حسين عرب .. عندليبٌ من الزمن الجميلالباب: وجوه

نشر بتاريخ: 2018-02-11 23:14:05

قدري شوقي الراعي

مصر

مع الإقرار بأن الشعر ليس إلا محاولة صادقة ومثيرة وربما مضنية في سبيل سبر أغوار النفس البشرية وكشف حقيقة العالم, وتجربة إبداعية خلاقة تحيك ملامحَها الفكرةُ والعاطفة معًا في تناغم وانسجام, وتركض في ربوعها الروحُ القلقة الحائرة في إثر الانعتاق من أسباب قلقها وحيرتها, فإنه ينبغي الإقرار أيضًا بأن الشعراء أنفسهم ليسوا جميعًا على مستوى واحد من الوهج الفني أو الإبداع الأدبي أو حتى الرضا والقبول عند جمهور النقاد أو عوام القراء.!

ولقد صرَّح الدكتور حمد بن ناصر الدخيل برأيه في مكانة الأدب السعودي الحديث قائلًا: «في الواقع إن بلادنا تتمتع بمستوى شعري جيد, ويعيش بين ربوعها شعراء قالوا الشعر وأجادوه وأخلصوا له, وجاء شعرهم حيًّا نابضًا غنيًا في شكله ومضمونه يعبق بالتجربة المفعمة والمعاناة, ولا يقل مستواه أبدًا عن مستوى الشعر في الأقطار العربية الشقيقة». ولا ريب أن القارئ العربي بمقدوره أن يتلمس وجاهة هذا الرأي بسهولة إذا منح لعقله ووجدانه متعة التأمل في الأدب السعودي عمومًا والشعري منه على وجه الخصوص.

والحق إن الأدب السعودي – في جانبه الشعري -  الذي نما وترعرع خلال هذا العهد الجديد هو أدب موسوم بالخصوصية, شكَّل ملامحه جماعة من الشعراء السعوديين المبدعين, الذين اجتاحتهم ريح التجديد والحداثة كما اجتاحت أقرانهم في مصر والشام والعراق, فطفقوا ينظمون الشعر  من وحي تجاربهم الذاتية, داعين إلى قيم الحق والخير والجمال, متفاعلين مع قضايا وطنهم, ومساندين أمتهم في همومها وآلامها وآمالها.

ومن شعراء المملكة العربية السعودية الذين تميزوا في إنتاجهم, واحتلوا مكانة بارزة في الشعر العربي الحديث الأديب الراحل والشاعر الكبير  حسين بن علي عرب المولود بمكة المكرمة في عام 1338هـ, وهو نموذج مثالي للشاعر العربي الذي نبغت شاعريته, وتعاونت موهبته الوقَّادة مع ثقافته العربية الأصيلة تعاونًا مثمرًا؛ فجادت قريحته بأعذب القصيد, وصارت له اللغة طيَّعة خاضعة, وانقادت له مواكب القوافي؛ فعزفت تجاربه الذاتية ومواقف انفعاله بقضايا وطنه وأمته الإسلامية سيمفونيات شعرية بديعة.

ولقد نزعت القصيدة في شعره نزوعًا واضحًا إلى استعمال الألفاظ السهلة والتراكيب الخفيفة على الأسماع, ومجافاة التكلف في الصورة الشعرية, والتخلي عن المفردة الغريبة, وإن بدا جليًا في أكثر قصائده مجاراته ومشاكلته لكبار شعراء العربية القدامى, أمثال: المتنبي، والبحتري, وأبي تمام, وأبي نواس, وغيرهم, مما يعكس تأثره الشديد بالقصيدة العربية الموروثة, ويؤكد ثقافته العربية والإسلامية.

إن القارئ للمجموعة الشعرية الكاملة لحسين عرب يقف على حدود وملامح عالمه الشعري المتفرد, الذي زاوج فيه الشاعر بين الأصالة والمعاصرة أو بين الاتباع والابتداع على نحوٍ من الجمال والذكاء الفطري بحيث يُخيل للقارئ أن شعره رجع صدى آتٍ من مكانٍ قديم, ولكنه ينطق بلغة العصر , أو أنه شاعر يتحدث عن حاضره بلغةٍ عربية تراثية, ولكنها لغةٌ تتشح بوشاح العصر ومتطلباته الجديدة.!

من أجل ذلك كان عطاؤه الشعري ذا طابع خاص, ينتشر أريجه الفواح في بستانٍ أدبي أنيق, تهب في ربوعه نسائم تيارين عفيين هما: الأصالة والمعاصرة, وتنضبط إيقاعات موسيقاه الشعرية وفق لغة عربية أصيلة وعاطفة صادقة وفكرة هادفة؛ الأمر الذي يدعونا إلى الزعم بأن العالم الشعري لحسين عرب ينتمي في جوهره إلى المذهب الكلاسيكي في الأدب العربي الذي يضبط بوصلته صوب القديم, ويحث الخطو نحو التراث, ويقتفي أثر القصيدة التقليدية, ويحاكي شعراء العربية القدامى الكبار .

ولنتأمل قصيدته في مدح الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – وكيف جاءت ألفاظها من رحم التراث, وكيف بدت فيها تأثيرات المرجعية الثقافية التراثية للشاعر :

إيهٍ  عبدالعزيز  يومــك  يـــوم             الضاد  وعـزمــك  المقدام

شـدتها دولــةً بيمناك تخـتـال             فـداها الأرواح  والأجـسام

عززتها  السيوف شـرقًا وغربًا             وأشـادت  بذكرهـا  الأقلام

يا أبا  الـعُـرْب كيف  قـرّت  بك             الأحداث تترى  وكلها  آلام

إن القصيدة يفوح من ثناياها عبق الماضي التليد, وتستحضر في الأذهان مدائح أبي تمام للأمير أحمد بن المعتصم, والمتنبي لسيف الدولة, وأبي نواس للخليفة الأمين.

ومع ذلك لا نستطيع القول إن وجدان الشاعر كان بمنأى عن التأثر بالتيار الرومانسي واتجاهاته في الشعر العربي الحديث, فبقدر الانقياد الجامح لربة الشعر لديه نحو اتجاه التقليدية أو الكلاسيكية الإحيائية كان تأثره البالغ بالتيار الرومانسي واضحًا, لاسيما في قصائده الغزلية.

ولقد كانت البيئة العربية - خلال الربع الأول من القرن العشرين - تربة خصبة ومناخًا مُعبّدًا لظهور التيار الرومانسي في الحركة الأدبية الشعرية خاصة, وفي الأدب العربي الحديث عمومًا, والذي جاء بمثابة الثورة على القوالب الأدبية المألوفة, والابتداع الشعري الجديد الذي يسعى إلى تقويض أركان المنهج الكلاسيكي, والمذهب التعبيري الذي يُعنى بعواطف الأديب وعالمه الذاتي الموسوم بالقلق والحيرة والاضراب النفسي؛ فالبيئة العربية وما يطوقها – يومئذٍ - من حيوات القلق والاضطراب والظلم الاجتماعي, وما ترتب على ذلك من نشوء موجة متصاعدة من الهجرة إلى أوروبا من قبل جيلٍ من الشباب العربي دفعت به إلى ذلك سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلادهم, أو الرغبة في طلب العلم, أو البحث عن أرض جديدة وحياة أخرى يتلمسون خلالها عالمًا من الكمال والمثل العليا, كل ذلك كان له بالغ الأثر في انتقال التيار الرومانسي من أوروبا إلى البيئة العربية.

ومن نماذج تأثره بالرومانسية قصيدته الموسومة بـ "قلبٌ في الروض", والذي يقول في مطلعها:

يا رياض الحسن,  من زهرٍ ,  ولحنٍ,  وغصونِ

يا مـلاذ  الـــروح, يا جــنة  قــلـبي , وفـتـوني

إن  قلبي  بين  أرجائك  كالــطـيف   الـغــريبِ

ذائب   الأنَّــات يـــذوي  بين  خـفقٍ  ووجــيبِ

ساهمًا كالنسمة الحيرى على الغصن الرطيب

فالشاعر هنا يطلق العنان لقلبه كي يبوح, ويتوحد مع الطبيعة كطفلٍ وأمٍ رؤوم, فكلاهما واحد, لا ينفصل عن تجربته الوجدانية, على غرار الحالمين من شعراء الرومانسية, والقصيدة في مجملها: ألفاظها وصورها, تتشح بوشاحٍ رقيقٍ من الحزن كطابع القصيدة الرومانسية العربية.

وأما عن قناعات الشاعر في قضايا: الحب والمرأة, فقد كانت نشأته في ربوع مكة وقربه من المقدسات الإسلامية علاوةً على مرجعيته الشعرية التراثية سببًا في دفع الشاعر إلى السير على ذات الدرب الذي سار عليه: مجنون ليلى, وكثير عزة, وجميل بثينة, وغيرهم من شعراء الحب العذري العفيف, الذين ضمت قصائدهم الغزلية مفردات الوجد والهيام والفراق والعواطف الطاهرة المشبوبة التي تناجي روح المرأة لا مفاتن جسدها.

وفي قصيدته "زفرة البين" يقول:

                                   فأنتِ بعثتِ الحب يوحي لخاطري

                                                                 شعاعًا  من  الآمال  يجلي الدياجيا

                                  وأنتِ بعثتِ الحب يهدي مشاعري

                                                                 إلى الفن أخاذًا إلى الحسن ساجيا

                                 وأنتِ بعثتِ الحب يرســل من دمي

                                                                 شـعـور  الهوى  شعرًا بحبكِ  شاديا

                                 فلولاكِ لم أرسـل شعوري خــواطرا

                                                              تهيم,  ولم  أنـظـم  دمـوعي  قـوافـيـا

فمفرداته الغزلية مستوحاة من التراث, والحب عنده مرآة تعكس حالة الحب الطاهر العفيف.

وإذا كانت الواقعية في الأدب تستنكر من الحالمين استغراقهم في الذاتية والأوهام, وتُعنى بنقد الحياة وتحليلها وصولًا إلى إظهارها كما هي بحلوها ومرها وآلامها وأفراحها فإن الشعر بمفهومه الإنساني تجربة تتزاوج فيها العاطفة مع الفكرة, وتعتلج فيها الذاتية مع الواقعية؛ لذا فكلاهما عنصر  أصيلٌ ولازم لثراء التجربة الشعرية.

والمتأمل في معجم الشاعر والأديب حسين عرب يجد كثيرًا من القصائد التي تعالج ظواهر جديدة, وقضايا قومية, وهموم وطنية هي من طبيعة الواقع الذي يعيشه الشاعر في عصره, إن آفاق تجربة الشاعر تتعدى حدود النفس والانشغال بآمالها وهمومها إلى حدود أخرى أكثر رحابة, وأعمق أثرًا. لقد كان عرب من أبرز شعراء المملكة الذين واكبوا أحداث أمتهم الإسلامية, وتأثروا بما حلَّ بها في أعقاب 1948, فنظموا القصائد الوطنية التي تكشف عن مآسي الاستعمار, وكانت القضية الفلسطينية في صدارة هذه التجارب الشعرية القومية.

انظر إلى قوله عن فلسطين ومأساتها:

وأذكر فلسطين الذبيحة أرضها      مجلى الردى وسماؤها نيران

دارت عليها الـدائرات فأصـبحت        ينساب  فيها البؤس  والأحزان

وفتًى يُعذب في السجون وغادة      تُسبى  وطـفلٌ دمـعـه  هـتـَّان

وفي قصيدته المطولة "نداء الروح" التي تلاها في مؤتمر الأدباء بمكة المكرمة يناشد العربي قائلًا:

يا  أيها  العـربي,  إنك  سـيدٌ    في العالمين وسوف تبقى سيدا

قل (للصليبيين)  إن أمامـكم      شعبًا  تَصَاوَل  مذهبًا  أو مَحتِدا

قل  (للشيوعيين) إن دماءنا       تـأبـى  لـدين  الله  أن  يـتـبـددا

قل (لليهود)  ترحلوا  فإبـاؤنا       لا يرتـضي للـقـدس أن  تـتهــودا

ليست فلسطينٌ ديارَ جدودكم    إنَّا عـمـرنـاهـا  الـزمان  الأبـعـدا

وأما عن قضايا الروح وما وراءها, ومسائل الحياة والموت والميلاد والقدر , وعالم الملكوت الذي يكتنفه الغموض, فقد شاعت في أشعاره أسئلةٌ حائرة, واستجلاءاتٌ تبحث عن أجوبة, وزفراتٌ حزينة تعكس حالة القلق والحيرة والخوف من المجهول ففي قصيدته "العام الجديد" تنسال تلك الأسئلة الحائرة انسيالا, وتتجلى هذه الحالة المشبوبة بالقلق والخوف:

ما الذي  تخفيه من سر الوجود      بين أضوائك, أو خلف الغمام

لستَ  تدري  مثلنا  كيف المآب      من حـياةٍ يتغشاها   الضباب

ضل  فيها العقل منهاج الصواب      واستوى الماء لديها والسراب

ويقول:

ما الدجى؟  ما النور؟  ما سـرّ  الدنا

ما امتداد العمر ؟ ما الموت السحيق؟

ما النهى؟ ما الفكر ؟ ماهذي المنى؟

شقوةٌ  أمـست بها  الـنفـس تـضـيق

ثم يقول:

هكذا  نمضي  ويمــضي  غيرنــا

  بين   أيـــــامٍ  وأعــــوامٍ  تــــدور

    والمنايا سـكـنت  فيـهـا   المـنى  

    مثلما تسكن في الشوك الزهور

نحن إذن أمام حالة خاصة وفريدة, وذات عطاءٍ شعري متوهج, وروحٍ وثَّابة مبدعة, لم تدع غرضًا من أغراض الشعر إلا وتركت بصمةً عليه, وعندليبٍ ساحر تجول في ربوع بستان الشعر العربي, فحط على غصن الكلاسيكية وأبدع, وعلى زهرة الرومانسية فأبهر , ويمم صوب الواقعية فأشرق وأطرب.

وهو شاعر حُق له أن يثق بموهبته, ويتغنى بشاعريته, ويزهو بملكاته, حين قال:

ومـــا  أنا  إلا   عـــبــقــري   جــنـانـــه

إذا  مـا ادلـهـم  البؤس  أو  أشرق  الهنا

تــؤهـلـــني  للمــجـــد  نــفــــس أبــيــة

ويـأبى  عـلـى  الــدهـــر  أن  أتــوطــنــا

 ومهما يكن من أمرٍ , فإن حسين عرب الشاعر والأديب ورجل الدولة – الذي وافته المنية عام 2002 – كان نموذجًا فريدًا للشاعر المبدع حقيقة لا مجازًا, وإن اختلفت حوله أقلام النقاد إلا أنه يعد علمًا من أعلام الشعر في المملكة العربية السعودية.

وقد فقدته ربَّةُ الشعر ومتذوقو أدبه الجميل, ولكنه سيبقى كعندليبٍ يصدح بألحان عذبة  تحيل ذاكرتنا إلى زمنٍ جميلٍ مفعمٍ بالأحلام والانفعالات الجياشة والمشاعر الصادقة.


عدد القراء: 7769

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-