فهم النصوص في نظرية فريدريك شلايرماخرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-02-11 22:52:23

د. خالد برادة

كاتب وباحث أكاديمي

إن وقوف الباحث على المعرفة الكافية بتراجم الأعلام، وما حفلت به سيرهم، كفيل بأن يبصره بالرواد منهم في كل عِلم، والمساهمين فيه بنصيب وافر، وكثيرًا ما وجدنا دراسة العلم تمهد السبيل للإحاطة بالخلفية الفكرية له، وتجلياتها فيما عُرف به، ليحصل الباحث على مبتغاه من وراء معرفته بالمفكر الذي كان تواقًا إلى الإلمام بترجمته، ومن ثَمَّ تُتاح له مزيّة الإحاطة بما اشتهر به ذاك العَلم؛ ولكنه بعد الظفر بمراده، قد يجد نفسه واقفًا على تربة غريبة، وسالكًا سبيلاً غير مألوف ولا نافذ؛ فإنه والحالة هذه، لا بدَّ أن يكون رابط الجأش، وأن يلج إلى التعرف على الفكر الآخر ببصيرة من أمره، وهذا مبحث مهم للطلاب الشادين، والمتمرسين في البحث العلمي على السواء، حتى إذا كانوا أمام مبحث فلسفي علمي فإنه يتطلب عليهم أن يبادروا إلى الكشف عما تستدعيه الدراسة المستفيضة حول شخصية معينة، التي طرحت نظرياتها في جانب من جوانب الفكر؛ ولقد ارتأيت أن أعرض من بين الأعلام الذين اهتموا بتأويل النصوص، والذين عمدوا إلى الإعلاء من (الهرمنيوطيقا) -التي هي في أوجز تعريف: اتخاذ طرق لبناء قوانين تساعد على إدراك عملية الفهم للنص بعامة، والديني منه بخاصة، بالاعتماد على التأويل- واحدًا من أبرز مؤسسيها، وهو الفيلسوف الألماني فريدريك شلايرماخر (Frederic Schleiermache)؛ وإني إذ أعرض نظريته التأويلية في فهم النصوص سواء أكانت بشرية أم دينية، فإني أنبه إلى أنه لم يُميز بينهما، وهذا هو شلايرماخر الذي وصفه بعض من كتب عنه بأنه يعد مؤسسًا للهرمنيوطيقا العامة، وممثلاً للرومانسية منها خاصة، وقد بذل جهدًا في رؤيته إلى عملية الفهم للنصوص، كيفما كانت هذه النصوص.

وقد حاولت أن أستقصي ما كتب حوله، فوجدتني واقفًا على مقالات نادرة منشورة هنا وهناك، وقد غاب عن الكُتاب المهتمين بالهرمنيوطيقا أن يفردوه بمؤلفات ضافية، اللهم ما كان من كتب قليلة عنه1.

لمحة عن حياة فريدريك شلايرماخر:

يُعرف صاحب معجم الفلاسفة شلايرماخر بأنه لاهوتي رومانسي ألماني، ولد في فروكلاف (سيليزيا) عام 1768م... سُمّي (أستاذًا فوق العادة) للاهوت بجامعة هال وأقبل على دروسه جمع غفير من الطلاب، إلاّ أنّ الجامعة اضطرّت إلى تعليق دروسه بعد هزيمة إيينا، فعاد أدراجه إلى برلين، حيث ساهم في تأسيس الجامعة الجديدة وعمل أوّل مدرّس للاهوت بها سنة 1810، وانخرط رفقة شتايم وهمبولت في عمليّة الإصلاح العقلي والأخلاقي.

   انتخب شلايرماخر سنة 1811 عضوًا بأكاديميّة العلوم البروسيّة، وأصدر مؤلّفات عدّة منها "الإيمان المسيحي طبقًا لمبادئ الكنيسة الإنجيليّة" (1821-1822)، "الجدل" (1836)، "الأخلاق الفلسفيّة" (1836)، "دروس في علم الجمال" (1842)... وكان له تأثير واسع في المذهب البروتستانتي2 .

وقد ظل شلايرماخر وفيًّا للاهوت البروتستانتي"3 ، وهذا ما شهد به ريتشارد كروتر4 ، وهو أحد المتتبعين لأعماله؛ خلافًا لما زعمه نصر حامد أبو زيد5 .

وتجدر الإشارة إلى أن شلايرماخر عُني بنقل كتب أفلاطون إلى الألمانية، إذ عكف على ترجمتها إلى هذه اللغة، وكانت وفاته في برلين عام 1834م.

شلايرماخر والهرمنيوطيقا:

لن نعدو الحقيقة إذا قلنا إن شلايرماخر يعد من أوائل من جعل فن الفهم والتأويل للنصوص علمًا مستقلاً تحت اسم الهرمنيوطيقا، فهو الذي عمل على نقل ما بشرت به الفلسفة اليونانية عن طريق أرسطو تجاه اللغة والتفسير وفك الرموز والانتقال من الظاهر إلى الباطن، إلى أفق دراسته لطرق الفهم للنصوص، وهذا هو فتح باب التأويل على مصراعيه، الذي أصاب بناره كل قراءة بريئة، ليحولها عن مسارها؛ ويؤكد الدارسون على أنه بالرغم من وجود من سبق شلايرماخر في البحث عن الهرمنيوطيقا، إلا أنه يحتل مكان الريادة في التأسيس لإشكالية علمية مستقلة تخص النصوص عامة، بشرية كانت أو دينية، ومفاد هذه التسوية بين النصوص، هو ما ذهب إليه في زعمه من أن كُتاب النص الديني هم بشر أيضًا، وقد نتفق معه إذا كان يقصد ما أصاب التوراة والإنجيل من تحريف، وفضلاً عن ذلك فهو يؤكد على ضرورة دراسة حياة المؤلف، ليكون على بصيرة من أمره أمام فهم النص بشكل جيد، وهذا ما حدا به إلى أن يتصور مع الرومانسيين أمثاله بأنه "يمكن فهم المؤلف بأفضل مما فهم به هذا الأخير نفسه، وقد كان هدف الهرمنيوطيقا عند شلايرماخر هو فهم المؤلف أحسن مما يفهم نفسه"6.

إن نظرة شلايرماخر إلى الهرمنيوطيقا كانت بناء على وصفها بفن الفهم، معتبرًا أن الهرمنيوطيقيا لم يكن لها وجود كمبحث عام، فليس هناك سوى أفرعها المنفصلة، وهو بذلك يعلن في جملة واحدة عن هدفه الأساسي، ألا وهو: "تأسيس هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم"7، ويؤكد شلايرماخر على أن هذا الفهم هو فهم واحد من حيث ماهيته، سواء أكان النص تشريعيًّا أو نصًا دينيًّا أو عملاً أدبيًّا، فعلى الرغم من الفروق بين هذه المجالات إلا أن وراء هذه الاختلافات تكمن وحدة أصيلة، فجميع تلك النصوص تمثُل في جسد لغوي، ومن ثم فلا بد من استخدام النحو لكشف معنى العبارة، فالفكرة العامة تتفاعل مع البنية اللغوية لتُكوِّن المعنى، أيًّا ما كان صنف النص.

   وينظر شلايرماخر إلى الهرمنيوطيقا العامة بأنها لم يكن لها وجود سابق، فلم تكن هناك إلا أفرعها كالهرمنيوطيقا الفيلولوجية (فقه اللغة)، واللاهوتية، والقانونية، ومن هنا فقد عمل جاهدًا على تأسيس الهرمنيوطيقا التي لم تكن موجودة، وهي الهرمنيوطيقا العامة، حتى عُدَّ مؤسسها، وقُرن اسمه بها.

وهكذا يتأكد لدينا أن الهرمنيوطيقا في رؤية شلايرماخر هي عملية: تلقي القول وفهمه، فعملية الفهم عنده هي: فن الفهم؛ وللوصول إلى فهم النص، يطرح شلايرماخر سؤاله: كيف يتم على وجه الدقة فهم العبارات والكلمات، منطوقة كانت أو مكتوبة؟ ويخلص إلى أن الفهم هو علاقة حوارية، بين طرف متحدث وآخر مستمع، ويعد هذا الأخير متلقيًا لسلسلة مكونة من الكلمات، ويمكن للسامع أو القارئ أن يستشف معانيها، وانتهى به المطاف إلى أن يعد أن الهرمنيوطيقا هي فن الإصغاء.

وإذا تقرر أن فريدريك شلايرماخر هو مؤسس الهرمنيوطيقا العامة، فإن ما توصل إليه بفن الإصغاء يوحي بأن المصغي أو المتلقي يمارس عملية التأويل التي يعدها شلايرماخر فنًّا يهتم بطريقة الاشتغال على النصوص، وذلك بتبيان بنيتها الداخلية والوصفية ووظيفتها المعيارية والمعرفية، وليس غريبًا أن يذهب شلايرماخر إلى هذا التصور باعتباره من البربوتستانتيين، الذين دفعوا الهرمنيوطيقا "دفعًا جديدًا بالرجوع إلى حرفية الكتابات المقدسة كما مارسها الإصلاحيون من البروتستانت بدخولهم في جدال مع عقيدة الكنيسة وكيف عالجت النص المقدس وفقًا لطريقة الأناجيل الأربعة"8.

ولقد قامت تأويلية شلايرماخر على أساس أن "النص عبارة عن وسيط لغوي، ينقل فكر المؤلف إلى القارئ، وبالتالي فهو يشير –في جانبه اللغوي- إلى اللغة بكاملها، ويشير –في جانبه النفسي- إلى الفكر الذاتي لمبدعه، والعلاقة بين الجانبين هي علاقة جدلية في فكر شلايرماخر"9، وبعد أن أكد على هذه العلاقة وحاجتها إلى التأويلية، فإنه ينطلق وفي حسبانه تصور معين لجانبي النص اللغوي والنفسي ليضع قواعد الفهم من خلال ذلك التصور، وهذه هي الهرمنييوطيقا الرومانسية، إذ احتلت عند شلايرماخر حيزًا مهمًا في فكره، حتى عرفت به، حيث إنه يعد ممثلاً لها.

لقد كانت محاولات شلايرماخر هي أن يوحد بين الهرمنيوطيقا والفهم، حتى أصبح هذان المصطلحان مترادفان، فقد أخذت الهرمنيوطيقا على يده شكل إعادة تشييد النصوص والبحث عن المحتوى القادم من سوء الفهم؛ وقد استطاع أن يفرض اسمه في عالم الدراسات الهرمنيوطيقية التأويلية، وخاصة الرومانسية منها –كما سبقت الإشارة-، على الرغم من أنه لم ينشر كثيرًا من أعماله الفلسفية؛ إلا أنه يُعدُّ رائدًا في التأسيس لـ"عتبة الانتقال من التأويل اللاهوتي إلى التأويل الفلسفي الإنساني"10، ومن الأمور اللافتة للنظر أن تأويليته للنصوص قامت على "تصوره للفهم بوصفه منبثقًا من الحياة ونابعًا من علاقته بالحياة"11، فهو فهم حياتي، ولكني أتساءل: هل تستقيم الحياة بحجب مبدع النص الأصلي؟ إذ هو جزء من بنات أفكاره، التي لن تجد حياة إلا بوجود حياة صاحبها، وعدم إقصائه، لأنه أجدر من غيره ليقرب إلى الأذهان، ما رمى إليه في لفظه بـأوضح برهان.

ولئن كان –شلايرماخر- لم يبعد صاحب النص كثيرًا، حيث نظر إليه من خلال عمليته الذهنية، فهو أحسن رأيًا ممن أبعدوا صاحب النص، فليت شعري أيُّ حياة تبقى بمحاولة فهم النص بحجب صاحبه الأصلي الذي أبدعه؟ وحرمانه من الحياة بالتطاول على قتله؟ كما تعمد إلى ذلك الفلسفة التفكيكية.

لقد كان لشلايرماخر رأي في بداية نظرياته الهرمنيوطيقية، تفضي إلى اعتبار اللحظة اللغوية عاملاً في فهم النص انطلاقًا من تلمس لغته، ثم ما لبث أن حدث تحول حاسم في فكره، فقد تخلى عن رأيه الأول، وتبنى فكرة أن الهرمنيوطيقا تتجاوز اللغة وتقف على العملية الذهنية للمؤلف، ذلك أن اللغة لم تعد مرادفة للفكر في رأي شلايرماخر، خلافًا لما كان يعتقده في بدايات نظرياته التأويلية للنصوص، وهذا مالم يرُق لبعض التأويليين، ومن بينهم غادامير، فحمل على شلايرماخر بأنه قد ضل الطريق، وشغله غموض الآخر عن غموض التاريخ.

 

الهوامش:

1  - دونك مثلا كتاب: "فريدريك شلايرماخر بين التنوير والرومانسية" لريتشارد كروتر، و"تأويلية شلايرماخر"، لبيترسوندي، المنشور في كتاب "مدخل إلى التأويلية الأدبية" وكتاب: معرفة المعروف: تحولات التأويلية من شلايرماخر إلى دلتاي، لفتحي إنقرو (تعتزم مؤسسة مؤمنون بلا حدود إصداره قريبا)؛ ويعتبر الفيلسوف الألماني دلتاي ممن أولى شلايرماخر باهتمام كبير، فقد كتب عن "حياة شلايرماخر" في جزئين، وغيرها من المؤلفات عنه، وإن كانت غير كثيرة.

2 - انظر: معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط 3، ص 396، 397.

3  -  انظر الحوار الذي أجراه عبد الرحمن أبو المجد مع ريتشارد كروتر؛ المنشور في شبكة الألوكة، على الرابط:

 http://www.alukah.net/culture/0/86678/

4  - انظر كتابه: فريدريك شلايرماخر: بين التنوير والرومانسة؛ نقلا عن المرجع السابق.

5  -  يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد بأن شلايرماخر "يعود إليه الفضل في نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي ليكون علما أو فنا لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص، وهكذا تباعد شلايرماخر بالتأويلية بشكل نهائي عن أن تكون في خدمة علم خاص، ووصل بها إلى  أن تكون علما بذاتها يؤسس عملية الفهم، وبالتالي عملية التفسير". انظر: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، د. نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 7، 2005م، ص 20.

6 - من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، بول ريكور، ترجمة: محمد برادة، وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الاجتماعية والانسانية ، ط 1، 2001م، ص 110، 111.

7  - فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا، د. عادل مصطفى، دار رؤية، القاهرة، ط 1، 2007م، ص 97.

8 - فلسفة التأويل: الأصول، المبادئ، الأهداف، هانز جورج غادامير، ترجمة محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي، ط 2، 2006م، ص 65.

9  - مفتاح التأويل: قراءة في التراث الإنساني، محمد شوقي الزين، ص 8. نقلا عن مقال: الهرمنيوطيقا والمنهج، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية، على الرابط:

 http://www.cerhso.com/detail_dirasat1.asp?idZ=8

10  - انظر: الهرمنيوطيقا والمنهج، مركز الدراسات والبحوث الانسانية، المرجع السابق.

11 - فهم الفهم، د. عادل مصطفى، ص 111.


عدد القراء: 11140

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-