الأدب .. طوق النجاة!الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2017-11-07 00:52:58

محمد الدواس

القصيم - رياض الخبراء - abndawas @

سنموت على أي حال، لكني أعتقد إن حالنا سيكون أفضل بكثير لو متنا بعد قراءة الكتب التي نريد، فالموت مع المعرفة خير من الموت مع الجهل.

دائمًا كان الأدب صديقًا للإنسان، وتسليتُه على هامش الحياة، وفي الأوقات التي كان لا بد فيها من الصمت كانت القصص تحكي. لم تكن القراءة في يوم لفئة معينة من الناس، وتأثير الكتب والأدب يتجاوز بكثير محيط القُراء، ليصل أحيانًا لأولئك الذين لا يجيدون سرّ فك الأحرف وتركيبها، ففي ذاكرتنا مازالت حكايات الجدات تأسرنا، و"كان ياما كان" هي المفتاح التي تمتلكه الجدات للأحلام، ونجد أن ما يميز رواية "المسخ" لكافكا أنه يكتب كما تحكي الجدات. "ما إن أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة".

أعتقد أن أغلب الأدباء الكبار الذين كان لهم تأثير كبير في مجتمعاتهم يحاولون أن يكونوا في أعمالهم مُلمين بكل شيء يخص تلك المجتمعات التي يعيشون بها، فتراهم حينًا رجال سياسة، وفي الصفحة الأخرى مصلحين اجتماعيين، وأحيانًا محللين اقتصاديين يتحدثون عن البطالة والفقر، وتجدهم بأسلوب غير مباشر يطرحون طرق معالجة الأخطاء على لسان الشخصيات التي يبتكرونها.

كان الأديب أيقونة من أيقونات الإصلاح الاجتماعي، لذلك نرى إن من أعظم الشخصيات في أغلب الدول العالمية هم الأدباء، فلا أحد يختلف أن شكسبير أحد أهم مفاخر إنجلترا، وبعد تلك السنوات الطويلة مازالت مسرحياته تقام في كل مكان، ومازال هناك، في أحد أجزاء هذا العالم، هاملت خفي يدعي الجنون ليقول ما يريد دون خوف. وحين تزور باريس فستذكرك برواية ديكنز "قصة مدينتين" وستبحث عن بقايا سجن الباستيل الذي مازالت فرنسا تحتفل بذكرى اقتحامه باعتباره اليوم الوطني لفرنسا، وحين تسير في شارع فيكتور هوجو ستتخيل كل الوجوه هي جان فالجان وكل طفلة هي كوزيت.

هكذا يحتفي الغرب بأدباءهم، يجعلون المدن ذاكرة للأدباء. وقد لا يخفى علينا نحن القُراء تلك التماثيل التي صنعت للأدباء حول العالم، وتلك الميادين العامة التي سُميت بأسمائهم عرفانًا لهم.

وفي الآونة الأخيرة نجد أن بعض الدول تُصدر نقود تكريمية عليها صور أدباءها مثلما فعلت كولومبيا حين أصدرت ورقة نقدية عليها صورة غابرييل ماركيز غارسيا.

لو كانوا يملكون مثل أبو العلاء المعري أو الجاحظ ماذا سيصنعون؟

الأديب والمترجم الكبير سامي الدروبي كان مفتونًا بديستويفسكي، وكان له فضل كبير بترجمة أعماله للعربية، فالمترجم مؤلف بشكل أو بآخر، فحين زار روسيا بصحبة زوجته التي تتحدث عن تلك الفترة وتقول: "أنه توقف عند أحد الجسور وبدأ مفتونًا وهو يتحدث عن الأحداث التي كتبها ديستويفسكي عن هذا الجسر في أحد أعماله".

ذاكرتنا نحن القُراء تختلف عن أي ذاكرة، فالطرق تذكرنا بحكاية، والجسور تذكرنا بالحروب، فنعيش تلك القصص التي كتبت وكأننا جزء منها ونحن بعيدين جدًّا، في زمن مختلف. فللكلمات سحرها، تخفي الزمن، وتنقلك بسلاسة بين العصور، وأنت جالس في مكانك محدقًا للسقف ببلاهة متسائلاً كيف يعيد التاريخ نفسه ونحن نقرأه؟

نحن الغارقين في الواقع غالبًا لا نعلم ماذا يحدث في هذه اللحظة الزمنية، فلسنا مثل الأدباء الذين يجيدون فصل أنفسهم عن الواقع لكتابته من بعيد، فالأديب طوق النجاة، فتلك اللحظات خفية، وكواليس العالم مجهولة لكنهم يظهرونها بين كلماتهم وفي أعمالهم آملين أن نعرف ماذا يحدث.

دائمًا كان الأدب رفيقًا للحضارة، وفي لحظات الفشل كان يقف سدًّا منيعًا ضد السوء محاولاً نحت طريق آخر للنجاح، فـ "الكلمة الحرة ضمان".

من الأدباء الذين كان لأدبهم تأثير سياسي كبير الأديب الروسي ديستويفسكي فحين كتب روايته (ذكريات من منزل الأموات) التي قيل بعد صدورها أن: "ديستويفسكي دانتي جديد هبط إلى الجحيم، وهذا الجحيم موجود في الواقع لا في خيال الكاتب". كان يتحدث في روايته عن فترة سجنه الكئيبة في أحد السجون الروسية، وكان لكتابه تأثير سياسي مفصلي، ففي عام 1863م أصدر الإمبراطور الروسي قانون يلغي العقوبات الرهيبة في السجون الروسية بعد نشر الفصول التي تصف العقوبات الرهيبة على السجناء.

لك أن تتخيل حين يخاف الكاتب من الكتابة ماذا سنخسر؟

من صالحنا كمجتمعات، وبالتأكيد من صالحنا كقراء أن يكون هناك مساحة واسعة للحديث، وحتى في مخالفة الرأي، فالحرمان من قول الآراء المخالفة هي أكبر نقمة على الدول قبل أن تكون نقمة على القائل، فالشعوب التي تخاف لن تصنع حضارة، ومن المؤسف أن العقول المبتكرة تهاجر لعدم وجود مساحة كافية من التعبير والعمل الإنتاجي المبتكر.

حين عاد الشاب الألماني إريك ماريا ريماك من الحرب العالمية الأولى أصبح شخصًا آخر بعد الفظائع التي عاشها، عاد إلى مدينته ليمارس مهنة التدريس وكانت أول محاضرة له بعنوان: "كيف نعيش في مجتمع لا نسمع فيه صفارات الإنذار؟" حتى وجه له إنذار بأن يترك الحديث بالحرب. بعدها قرر ريماك أن يكتب رواية ضد الحرب فكتب روايته الشهيرة (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) ويقول ريماك عن أحداثها أنها لم تكن من الخيال بل واقعية. وتعد من أولى الروايات التي تقف ضد الحرب أيًّا كانت مبرراتها، وكان هذا العمل هو محور تغير حياته، فالكتابة في بعض الأوطان نقمة، فبعد نشرها أتهم ريماك بمعاداة ألمانيا، ونشرت بعض الصحف مقالاً لغوبلز يصف الكتاب بالقذارة وأن مؤلفه غير ألماني، ويشكك بمشاركة ريماك بالحرب، وبعد مهاجمة دار السينما التي تعرض الفيلم المقتبس من الرواية بالقنابل، وبعد صعود اللغة السيئة ضد ريماك يقرر أن يهاجر إلى سويسرا، ويقال أنه من أول الأدباء الألمان المنفيين، وبعد صعود هتلر للحكم صدر قرار بمنع الرواية وحرق جميع النسخ الموجودة منها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلقد صدر قرار بسحب الجنسية من الكاتب الذي باع وطنه للأجانب!

هكذا يحدث وقت الجهل، تكون الحرب هي الصواب، ولغة الكراهية سمة من سمات المجتمع، وكل رأي مخالف خيانة للوطن، وهذا نذير شؤم لمن يقرؤون التاريخ والواقع. فدائمًا الاجتماع على ما يجمعنا كمصير واحد أفضل من بحث سبل الخلاف وتأجيجها، والحوار أفضل مئة مرة من إشعال فتيل الحرب.

إذا قرأنا في سير الأدباء سنجد عبر التاريخ إن الكثير منهم سجن سياسيًّا، ومنهم من قتل، وهناك من عذب ونفي، وهناك من حُكِم محكمات غير عادلة، وكذلك سنجد من كرهه مجتمعه ونبذه. فماذا سيكون الأديب غير لعنة تقول الحقيقة لتشقى!

الأعمال الأدبية هي من طرق فهم المجتمعات، فاستيعابها أجدى من محاربتها، فالمجازفة أقل بكثير حين نستوعب الرأي المخالف ونفهم وجهة نظرة، يقول كارل ماركس أنه حين كتب كتابه الشهير (رأس المال) الذي يُعد من أفضل ثلاثة كتب غيرت مجرى البشرية مع (تفسير الأحلام) لفرويد و(النظرية النسبية) لآينشتاين: "لقد تطلعت إلى الشعراء والروائيين أكثر مما تطلعت إلى الفلاسفة والمحللين الاقتصاديين باحثًا لديهم عن تبصرات في دوافع البشر ومصالحهم المادية".

وهذا ليس غريبًا على ماركس فهو يرى نفسه شاعرًا وأديبًا قبل كل شيء.

بائع الكتب المتجول، الأديب الفرنسي أندرية مالرو كان ضد فرنسا في استعمارها لفيتنام وللجزائر، وهذه المواقف لم تجعل الحكومة الفرنسية تجبره على اتخاذ نفس مواقفها أو تنفيه أو تسجنه أو تقود حملات منظمة لتشويه صورته والتشكيك بوطنيته، بل كان من عظمائها، حتى أنه في فترة من الفترات تقلد إحدى الوزارات. كانت فرنسا في تلك الفترة تعرف أن الصديق ليس من يؤيدك في كل شيء، بل من يخبرك حين تخطئ أن تتوقف.

ففي أسوء لحظات التاريخ، وقبل وقوع أي أزمة بشرية يظهر أشباه غوبلز ومكارثي، أفراد ومؤسسات مهمتها تخوين وتجريم الرأي المخالف وصنع أعداء وهميين، فالمكارثية رفضها الغرب بعد تجربة، وغوبلز في كتب التاريخ ليس إلا عار، أما أندرية مالرو فدفن في مقبرة عظماء فرنسا.

أغلب الأدباء العظماء عبر التاريخ كانوا طموحين، فهم يأملون دائمًا في الوصول للمجتمع المثالي، فتجد أنهم يكتبون في أعمالهم شرور المجتمعات من "حقد، حسد، طغيان، فساد" محاولين رسم صورة حقيقية لواقعنا، آملين أن نفهم هذه الشرور التي أصبحت جزء من حياتنا اليومية .. لنتجاوزها، وفي كل مرة نفهم الدرس لكننا لا نجيد تطبيقه، مما يجعلني أعتقد أحيانًا إن عجلة التاريخ معطلة ، لذلك لا نستطيع تجاوز هذه الحقبة السيئة فما أن نصل للجزء الجميل حتى يبدأ الشريط يعيد نفس القصة.


عدد القراء: 4834

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-