لوحة طرد الموريسكيين لفيثينتي كاردوتشوالباب: فنون

نشر بتاريخ: 2018-02-11 23:42:03

سعيـد عبيـد

باحث من المغرب

بين سنتي 1612 و1613م أنجز أربعةُ رسامين بَلنسيين سبعَ لوحات زيتية تؤرخ لطرد حوالي مائة وخمسة وعشرين ألفًا (125000) من مسلمي مملكة بَلنسية "الموريسكيين" الذي باشرته السلطات الإسبانية ابتداءً من سنة 1609، عبر موانئ المدينة وسواحل المدن والقرى الأخرى التابعة للمملكة، كدَانية ولَقَنْت والرابطة والفاقِس، قبل أن تتابعَ طرد موريسكيِّي الممالك الإسبانية الأخرى في شبه الجزيرة الإيبيرية كلها، وأغلبيتهم من الأندلسيين الأصليين الذين أسلم أجدادهم، مع أقلية من أحفاد العرب والأمازيغ الفاتحين، مما اعتُبر أكبرَ عمليات التطهير الديني في القرون الوسطى على الإطلاق. وقد أُنجزت اللوحات السبع بطلب من الملك فيليبي الثالث، وهو نفسه الذي أصدر مرسوم الطرد، وأنجزت من لدن الفنانين خِيرونيمو إسبينوثا J. Espinoza، وبيري أوروميغ P. Oromig، وفيثينتْ ميستري V. Mestre، وفرانشيسكو بيرالتا F. Peralta. واليوم ستٌّ منها في حوزة مؤسسة بنك الادخار الإسباني Bancaja ببلنسية، بينما السابعة في ملكية خاصة.

في سنة 1627 كان قد مرّ على الطي النهائي لمأساة الطرد إحدى عشرة سنة، ومع ذلك لم يجد الملك التالي فيليبي الرابع من موضوع يتبارى فيه أكبر رسامي البلاد من أجل الظفر برسم لوحات القصر غيرَ موضوع الطرد نفسه؛ وهكذا شارك في المباراة الفنانون أنغيلو ناردي A. Nardi، وإوخينيو كاخيس E. Cajes، وفيثينتي كاردوتشو V. Carducho، ودييغو فيلاثكيث D. Velázquez، وفاز هذا الأخير في المباراة التي جرت بتحكيم خوان باتيستا مينو J. B. Maino.

وإذا كان يغلب على ظن المؤرخين والباحثين أن اللوحة الفائزة لفيلاثكيث قد احترقت ضمن ما صار رمادًا عندما شب حريقٌ بالقصر الملكي عام 1734م، فإن يد التاريخ أبت إلا أن تحتفظ لنا، في متحف ابْرادو Prado بمدريد، بالرسم التحضيري للوحة فيثينتي كاردوتشو (أو فينتشينزو كاردوتشي) (1576 - 1638) Vincenzo Carducci بالإيطالية؛ فلورنسا/مدريد المعنونة بـ«La expulsión de los moriscos» حيةً تُرزق، لتكون شاهدًا فنيًّا على واحدة من أكبر المآسي التاريخية التي لم تندمل إلى اليوم جراحُها في نفوس أحفاد المطرودين بلا ذنب سوى اختلاف عقيدتهم، لا سيَّما أن الفنان شهِد المأساةَ، إذ كان قد التحق ببلد الوليد بقشتالة وليون قادمًا إليها من إيطاليا رفقة أخيه، منذ سنة 1601م.

ينطبع شعورُ الفزع الأكبر في مخيال المشاهد بمجرد النظرة الأولى إلى اللوحة، على خلاف الانطباع السلمي الهادئ – بل ذي الفُرجة أحيانًا - الذي توحي به اللوحات التي عالجت موضوع الطرد من اللوحات السبع التي أنجزت بطلب فيليبي الثالث، وذكرناها آنفًا. فإذا كان الطابع الرسمي لهذه اللوحات قد يكون حال بينها وبين أن تقدِّم شهادة موضوعية غير منحازة حول طرد الموريسكيين وما رافقه من أحداث ومشاعر إنسانية مؤلمة، فإن عدم تقيُّد كاردوتشو بوجهة النظر الرسمية لرواية التاريخ – رغم ارتباطه بالملوك الثلاثة: فيليبي الثاني والثالث والرابع - ستجعله يركز بالضبط على ما أغفلته اللوحات السبعُ السابقة، وعلى رأسه الوجوه، فوجوه المطرودين التي بدت صغيرة مهمَلة الملامح في تلك اللوحات رغم كِبَر مقاسها (معدل 174×110 سم)، واعتمادها الألوان الزيتية على القماش، ستبدو هنا بادية البروز والتعبير عن كل معاني الحزن والألم والفزع والمفاجأة والغبن والقهر والانسحاق، رغم أن اللوحة اعتمدت قلم الرصاص والألوان المائية الزرقاء فقط، ورغم صِغر حجمها (50.4×38 سم)، على ورق مقوى مصفر.

ففي الصف المَحشريِّ الطويل الممتد في العراءِ يزدحمُ الجميع مشرَّدًا، نساءً ورجالاً، صغارًا وكبارًا، بوجوه كوجوه المنبعثين من القبور، وعيون دامعة، ورؤى كئيبة، وشفاه مقطِّبة ممتعضة. ينظر بعضهم إلى بعض من هول ما نزل بهم غيرَ مُصدّقين، وبعضهم الآخر ينظر إلى المستقبل المجهول عبر السفينة التي لا يبدو منها إلا عواميد صواريها المتدلية، جنبَ سفينة اكتظت عن آخرها براكبيها، والبعض الآخر يحدِّق ساهمًا في الفراغ. وهنا يَلفت الطفل (أسفل اليسار) الانتباه، بنظرته المتألمة إلى الأرض، وبيده التي يتلمَّس بها رأسه من الوجع الذي لا شك أنه أصابه من وعثاء الطريق التي كانت تتطلب المشي أيامًا وليالي عدة، من وسط البلاد إلى أحد الموانئ الشرقية أو الجنوبية التي حددتها السلطات الإسبانية لموريسكيي كل مدينة وبلدة على حدة، تحت طائلة الاستعباد أو القتل لمن تَخلَّف، لينقلهم أسطولٌ من السفن الحكومية والمُكتراة بعد ذلك إلى "بَرْباريا" (بلاد المغرب)، لا سيما إلى المرسى الكبير بوهران الجزائرية التي كانت في قبضة الإسبان أنفسهم منذ احتلتها سنة 1509م، ومن هنالك يتم توزيعهم على طول سواحل البلاد من ليبيا وتونس شرقًا إلى المغرب غربًا.

وعثاء السفر (للتجميع) تبرزها كذلك رثاثةُ أسمال المطرودين، وحفاءُ أرجل كثير منهم، وهو ما يطابق شهادة المؤرخ المعاصرِ لحملات الطرد بيدرو أثنار غاردونا (1555 - 1620م) Pedro A. Gardona، على كون الموريسكيين أُخرجوا "على شكل موكب غير منتظم، واختلط المشاة مع الراكبين، وسادهم الألم، وامتلأت عيونُهم بالدموع، وأحدث خروجهم ضجيجًا كبيرًا وهم يحملون نساءهم وأبناءهم ومرضاهم وعجائزهم، وقد غطاهم التراب والعرق. بعضهم معه عربات، تزاحم هو وأهله فيها... وبعضُهم يمشي على قدميه رثَّ الثياب، وقد لبس حذاء قديمًا... متعَبين خائفين، يعانون من المرارة والتعاسة، ويبحثون عن الظل والماء"! ولا أبلغ من منظر الأسرة البائسة الحافية التي شرعت في الصعود إلى السفينة، حيث ينكفئ الأب على نفسه، متوكئًا على عصاه، وقد احدودب ظهره من ذُل لا من كِبَر، تتبعه امرأته التي تضم مُنكَّسة الرأس وليدَها إلى صدرها، ويسبقه ابنه اليافع وهو يحمل على ظهره مِعزاةً هي كل ما لدى الأسرة من زاد!

المثير للانتباه كذلك أن ما يصحبه معهم هؤلاء المطرودون لا يتجاوز ما يُستطاع حمله باليد من الصُّرر وما شابهها، وهذا إذعان للمرسوم الملكي الذي لم يسمح لهم إلا بحمل ما يُحمل، مع ترك كافة الممتلكات من أراض وعقارات وقطعان ماشية وغيرها مما سيصادَر لفائدة المَلِك والنبلاء والكنيسة في ما بعد. وإذا وضعنا في الاعتبار أن مرسوم الطرد في حال بلنسيةَ مثلاً لم يُمهل الموريسكيين غيرَ ثلاثة أيام، فإننا يمكن أن نتخيل مبلغ ما تركوه خلفهم من ثروات وتجارات ومستحقات وديون، وهو ما يفسّر أن بعضهم غامر بالعودة متنكرًا لاستخراج ما كان خبأه قبلَ الإخراج المباغت الذي لم يَرقْ لجميعِ المشاركين فيه بالضرورة، وهو ما يبدو أن كاردوتشو يحاول إيصالَ رسالته الإنسانية إلى المُشاهد من خلال إبعاد جمهرة الجنود الفرسان الذين يَسوقون جمهور المطرودين في آخر اللوحة، مُقابل إبراز وجهيِ الجنديين (أسفل اليمين) اللذين لا يُبديان حماسًا كحماس الجندي الذي يوجه الجموع إلى السفينة، بل يمكنك أن تُحس فيهما شيئًا من الشفقة التي عبَّر عنها مُخرج فِلم "المطرودون 1609" ميغيل لوبيز لوركا Miguel L. Lorca، حين جعل الجندي المكلَّف بسوْق الأسرة الموريسكية إلى مصيرها يَقبل عَرْضها بإبقاء ولدها "أنطونيو" الرضيع معه لتربيته، لأنه كان مريضًا، والسفرُ لثلاثة أيام إلى وهران قد يقتله، كما قبِل بالاحتفاظ بمذكرات جدّه التي كتبها في الأيام الأخيرة قبل النفي، للرضيع ولذريته الآتية. ولعل تسليط الضوء على مثل هذه اللمسة الإنسانية من الرسام والمخرج، إنما هي للتخفيف من الفظاعات التي ارتكبت من لدن الجنود الإسبان أنفسهم، ومن القراصنة النصارى، في حق هؤلاء المظلومين الذين كانوا موضع رجحان ظنٍّ – نُسجت حوله قصص شعبية كثيرة - بأنهم يحملون معهم ذهبهم وكنوزهم، مما كلَّفهم ألوفَ الأرواح إلى درجة إغراق بعضهم في عرض البحر، ومتاعبَ لا تحصى.

امتد اهتمام الفن التشكيلي الإسباني بالقضية الموريسكية إلى منتصف القرن العشرين، وأنجزت فيها أعمال عديدة، كأعمال فيثينتي لوبيز ( 1772 - 1850) Vicente López، وغابرييل بوتش رودا (1865 - 1919) Gabriel P. Roda، وفرانشيسكو دومينغو ماركيث (1842 - 1920)  Francisco D. Marquéz، ولويس مولينا سانشيز (1933 - 0000) Luis M. Sànchez، وغيرهم. غير أن بصمة قلم الرصاص الإنسانية لكاردوتشو – متأثرة باتجاهه الفني الباروكي في إبراز العاطفة الجياشة والحركة والكثرة - استطاعت أن تجسد معنى فجيعةِ فقدان شبهِ جزيرةٍ كاملة من الجغرافيا التي حوّلها أجدادُ هؤلاء المطرودين جنةً خضراء، وتحفةَ معمار، وكارثةِ هدْرِ ثمانية قرون من التاريخ، بجرة قلم متعصبة، والأنكى من ذلك فظاعة خسرانِ إسبانيا الكاثوليكية بُعدها الإنساني، وتعددها الثقافي، كما يقول المؤرخ المغربي محمد بن عبود، وهو ما تحاول في العصر الحديث التكفيرَ عنه بإجراءاتٍ أهمُّها الاعتذار الرسمي لليهود السفرديم عن طردهم، مع منحهم الجنسية الإسبانية، في الذكرى المئوية الخامسة لحادث الطرد سنة 1992م، مع تنازلها في السنة نفسِها عن كاثوليكيتها المطلقة باعترافها لأول مرة في التاريخ بالإسلام والبروتستنتية واليهودية باعتبارها أديانًا، ثم مصادقة البرلمان الإسباني عام 2010م على الاعتراف بأن الطرد الجماعي لـ"الموريسكيين" من الأندلس يعتبر جريمة، دون أن يرقى ذلك إلى تطلعات ملايين من أحفاد هؤلاء الموريسكيين إلى الاعتذار – على غرار التعامل مع اليهود – ورد الاعتبار.


عدد القراء: 6030

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-