صناعة الكتاب في العالم العربي الواقع والمعوقات والآفاقالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 22:38:19

د. مبروك بوطقوقة

الجزائر

هناك إجماع حول تدهور صناعة الكتاب وتأزمها وركودها في العالم العربي وتضرر العاملين فيها، وهناك حالة من التبرم حول حاضر هذه الصناعة  وحالة من الغموض وعدم اليقين حول مستقبلها.

ورغم العديد من المؤتمرات والندوات والملتقيات التي عقدت هنا وهناك حول أزمة الكتاب  إلا أن التساؤل لايزال مطروحًا: أين يقع الخلل؟

وبالرغم من بساطة السؤال إلا أن الإجابة عنه أمر بالغ في الصعوبة. لماذا؟

إن صناعة الكتاب صناعة معقدة ومتشابكة، تتداخل فيها الكثير من الأطراف وتؤثر فيها الكثير من العوامل.

إنها صناعة تتطلب الكثير من المهارات البشرية من مؤلفين وكتاب وعلماء وروائيين وغيرهم.

كما تحتاج إلى الكثير من رؤوس الأموال والمعدات والمواد الأولية، والكثير من العمليات التجارية من إشهار وترويج وتوزيع وبيع، وأخيرًا تحتاج إلى مستهلك من نوع خاص وهو القارئ الذى على الصناعة نفسها تكوينه وإعداده وتأهيله ليصبح قادرًا على استهلاك منتجاتها من الكتب والمطبوعات.

ويخطئ كثيرًا من يظن أن الإجابة على السؤال السابق سهلة عبر ترديد الخطابات السائدة وإطلاق الأحكام الجاهزة من قبيل أن العربي لا يقرأ أو أن الكتب غالية الثمن أو أن التأليف لا يرقى للمستوى المطلوب، لأن الأزمة أشد تعقيدًا مما يظن لأول وهلة وإذا أردنا الإجابة على السؤال:

فعلينا أولاً من الناحية الاستيمولوجية رفض كل تلك الأحكام المسبقة التي لم تتأسس على دراسات ميدانية.

وعلينا ثانيًا أن نفكك عناصر الأزمة ونحللها ونشبعها دراسة وتمحيصًا.

وعلينا ثالثًا أن نجد حلاً لمعضلة قلة توفر البيانات الإحصائية والمعطيات الموضوعية حول الموضوع لأن البيانات المتوفرة قليلة وإن وجدت فهناك علامات استفهام كبيرة حول دقتها.

وانطلاقًا من تعريف "بول أوتليه" للسلسلة البيبيولوجية فإنه يمكننا تصور صناعة الكتاب كسلسلة من الحلقات المترابطة ببعضها البعض وأي ضعف في أي حلقة منها يؤدى إلى انهيار السلسلة بكاملها، وهذه الحلقات هي: 4 حلقات أساسية: مؤلفين، ناشرين، طابعين، مكتبيين.

وكل حلقة من هذه الحلقات تشكل قطاعًا قائمًا بذاته من جهة ومرتهنًا بباقي الحلقات من جهة أخرى.

ومن هنا نكتشف أننا لسنا أمام أزمة واحدة بل أمام أزمات متعددة يجب الاشتغال عليها جميعًا في الوقت نفسه إن أردنا لهذه الصناعة أن تخرج من عنق الزجاجة وأن تقف على قدميها من جديد.

أولاً: أزمة التأليف والكتابة

من منظور أنثروبولوجي نستطيع أن نقول أن الثقافة العربية في أساسها الأول هي ثقافة شفهية لذلك تصدر الشعر باقي الأصناف الأدبية حتى سمى ديوان العرب لسهولة حفظه وتداوله وتناقله، وحتى عند ازدهار الكتابة في العصر العباسي كان التدوين – لا التأليف – المبنى على كتابة المرويات الدينية والمحفوظات الأدبية هو الأساس ويأتي التأليف والنقل (الترجمة) بعد ذلك. ولعل الأمثال الشعبية المتداولة من قبيل "العلم في الرأس وليس في الكراس" و "الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر" خير دليل على صحة ما ذهبنا إليه من سيطرة الشفاهية على مخيالنا العربي، وهو ما يجعل الكتابة أمرًا خارج الممارسات الثقافية في حياتنا العربية، لذلك نجد اليوم أن لدينا مئات الآلاف من الدكاترة وأساتذة الجامعات وليس لدينا ما يقابل هذا العدد الضخم من الكتب والمؤلفات.

بالإضافة إلى ذلك هناك أسباب كثيرة زادت الطين بلة وساهمت في العزوف عن الكتابة والتأليف منها:

1 - عدم وجود سياسات بيداغوجية وتربوية تحث على الإبداع وتنمي قدرات التلاميذ والطلبة على الكتابة والتعبير.

2 - قلة المؤسسات الداعمة للكتاب والمبدعين وقلة تشجيع الأعمال الفكرية والأدبية.

3 - تقصير وسائل الإعلام في القيام بدورها في صناعة النجوم في عالم الكتابة بنفس الكيفية التي  تصنع بها النجوم في عوالم الفن والرياضة.

4 - غياب حركة نقدية قوية تساهم في فرز الغث من السمين وتعمل على رفع مستوى الإنتاج الأدبي والعلمي والفكري.

5 - ضياع الكثير من حقوق الملكية الفكرية وانتشار السرقات الأدبية والعلمية.

6 - كثرة الطابوهات الدينية والسياسية والعرقية وتعدد الخطوط الحمراء التي يجب عدم تجاوزها وهي أمور تنشئ لدى الكاتب نوعًا من الرقابة الذاتية التي تحد من إبداعه وتميزه.

7 - استغلال بعض المحسوبين على دور النشر للكتاب والمؤلفين خاصة المبتدئين والاستيلاء على حقوقهم الفكرية والمالية مما يحول تجربة النشر من حلم جميل إلى كابوس فظيع وتجربة مرة لا يجني منها الكاتب سوى المرارة وضياع الجهد والوقت والمال.

إلا أنه يمكننا القيام ببعض المبادرات التي ستنعش مجال الكتابة وتستحث المؤلفين منها:

1 - منهم تأسيس أكبر عدد ممكن من الجوائز المحلية والجهوية والوطنية والعربية، لما لهذه الجوائز من دور في تحريك عملية التأليف ودفع الكتاب لمزيد من الإنتاج وإذكاء روح التنافس بينهم لتقديم أفضل ما لديهم، على أن تشمل الجوائز مختلف الأصناف الأدبية والعلمية.

2 - على دور النشر دعم الكتاب الناشئين والمبتدئين من خلال برامج تدريب وورشات.

3 - تأسيس برامج تلفزية (على غرار شاعر المليون) تحتفى بالكتاب والمؤلفين وتصنع منهم نجومًا.

4 - تطوير سياسات تربوية وبيداغوجية تعلى من شأن الكتابة والتعبير.

5 - تطوير ثقافة التأليف المشترك والتأليف الجماعي.

6 - تفعيل قوانين حماية الملكية الفكرية وضمان حقوق المؤلفين والمبدعين.

ثانيًا: أزمة النشر والطبع

يعد الناشر الحلقة الأهم في سلسلة صناعة الكتاب فهو بمثابة المايسترو أو قائد الجولة الذى يلعب دور همزة الوصل بين بقية الأطراف بدءًا من المؤلف وصولاً إلى القارئ.

إنه الناشر يستثمر ماله ووقته وجهده ومعرفته ومهاراته في مغامرة معرفية وتجارية تصيب حينًا وقد تخيب أحيانًا كثيرة، أضف إلى ذلك غلاء تكلفة الطباعة لارتفاع أسعار المواد الأولية المستوردة، وارتفاع الضرائب والرسوم الجمركية ومشاكل الرقابة والبيروقراطية ومشاكل التوزيع والبيع، لذلك يضطر الناشر في أحيان كثيرة إلى لعب دور الناشر والمطابع والموزع والبائع في الوقت نفسه ليتمكن من تجنب الخسارة مع ما يجره ذلك من تشتت يمنعه من التركيز على مهنته الأصلية وهي النشر.

لقد وصلنا لمرحلة يجب أن يتطور فيها النشر ليتمكن من رفع التحديات التي تواجهه:

1 - التكوين ثم التكوين ثم التكوين، لا بد من التركيز على التكوين لأنه يمكننا أن نحصل على ناشر محترف من فراغ.

2 - وضع تشريعات تمنع المتطفلين على صناعة النشر وتحمي الناشرين الحقيقيين (شروط معينة).

3 - التكتل واللجوء للنشر المشترك كطريقة لتجاوز الصعوبات خاصة صعوبات التوزيع.

4 - الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في الطباعة مثل الطبع حسب الطلب POD.

5 - تفعيل النشر الإلكتروني وتنظيمه وتأطيره ليساهم في الارتقاء بصناعة الكتاب.

6 - اللجوء للنشر الهجين (ورقي، إلكتروني، صوتي) لاستكشاف أسواق جديدة.

7 - استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للكتاب.

ثالثًا: مشكلة التوزيع والبيع

يعد التوزيع الحلقة الأضعف في سلسلة النشر وربما يعد مسؤولاً عن مشاكل باقي الحلقات، إذ لا وجود لشبكات توزيع محترفة على المستوى المحلى (وطني) فما بالك على المستوى العربي، ولهذا الأمر أسبابه فقد انسحبت الدولة (القطاع العام) التي كانت تسيطر على شبكات التوزيع ولم تتمكن الشركات الخاصة الصغيرة من تغطية العجز لأن العالم العربي كبير المساحة من جهة (الجزائر مثلاً تعادل مساحتها مليونين ونصف مليون كلم مربع)  ومنطقة مضطربة من جهة ثانية (اليمن، سوريا وليبيا)، كما أن التوزيع يتطلب شبكات لوجستية ضخمة (وسائل نقل،  مخازن، عمّال، إلخ)، يضاف إلى ذلك كله عدم وجود قوانين تحكم عملية التوزيع وتحفظ حقوق الناشر والموزع، كما أدى ضعف التوزيع إلى إغلاق الكثير من مكتبات البيع وتحولها لنشاطات أكثر ربحية.

ويبدو حل مشكل التوزيع حاليًا أمر بالغ الصعوبة ويحتاج إلى قرارات جريئة من قبيل تدخل الدولة لدعم تأسيس شركات توزيع محترفة (قروض، مزايا ضريبية، إلخ).

رابعًا: أزمة القراءة والمقروئية

مع تطور الأجهزة الإلكترونية (محمول) أصبح الإنسان يقرأ أكثر من أي وقت في التاريخ لكن الإشكال فيما يقرأ، فقد ظهرت نوعية جديدة من النصوص التي تنافس الكتاب التقليدي، فقد كان الإنسان لا يقرأ إلا الكتب أما اليوم فالقراءة تشمل أشكال جديدة كثيرة ومتنوعة ولها قدرة تنافسية كبيرة، لذا على دور النشر اليوم استرداد القارئ من خلال مجموعة من المبادرات نذكر منها:

1 - تعميم مسابقات المطالعة ومنافسات القراءة على كل المستويات التعليمية وكل المناطق والبلدان.

2 - دعم المكتبات العمومية ومدها بالكتب والمنشورات.

3 - الإكثار من معارض الكتاب محليًا ووطنيًا ودوليًا والتنويع فيها باعتبارها أجدى الفرض المميزة لاقتناء الكتاب والتقاء المحترفين.

4 - دعم مبادرات القراءة غير التقليدية من قبيل ضع كتاب وخد كتاب ومقاهي الكتب وكتاب ورغيف وغيرها.

5 - دعم مجموعات القراءة من طرف الناشرين ونشر فكرتها وتعهدها بالرعاية والمتابعة.

6 - استغلال المنصات الإلكترونية من قبيل goodreads وأبجد ورفي وغيرها في نشر ثقافة القراءة والترويج للكتاب.

7 - إعادة إدماج المطالعة في المناهج المدرسية بطريقة ممتعة ومفيدة.

وأخيرًا تبقى كل الاقتراحات والتوضيحات حبرًا على ورق إن لم تجد وراءها رجال يسعون لتجسيدها على أرض الواقع وهنا نقترح توصيتين نراهما مهمتين جدًّا ونأمل أن يقوم اتحاد الناشرين العرب بمتابعتهما.

أولاً: تأسيس مدارس لمهنة الكتاب تتولى عملية مدّ قطاع الكتاب بالموارد البشرية الضرورية واليد العاملة المختصة والفنية على أن تحاول هذه المدارس تغطية كافة المهن المتعلقة بالكتاب.

ثانيًا: الإسراع في إطلاق مرصد عربي للكتاب يتشكل من ممثلين للمهنة وخبراء ومستشارين ويناط به إجراء تشخيص دقيق لوضعية صناعة الكتاب مدعمًا بالدراسات الميدانية والإحصاءات الدقيقة كما يتولى رسم السياسات واقتراح الحلول واستشراف المستقبل.


عدد القراء: 6633

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-