سيمون دو بوفوار: المتمردة التي عاشت مثلما كانت تفكرالباب: مقالات الكتاب
محمد الأزعر أستاذ الفلسفة وباحث في علوم التربية- المغرب |
آمنت سيمون دو بوفوار Simon de beauvoir بأن الوجود سابق على الماهية، «وأن المرأة لا تولد امرأة، وإنما هي تصبح كذلك». ما تعنيه دو بوفوار بذلك هو أنه لا توجد طريقة يجب على المرأة أن تكون عليها، ولا توجد صورة محددة مسبقة للأنوثة، ولا شكلاً مثاليًّا على المرأة أن تتطابق معه، فما توجد عليه المرأة اليوم هو شيء مصطنع اجتماعيًّا، وفي غالب الأحيان تم اصطناعه من قبل الذكور. فالدراسة التي قامت بها للنوع الاجتماعي، سببت لها مجموعة من المشكلات، فحرمت الكنيسة كتبها، ونعتها الشيوعيون بالانهزامية. تأثرت بالفلسفة الوجودية، فلا يستقيم الحديث عن الحركة النسوية ، دون ذكر اسم سيمون دو بوفوار، إنها المرأة التي بدلت كلما في وسعها من أجل تقديم إجابات شافية عن سؤال: كيف بنى العقل البشري فكرة النوع؟ فمن تكون إذن هذه الوجودية سيمون دي بوفوار؟
إنها شخصية أثارت الكثير من الجدل حول حياتها وكتبها وآرائها وعلاقتها الإنسانية، وخاصة علاقتها بالفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، إنها امرأة أصيلة لا تشبه إلا نفسها، عاشت مثلما كانت تفكر، حفرت دي بوفوار في مجموع الموروثات الثقافية التي شكلت مفهوم "الأنثى" في العقل الأوروبي الكلاسيكي، وتناولت النقد الخلاق لأطروحات الكتاب المقدس حول المرأة، مستندة إلى فحوى النص الثوراتي الذي يرجح كفة الاعتراف بالتفوق الذكوري كأساس قديم وراسخ(1). يعد كتابها الشهير "الجنس الآخر" "le deuxième sexe" الصادر سنة 1949، بمثابة الدستور المؤسس للحركة النسوية في العالم، هذا الكتاب عبارة عن تحليل مفصل حول اضطهاد المرأة، بهذا الكتاب فتحت أبواب الحرية أمام النساء، عالجت فيه وشخصت الأوضاع التاريخية والاجتماعية والنفسية، والخضوع الثقافي للمرأة ولمجمل هاته الطابوهات الصماء. ففي هذا الكتاب ذهبت دو بوفوار إلى أن المرأة كانت على الدوام تابعة للرجل، إن لم تكن جاريته، ولم يتقاسم الجنسان العالم أبدًا بالتساوي، رغم أن وضع المرأة قيد التطور، فهي معوقة بشكل كبير. ففي كل البلدان تقريبًا لا يماثل وضعها القانوني وضع الرجل وغالبًا ما يجردها من الامتيازات بشكل كبير. وحتى عندما يتم الاعتراف بحقوقها بشكل مبهم، تمنع العادات والتقاليد المتأصلة هذه الحقوق. لقد أظهر الذكور في كل مكان وزمان الرضى الذي يشعرون به لإحساسهم بأنهم ملوك الخليقة، ويقول اليهود في صلاتهم الصباحية «الحمد للرب الهنا وإله كل العوالم لأنه لم يخلقني امرأة» وكان أفلاطون يشكر الآلهة على النعم التي فاضت بها عليه، وأولها أنها خلقته حرًا وليس عبدًا وثانيهما رجلاً وليس امرأة(2).
في القرن الثامن عشر تناول المسألة بموضوعية رجال ديمقراطيون للغاية، فانهمك ديدرو Didrot مع أخرين في اثبات أن المرأة كائن بشري كالرجل. بعد ذلك بقليل دافع عنها ستيوارت ميل Stuart mill بحماس. لكن هؤلاء الفلاسفة غير المنحازين كانوا قلائل، لكن في القرن التاسع عشر أصبح صراع القضية النسوية من جديد صراع أنصار، حيث كان اسهام المرأة في العمل المنتج إحدى نتائج الثورة الصناعية ، وغذا خصومهن أكثر عدوانية.
لكن البرجوازية تمسكت بالأخلاق القديمة التي ترى في تماسك الأسرة ضامنًا للملكية الفردية فطالبت بضرورة عودة المرأة إلى المنزل وخاصة أن تحريرها أصبح تهديدًا حقيقيًّا، وحاول الرجال ضمن الطبقة العمالية ذاتها لجم هذا التحرر لأن النساء يبدون لهم منافسات. ولكي يثبت معارضو الحركة النسوية دونية المرأة، استخدموا كما في الماضي ليس فقط الدين والفلسفة واللاهوت ولكن العلم أيضًا، البيولوجبا وعلم النفس– التجريبي(3).
فالمرأة لم تكن تشعر بزهو الإنجاب، كانت تشعر أنها لعبة سلبية لقوى مجهولة، والولادة المؤلمة هي حادث غير مجد ومتعب، حتى فيما بعد أعطيت للطفل أهمية أكبر، ولكن على كل حال، الولادة والإرضاع ليس «نشاطًا» إنهما وظيفتان طبيعيتان، ولهذا لا تجد المرأة فيهما باعثًا لتأكيد وجودها(4). فالبرجوازية المحافظة ترى في تحرير المرأة خطرًا يهدد مصالحها. كما يخشى بعض الذكور المنافسة الأنثوية لدرجة صرح أحد الطلاب في مجلة لبدولاتان L’hbdo-latin «بأن كل طالبة تحتل مركز طبيب أو محام تسرق منا مكانًا»(5). فهناك من كان ينعت المرأة بمخلوق ثانوي لأنها خلقت بعد آدم. لكن السؤال المطروح ما هي الظروف التي تحد من حرية المرأة، وهل بالإمكان تجاوزها؟ فالماركسية وخاصة إنجلز Engels رسم تاريخ المرأة في كتابه "أصل العائلة" يتعلق هذا التاريخ أساسًا بتاريخ التقنيات. ففي العصر الحجري، عندما كانت الأرض مشاعًا لكل أفراد القبيلة، كانت القوى النسائية متساوية مع الذكور أي هناك مساواة بين هاتين الطبقتين. لكن باكتشاف النحاس، والقصدير، والبرونز، والحديد، وظهور المحراث، انقسمت رقعة الزراعة، واشتدت الحاجة الى عمل مكثف لإزالة الغابات، واستثمار الحقول. عندئذ لجأ الرجل إلى خدمات رجال آخرين جعلهم عبيدًا. وظهرت الملكية الفردية، فأصبح الرجل سيد العبد والأرض، مالكًا أيضًا للمرأة. كانت تلك «الهزيمة الكبرى للجنس المؤنث» من هنا أصبحت المرأة تابعة للرجل، حيث حل حق الأب محل حق الأم، وأصبح انتقال الأملاك من الأب إلى الابن وليس من المرأة إلى عشيرتها(6).
فقدر المرأة إذن ارتبط عبر العصور بالملكية الفردية، بما أن قدوم هذه الملكية أنزلها من عرشها. ويمتزج تاريخها في قسم كبير منه بتاريخ الإرث، فلن يقبل الرجل اقتسام أمواله ولا أولاده مع المرأة. فالنظام الأبوي القوي، انتزع من المرأة كل حقوقها حول امتلاك الأموال، والأولاد إنها مقتلعة جذريًّا من المجموعة التي ولدت فيها وملحقة بمجموعة زوجها، لقد اشتراها كما يشتري رأسًا من البهائم أو عبدًا، فتصبح المرأة جزءًا من ممتلكات الرجل. فدنيوية المرأة حسب فولتر Voltaire وديدرو Diderot صنعها المجتمع. حيث كتب ديدرو «أرثي لحالكن أيتها النساء» وهو يعتقد أن قسوة القوانين المدنية في كل العادات اجتمعت مع قسوة الطبيعة ضد النساء. لقد ثم معاملتهم كأشخاص حمقى ويظهر هلفتيوس Helvétius أن سوء تعليم المرأة هو سبب دونيتها، ويشاطره الرأي دالامبير D’alembert، وأراد كوندورسيه Condorcet أن تدخل النساء الحياة السياسية. واعتبرهن متساويات للرجل ودافع ضد الهجوم الكلاسكي: «إن النساء لا يمتلكن شعورًا بالعدالة، وأنهن يتبعن مشاعرهن أكثر مما يتبعن ضميرهن ... ولكن هذه ليست طبيعتهن بل تربيتهن، الوجود الاجتماعي هو الذي يسبب هذا الاختلاف»(7).
قد نتوقع أن الثورة غيرت مصير المرأة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. احترمت هذه الثورة البرجوازية المؤسسات والقيم البرجوازية، وكانت مصنوعة حصريًّا للرجال. فحتى الأندية النسائية اندمجت بالأندية الرجالية التي ابتلعتها، لأن البرجوازية كانت تدرك التهديدات التي تفرضها الثورة الصناعية التي تترسخ بقوة تثير القلق. فجوزيف دميستر Joseph de maistre وهو مفكر رجعي أسس قيمة النظام على أساس الإرادة الإلهية. يقول بولاند Bonald «الرجل للمرأة كما المرأة للطفل، وهكذا فالزوج يحكم، والمرأة تدير، والأطفال يطيعون والطلاق ممنوع، والمرأة قعيدة البيت». فبطريقة ساخرة، عبر بلزاك Balzac، فكتب في «فيزيولوجية الزواج» مصير المرأة ومجدها الوحيد هو جعل قلوب الرجال تخفق، المرأة ملكية نكتسبها بعقد، وهي منقولة لأن التملك يحتاج إلى صك، فالمرأة بمعنى الكلمة ملحقة للرجل. ويجعل هنا نفسه ناطقًا باسم البرجوازية التي ازداد عداؤها للحركة النسوية كرد فعل عن تساهل القرن الثامن عشر الذي أعاد الاعتبار للمرأة خصوصًا من قبيل مجموعة من المفكرين والفلاسفة كديدو، ومونتسكيو، دالامبير، كوندورسيه ..... (8).
فالبرجوازية تنصح بإبقاء المرأة ضمن التبعية الكاملة للزوج، يجب منعها من التعلم والتثقيف، ومنعها أيضًا من كل ما يسمح لها بتطوير فرديتها. لكن مقاومة البرجوازية للمرأة لا تستطيع إيقاف عجلة التاريخ، فقد قوض مجيء الآلة، أي أن الانطلاق المباغت للصناعة يتطلب يد عاملة أكثر من تلك التي يؤمنها الذكور، فمشاركة النساء ضرورية، تلك كانت الثورة الكبرى التي غيرت في القرن التاسع عشر مصير المرأة وفتحت لها أبواب عصر جديد. حيث أدرك ماركس وإنجلز مداها ووعد النساء بتحرير يفرضه تحرير الطبقة العمالية. فإنجلز يظهر أن مصير المرأة مرتبط بشكل وثيق بتاريخ الملكية الفردية، لقد استبدلت كارثة نظام الحق الأمومي بالنظام الأبوي وسخرت المرأة للملكية، لكن الثورة الصناعية كانت بمثابة الرد على هذا الانحطاط وأدت إلى التحرر النسوي. وكتب إنجلز engels قائلاً: «يمكن أن تتحرر المرأة إلا عندما تساهم على نطاق اجتماعي كبير بالإنتاج ولا تعود أسيرة العمل المنزلي إلا بقدر بسيط»(9).
لكن بفضل انخراط المرأة في العمل النقابي استطاعت أن تحقق بعض المكاسب تبقى ضئيلة، ففي سنة 1900 تم تخفيض ساعات العمل إلى 10 ساعات في اليوم، وأصبحت الراحة الأسبوعية إجبارية عام 1905، ومنحت النساء عطلة مدفوعة الأجر عند الولادة عام 1909. إذن تطور المرأة جاء نتيجة المساهمة في الانتاج، والتحرر من عبودية الانجاب. أي انعكس ذلك إيجابيًّا على وضعها الإجتماعي والسياسي، لذلك أصبحت مطالب المرأة قوية، وأسمعت صوتها حتى للبرجوازية نتيجة التطور السريع للحضارة الصناعية. فمثلاً خلال الحرب الروسية اليابانية حلت النساء محل الرجال في كثير من المهن، فأدركن ذاتهن وطالب الاتحاد الروسي لحقوق المرأة بالمساواة السياسية بين الجنسين، حيث نجد البند 122 من دستور 1936 الروسي يقول "تتمتع المرأة في الاتحاد السوفياتي بنفس حقوق الرجل في كل المجالات"(10).
وفي الأخير يمكن أن نقول أن سيمون دو بوفوار لعبت دورًا مهمًا في النضال من أجل تحرير المرأة. ويبقى كتابها "الجنس الآخر" "le deuxième sexe" من أعظم كتب الفلسفة المعاصرة في الحركة النسوية، فهذا الكتاب ليس مجرد بيان فلسفي وإنما سياسي كذلك، كتاب يدعو إلى تحرير المرأة. ففكرة عدم المساواة بين الرجل والمرأة ثبتت ثقافيًّا وليس طبيعيًّا كما يعتقد البعض. حيث في البداية كانت المرأة متساوية مع الرجل سواء فكريًّا أو جسديًّا، حتى أصبح هو المسيطر وجعل من المرأة شيئًا أو كائنًا أدنى منه، فسيمون دو بوفوار استعملت جدلية العبد والسيد لحساب اضطهاد المرأة، فالرجل له وعي إمبريالي يسعى دائمًا إلى إنكار الآخر وخصوصًا المرأة(11). فتحرير المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها، الجسدية والنفسية، وهذا الدور منوط بالمرأة الكاتبة التي تملك ناصية اللغة لتبليغ المشاعر والأحاسيس للآخر. وهذا ما جسدته فعلاً سيمون دي بوفوار في كتابتها وخصوصًا كتاب "الجنس الآخر" التي من خلاله فتحت أبواب الحرية أمام النساء، عالجت فيه وشخصت الأوضاع التاريخية والاجتماعية والنفسية والخضوع الثقافي للمرأة ولمجمل هاته الطابوهات الصماء. وبذلك صرخت سيمون دو بوفوار «إن المرأة لا تولد امرأة، و إنما هي تصبح كذلك».
المراجع:
1 - الحوار المتمدن العدد : 1420 .www.ahewar.org/debat/show.art
2 - سيمون دو بوفوار: الجنس الآخر، ترجمة، د. سحر سعيد، مكتبة بغداد. الطبعة الأولى 2015، ص 20.
3 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 22 .
4 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 87.
5 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 23.
6 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 77 .
7 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 145.
8 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 150 .
9 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 154 .
10 - سيمون دو بوفوار، نفس المرجع، ص 172
11 – www.8mars.info :simon de de beauvoir ;femme de lettre et intelectuelle française
تغريد
اكتب تعليقك