مدفع هاون في محاولته لاكتشاف طريقة يُصنع بها الذهب، ولكنه عوضًا عن ذلك أكتشف خطأً البارود، ليقضي حتفه متطايرًا في الهواء (ليلقى ما يستحقه) .

أما أصدقاؤك الآخرين، الذين لم ينتفعوا بذاكرتهم جيدًا، فسيكونون قد عاشوا حياة واحدة، وأقصد بها حياتهم، والتي ربما كانت وحيدة وكئيبة وجدبًا من العواطف الجياشة.

وصيتي إليك حفيدي العزيز إذن هي ألا تهمل ذاكرتك ومن الآن فصاعدا لا تنسى حفظ أناشيدك المدرسية عن ظهر قلب!

 

الهوامش:

1 - رابط المقال الأصلي:

http://espresso.repubblica.it/visioni/2014/01/03/news/umberto-eco-caro-nipote-studia-a-memoria-1.147715

 2 - رئيس وزراء سابق في إيطاليا

3 -  منظمة إرهابية سرية متطرفة في إيطاليا، تأسست عام 1970.

4 -   مَالى في اللغة الإيطالية تعني الشر...من هنا المفارقة


عدد القراء: 8403

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-