أموس أوز كاتب إسرائيلي يكتبُ لأجْل التعايشالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-05-11 20:40:08

عبد الحكيم برنوص

المغرب

بحلول هذا العام، يُكمل القرن دورة كاملة حول الوعد المشؤوم، الذي مهّد لليهود إقامة "دولتهم" على الأرض العربية. وتسارعت الأحداث الجسام، واستوطن "الكيان" المدجج بالسلاح والعلوم والأدب. تقول زعيمتهم "جولدا مائير" " لو كان الفلسطينيون شعبًا لكان لهم أدب"، هذه صرخة يأس مردودة بالدليل وبالأشهاد. لكن الأهم أن للإسرائيليين كتابهم وأدبهم كذلك، ومن الواجب الاطلاع عليهم ومعرفة إنتاجهم. أموس أوز أشهر الكتاب الإسرائيليين في الوقت الراهن، يكتب عن هذه التجربة الفريدة في التاريخ، ويصارع نفسه ويذبذبها بين الرفض والقبول وحتى التعايش. ( المعرّب).

 

ولد أموس أموز بالقدس المحتلة عام 1939، ويعد أهم الروائيين الإسرائيليين في الوقت الراهن، ألف عددًا من الروايات، لعل أهمها "قصة حب و ظلام" (2003) ومجموعة من القصص من بينها "نمط حياة بدويّ" (2013) التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وبفرنسا سينال جائزة "فيمينا" للإبداع الأجنبي عن روايته "العلبة السوداء" (1985).

ماذا بقي من "صهيونية" مثالية اجتماعية سابقة لقيام دولة إسرائيل؟ هذا استكشاف لنموذج الخائن وأتباعه، غير المعفى من مفارقات تاريخية واضحة.

في قلب الكتاب الجديد (رواية يهودا) لأموس أوز، يكمن التصور الواضح لشكل الخائن، رجل يموت ثماني سنين قبل بداية القصة، "شالتِييل أبْرَفنيل" صهيوني من الجيل المؤسس لدولة إسرائيل، لكنه صهيوني غُفل بالنسبة للجيل الراهن، صهيوني اشتراكي حلم بمجتمع يُدمج فيه اليهود، في طائفة شرق أوسطية، لا دولة.

في سنة 1948، ولأنه كان رافضًا لقيام الدولة، وللحروب التي تبعت ذلك، عُدّ خائنًا، أُهين وشُتم على مرأى من الناس، يعيش مهمشًا، إلى أن يموت منعزلاً، ثلاث سنوات بعد ذلك سنة 1951.

تنفتح الرواية سنة 1959، على الأخرق الصغير "شمويل آش" ذي الخامسة والعشرين، "عاطفي، اشتراكي، مصاب بالربو، ممسوس بالجنون بالفينة والأخرى". آش يطابق تمامًا نموذج الإشكنازيم أكثر منه نموذج الإسرائيليين: رغم يقظة عقله إلا أنه محروم من كل حس عملي يدير به حياته، بعد أن فارقته خطيبته، يصطدم بصعوبة تمويل دراسته ـ يحضّر أطروحة حول الشكل الذي ظهر به يهودا الإسخريوطي في الأدب الديني اليهودي ـ إنه على وشك أن يترك كل شيء.

مصادفة يعثر على إعلان يقوده إلى الوظيفة الصغيرة التي سيرتبط بها، خادمٌ مرافق لعجوز سبعينيّ، خمس ساعات من الجدال اليومي مقابل راتب ومأوى، وما العجوز سوى "غيرشوم والْد"، المناضل الصهيوني القديم، السوداوي كاره البشر، والذي يمضي أكثر وقته، يجتر على الهاتف هفوات السياسة الإسرائيلية وخواء الجنس البشري.

ظل "والْد" الصديق الأثير لـ"أبرنفيل" لمدة طويلة، من غير أن يشاركه أفكاره بالضرورة، يعيش رفقة ابنته "أتاليا"، امرأة في الأربعين، ساخرة وباردة العواطف، سرعان ما تثير إعجاب الشاب "آش".

هذه هي نقطة الانطلاق في هذا الكتاب المركب، المليء بالنقاشات حول تاريخ الصهيونية، والمناظرات حول طبيعة العلاقة بين المسيح و يهودا ، لأنه حتى لو كان "أبرنفيل" من صنع خيال أموس أوز، فإن التيار الفكري الذي يحيل عليه، كان موجودًا حقيقة.

  بالنسبة للغالبية، إن أفكار "أبرنفيل" المبثوثة في الكتاب، مستعارة من "أَحَد حام"، مفكر يهودي معارض للسياسة الصهيونية، والذي يرى في وجود إسرائيل ملجأ (وليس دولة) موجهًا للنخبة الثقافية والدينية القادرة على إحياء وبعث الشتات.

صهيونية "أحاد حام" تفاؤلية وثقافية وعالمية، وتُسجل داخل التقاليد الأوربية الموروثة لعصر الأنوار، قبل أن تحل المأساة بالشعب اليهودي (الكارثة)، وبموته سنة 1927، لم يكن يتوقع مطلقًا، اختفاء العالَم اليهودي من أوربا، الاختفاء الذي جعل أفكاره بلا جدوى.

باختياره إعادة إحياء هذا النقاش، خمس عشرة سنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يكون أموس أوز قد خاطر بالوقوع في مفارقة تاريخية، تطرح مشكلتين: الأولى سياسية والآخرة سردية، مشكلتان يجعلهما ارتباك " آش" وهو يكتشف هذا "الصهيوني المتقلب" غير قابلتين للحل.

في الواقع، هناك مفارقة أخرى، فمنذ فشل "مسار السلام" في شتنبر 2000، الذي صادق عمليًّا على نهاية اليسار الإسرائيلي، فإن الأجيال الجديدة للطبقات المخملية الأكثر تثقيفًا، تُفكك ثقافة الدولة الصهيونية لصالح إعادة اكتشاف يهودية أكثر كوسمبوليتانية (كونية) أكثر ثقافة، وفي بعض الأحيان أكثر تدينا. (لأن الحركة متعددة الأوجه، ولا تنضوي تحت أي شكل سياسي قائم: نجد أيضًا أقوالاً من قبيل "أراضي المستوطنين" وهم يهود متدينون يناهضون، قيام الدولة ودعموا الفلسطينيين ضد التدخل الإسرائيلي في قطاع غزة، تمامًا كما نجد أنصارًا للتأويل اليهودي للإنجيل في عقر دار الحركة التي من المفروض أن نسميها باليسار المتطرف).

إن رواية أموس أوز، تبقى ـ تقريبًا ـ غير مفهومة، في غياب الخلفية الحالية للتساؤلات العميقة التي يطرحها الإسرائيليون حول ما هم عليه الآن، وحول الإرث اليهودي المركب، الذي طالما حاولت الصهيونية تبسيطه.

(يخاطر القارئ القليل الاهتمام بتاريخ الصهيونية، أو الذي لا يعرف عن إسرائيل غير النزر اليسير، مغربلاً من قبل وسائل الإعلام، يخاطر هذا القارئ بالوقوع في حيرة كبيرة، إزاء العالم  الغريب الذي ينفتح أمامه).

هذا التساؤل، وفي جانب كبير منه، هو حصيلة ارتباك فكري معاصر: الوعي بأن الصهيونية ـ كما تضع هدفا لها، جعل "الوجود اليهودي" قدَرًا، يجب تطبيعه داخل التاريخ ـ فشلت تمامًا، في حين أن فكرة التطبيع نفسها، أضحت في بداية هذا القرن فكرة متجاوزة و تافهة. يجب البحث إذن، عن شيء آخر ذي معنى بالنسبة للجماعة الإسرائيلية، خاصة قاطني دولة إسرائيل.

ينشر أموس أوز هذه التساؤلات، طيلة ستينيات القرن الماضي، وكأن خمس عشرة سنة، بعد "الكارثة"، كانت ضرورية لطرح هذه التساؤلات، إنه يذهب إلى حد تخيل "أبرفنيل" يقر سنة 1948 :  "لقد عمد" الصهاينة" إلى استغلال الطاقات الروحية والمسيحية للكتلة اليهودية"، ثلاث سنوات بعد فتح المخيمات، سيكون وقع الصدمة كبيرًا، أن تُنطق جملة مثل تلك.

إنه عبر الاكتشافات المتتالية لـ"شمويل آش"، ستدور إشكالية الكتاب، وحتى تكون هذه الإشكالية مقروءة ـ وهذا مشكل سردي ـ سيضطر أموس أوز إلى تقريع بطله، حد وصفه بالبلاهة، وفي علاقاته بـشخصية "أتاليا" ، ستظهر النتيجة الأصعب في القراءة، اهتمام "أتاليا" به يستلزم جعلها بمثابة ظل أمومي خادع منزوع الإحساس.

توافرت لهذا الكتاب، كل عوامل النجاح، إضافة إلى باقي الكتب الأخرى، (العلبة السوداء) و(لا تقلْ إنه الليل) و(معرفة امرأة) و خصوصًا  كتاب (قصة حب و ظلام) والتي جعلت من صاحبها كاتبًا كبيرًا.

في أجواء هذه الكتب، نشعر بانعدام حلّ للأشياء، وكثافة بطيئة للّيل، وخلفية للقساوة، لكن لا شيء يسير وفق ما نريد، وكأن الكلّ مفصول عن جوهره، هنا تكمن عمومًا قوة أموس أوز ومقدرته، على صعيد جملة واحدة، أن يجعلنا نعيش ونفهم المجتمع الإسرائيلي، الذي هو مجتمعه في نهاية المطاف.

السؤال هو أن نعرف، ما الذي يجعل "والْد" وابنته الجميلة "أتاليا" مشدودين إلى بعضهما البعض، رغم عزلتهما و خلافهما الدائم، ولعلها أقوى لحظات الرواية، وأشدها تأثيرًا، "إنها أشد تطرفًا من أبيها، يقول "والْد"، لقد قال لي يوما إنّ وجود اليهود في إسرائيل غير عادل". وفي جوابه عن سبب بقائها في إسرائيل، يقول: "لا أدري، حتى قبل حصول الفاجعة، لم نكن قريبين من بعضنا، ومع ذلك كنا نتفاهم تمامًا، ليس كَحَمٍ وكنّته، بل كثنائي مسنِ يعينهما الروتين، في تجاوز الاحتكاك، هي تعتني بي، وأنا أتركها وشأنها".

"والْد" و"أتاليا" يجمعهما موت ولَدِ "والْد" "ميشا"، زوج "أتاليا"، الذي قُتل خلال حرب 1948 في ظروف قاسية، بعد اتباعه نصائح أبيه، (تزعم الرواية أنه قُتل ومُثّل به من طرف "العرب"، بعد إلقاء القبض عليه جريحًا).

هذا "اليومي" المصنوع من الحِداد والألم وضرورة القبول بالآخر، الذي هو الخلاصة الكبرى لمتن الحكاية، ونقيضها في الآن نفسه، هو جوهر المجتمع الإسرائيلي، هو في الوقت نفسه وعلى مر السنين، ما يشيع "انفتاحه السياسي": لن تتوحد كلمتنا، قد يكره بعضنا الآخر، لكننا نعيش معًا، إنه الجوهر الذي يختفي اليوم، والذي يحاول أموس أوز إنشاءه مرة أخرى.

الهوامش:

مارك وايزمان  Marc weitzmann

Le Magazine Litteraire

العدد: أكتوبر 2016


عدد القراء: 4698

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-