بارث متحدثًا عن رامبو: باسم التاريخ ينبغي أن نحاكم الأسطورة الباب: مقالات الكتاب
عبد الحكيم برنوص المغرب |
ترجمة: عبدالحكيم برنوص
رولان بارث، المطارد الكبير للأساطير، لم يكتب كثيرًا عن آرثر رامبو، إلا في أثر مقارنة أجراها بين قصيدة مشهورة لهذا الأخير (القارب السكران) وقصيدة (نوتيلوس) للكاتب الفرنسي العجائبي (جيل فيرن)، ضمّن ذلك في كتابه المعروف "علم الأساطير" (1957).
قبل ذلك بثلاث سنوات، وبعد الضجة الكبرى التي أحدثتها أطروحة إيتيامبل، حول أسطورة رامبو، حيث تم تفكيك أكثر من خطاب مموِّه حول الشاعر، كان بارث سباقًا، إلى حمل القلم، ليدافع عن شاعره، وهو العمل الذي عُدّ بلا فائدة من لدن مجلة "الأخبار الأدبية".
بدوري سأعتبر الأمر خدعة، هل من الممكن الاستمرار في طرح ـ بدون اعتبار الأمر استفهامًا ـ الحقوق "الأبدية" للأدب مقابل تلك التي للتاريخ! هل من الممكن أن نطرح في العدم، الإقبال الجماعي والاجتماعي على رامبو! حدّ الإبقاء على الشغف الفردي الذي يُعد رامبو مجرد مصدر للإلهام!
بالنسبة "للأخبار الأدبية" فإن الشمس توقفت منذ زمن طويل، منذ كان الشاعر "ظاهرة" (حسب تعبير جورج ديهاميل) بدون سبب وبدون نهاية، منزوعًا من كل تاريخ سابق أو لاحق، وبالطريقة الصوت السماوي، الذي يقرع آذان القارئ الفرد المعزول عن التاريخ والمجتمع.
لنعترف هنا بالطابو القديم الذي يفسر عملية الإبداع: من جهة، من المستحيل أن نطرح جانبًا ربات الشعر اللواتي ألهمن رامبو، واللائي يحظين بتقدير كبير اليوم، وفي الجهة الأخرى، نجد تجمعًا بشريًّا شرهًا يُلقي بظلاله وتنكره وحماقاته.
إننا نرى إلى أي حد أسطوري وقاتل هذا الرفض المستخِفّ بالأسطورة: فصل الأدب عن تاريخه، وهو نوع من "التعزيم"، من أجل طرد ما هو عقلاني، وتجريده من كل قوة نقدية، التي هي مأثرته الوحيدة، ومحاصرته في هذا العالم البريء للإلهام، حيث يستطيع "التأثير" من دون خطر، ليس هناك سلوك أقلّ إنسانية من ذلك الذي يرفض التاريخ.
إن تحول ثورة رامبو لصالح الأسطورة والنظام، هو حدث تاريخي إنساني أكثر أهمية من "ظاهرة" رامبو نفسه، ولكن المشكلة ليست معارضة الأسطورة في حقيقتها، مثل المرض مع الصحة، وحدها الحقيقة الكبرى للتاريخ ـ حيث تأخذ الأسطورة مكانها، فباسم هذا التاريخ ينبغي أن نحاكم الأسطورة، وليس مطلقًا باسم ماهية رامبو نفسه: ينبغي أن نحاكم انحراف الأسطورة عن مسارها، و ليس أخطاءها، علينا أن نُدينها، وهي الإدانة التي تربطنا أكثر بمجتمعنا.
بالنسبة لي، مثلاً، عندما يتم الكشف عن أحدث الاستكشافات المرّيخية، أو عندما يتحدثون عن الزواج القادم لمارلين براندو (ممثل أمريكي راحل) أرى جيدًا أنه ينبغي الإبلاغ عن ذلك، والإبلاغ هنا توضيح، وأجدني الآن، أكثر من أي وقت مضى، مرتبطًا بزمني، ملتزمًا به، في إطار جدل حقيقي من الولع.
لأنه، وفي إطار اعتبار الأسطورة استلابًا إنسانيًّا، فإن الإنسان هو الذي يظهر داخل كل أسطورة، أكره هذا الاستلاب، غير أني أرى اليوم، أنه داخل هذا الاستلاب فقط، يمكن أن نعثر على الإنسان.
بالطبع لم تكن أسطورة رامبو مُرضية، إنها مصنوعة بسوء نية، وكثير من الحماقات والأكاذيب، ولكنني أعترف الآن: إنني أبدي كثيرًا من التشوق، كثيرًا من "الجوع" لأسطورة رامبو، أكثر من رامبو نفسه.
الإنصات لرامبو، امتصاصه، العثور على رامبو الحقيقي، يظهر لي، مؤخرًا، أقل إنسانية، من اعتبار رامبو "ملتهَمًا" من قِبل الناس، من قِبل أصحاب التاريخ الواقعي، وليس من قِبل أصحاب المعابد الأدبية، فلا خلود للأدب إلا في أسطورته.
هوامش:
رولان بارث / ظاهرة أم أسطورة؟
مجلة letters nouvelles 1954
مجلة Le monde ( عدد خاص عن آرثر رامبو )
عدد يناير /مارس 2017
تغريد
اكتب تعليقك