سحر الدعاية التجارية وتشكيل المخيال الاجتماعي الباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 22:43:04

عبدالكبير شكري

باحث في علم الاجتماع

تمارس الدعاية التجارية اكتساحًا شاملاً لبنيات المجتمعات المعاصرة موظفة لذلك  كل من: التكنولوجيات  الجديدة للإعلام والاتصال، تداخل العوالم الاجتماعية، اتساع  السوق الليبرالية المفتوحة، هيمنة ايدلوجيا اقتصاد الوفرة الممجدة لفكرة تدفق المنتوجات المادية، الثقافية والرمزية، وكذلك خضوع أنظمة الإنتاج لاكراهات التسويق وما يترتب عن ذلك من عنف في المنافسة المفرطة المولدة للحروب الاقتصادية.

وسط هذا الفضاء، يصطدم الفرد في حياته اليومية بنسق متعدد من خطابات الدعاية التجارية بشتى اختلافاتها ووسائل إيصالها سواء كانت مرئية، مسموعة أو مكتوبة، برموزها، بإيقاعاتها، بمحتوياتها الثقافية ومفعولها السيكولوجي. إنه نسق من الخطابات يخترق العلاقات الخاصة والعمومية وفضاءات الميدان العام، ويتجه نحو إضفاء طابع التتجير Commercialisation على دينامية الحياة الاجتماعية واختراق خطوط دفاع الإفراد والجماعات بغية تدجينهم  والتحكم في تنشيط آليات مخيالهم الاجتماعي.

وتوظف هذه الدعاية مجموعة من المعارف العلمية مستوحاة على الخصوص من السيكولوجيا، السوسيولوجيا، العلوم الاقتصادية، علوم التدبير، الفوتغرافيا، الإعلاميات وغيرها. وكأنها توظف بؤرة تلاقي المعارف العلمية، المعيارية والفنية.

ومادامت اكراهات  شبكات التسويق أصبحت أكثر تعقيدًا من عملية الإنتاج، فإن استراتجيات الوصول إلى المستهلك قد تحولت إلى قضية مركزية في انشغالات هذه الأنظمة، ليس فقط للتزاحم الذي تعرفه الأسواق نتيجة تدفق السلع، بل أيضًا لحجم الاستثمارات في مجال الدعاية التجارية وتطور منظومة البحث والتنمية فيها، لتحول هذه الدعاية إلى قاطرة لتحريك الإنتاج والاستهلاك، وتكييف وتدجين أنماط التفكير وأنماط العيش والمعتقدات والتمثلات الاجتماعية بما فيها أحلام ورغبات الجماعات والأفراد.

بهذا، تتحول الدعاية التجارية من مجرد "أداة تنشئ الرغبة في ما نحتاج إليه"  إلى  "الحاجة نفسها التي نرغب فيها لاكتشاف ما نحتاج إليه "، إنها تعمل على تحويل المستهلكين الفعليين والمحتملين إلى كائنات مفعول بها، بتقعيد سلوكها وتشكيل تمثلاتها وترسيمات إدراكاتها لكي تتماشى وديناميات أنظمتها الإنتاجية.

هكذا تلعب العلامات التجارية دورًا أساسيًّا في التمييز بين السلع بإنشاء تراتبية رمزية  بين المنتوجات، حيث  يمارس الرأسمال الرمزي لكل سلعة سلطة رمزية  يكتسبها من قوة سحر العلامة داخل السوق، تلك العلامة التي تميزه  عن باقي السلع الأخرى متحكمة بذلك في درجات ولاء الأفراد لها.

وتقوم قواعد اللعبة في الأسواق بتشييد عالم من التنافس بين المستهلكين يتسم باللمباهاة والتفاخر الرمزي، عالم يمارس عنفًا قسريًّا أو ملطفًا على فئات اجتماعية واسعة يلجأ البعض منها إلى خوض رهان التماهي  بالتشبث بالعلامات التجارية الأكثر "سموًا" تفوق رأسماله الاقتصادي. إنه حقًّا عالم يحكمه  قانون تراكم الامتيازات الدنيوية الذي تلعب فيه استراتيجيات الادعاءات و التمايزات دورًا أساسيًّا بالترفع عن فئات اجتماعية دنيا والتماهي وتقليد الفئات الاجتماعية العليا. حقًّا، أن تكون نبيلاً، كما ذكره بيير بورديو Pierre Bourdieu على لسان جورج ديبي Georges Duby،  معناه أن تبدر وأن تكون مرغمًا على التظاهر وأن يكون محكومًا عليك بالرفعة  والبذخ  والشموخ.

وتقوم الدعاية  التجارية بتكرار خطاباتها الدعائية لنسج سيرورة من الترسيخ والتدجين للأفراد بغية الوفاء للمنتوج وللعلامة التجارية ولمحاربة كل حالات اللامبالاة التي قد يبديها الجمهور. وبهذا المنطق من الاشتغال، تعمل الدعاية التجارية بتنشيط محفزات الاستهلاك وفي نفس الآن تعديل أنماط الحياة اليومية والتحكم في القيم وأنماط التقييم والإدراك والمعتقدات والتفاضل الثقافي.

وفق هذا التصور، فالدعاية التجارية لا تقوم فقط بتشكيل ثقافة السوق وكائن السوق، الذي يتنفس الهواء المركب من الأوكسجين والأزوت والإشهار، وإنما إخضاع  فئات اجتماعية مختلفة إلى لإدماج قسري  داخل نظام سوسيو اقتصادي وسوسيو ثقافي هدفه تغذية آلات الإنتاج  والرساميل المالية.

إنه نظام من المفارقات الاجتماعية، نظام يحفز على الاستهلاك في مجتمع تقل فيه أيضًا الفرص  والإمكانيات الاقتصادية لإشباع تلك الحاجيات. وهذا ما ينتج عنه ذلك الاغتراب الاجتماعي الذي عبر عنه البعض بالاستلاب أو الجهل المضاعف والذي ما فتئ  يتنامى مع تنامي دعاية لا تتوقف في الهيمنة على الوعي الجماعي وتطويعه تبعًا لحاجيات السلط المالية المصرفية التي أصبح ترتبط قوة وجودها بمدى قوة تحويلها للوجود الاجتماعي برمته إلى مجرد دعاية.

تنتج هذه السيرورة العجيبة، نظام محكم قادر على إنتاج وإعادة إنتاج الرغبات والطبائع والتمثلات وصقلها وتكييفها، بعدما تم تدجين خصوصيات الكائن وهدم خطوط دفاعه. بكل وضوح،  نحن أمام عملية دقيقة لتدبير المخيال الاجتماعي للأفراد والجماعات وتحويل الفاعلين الاجتماعيين إلى مفعولين بهم.


عدد القراء: 4573

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-