سـاعـة المـطر (قصة قصيرة)الباب: نصوص
أحمد حسن ياسو مصر |
الفقر ولا شيء سواه أطاح بحياتي وأحلامي, أستعمر كياناتي كان مثله كمثل المحتل إذا غزا أرضًا لا يتركها حتى وأن صارت حطامًا فسلب مني خير ما في ولم يتركني ولن يتركني حتى بعد أن تركت له موطن مولدي مغادرًا منها مهزومًا منتكس الرأس بعد موت أبي وبقائي رفقة أمي التي أجبرتنا أنا وأخوتي على العمل كي يتسنى لنا تحمل أعباء الحياة ومتطلباتها. ولم نرى الرفاهية التي نسمع عنها فكانت حياتي كلها شقاء.
أجبرتني ظروفي أن أغادر بيتي وأرضي وأصدقائي أو ما كان لي من أصدقاء كي أبحث عن فرصة لحياة أفضل إلا أنه لاحقني حتى صرت أنا عنونًا له. ورغم أني حصلت على عمل إلا أنه بالكاد يكفي لدفع إيجار حجرتي, تلك الحجرة الصغيرة التي أكلت الرطوبة جدرانها ورغم ذلك لم أهنأ بها وحدي فقد شاركني فيها بعض الحشرات التي كانت تبحث عن مأوى.
افترشت مرتبة صغيرة منخفضة من الأرض بلا عمدان ترفعها, وموقد بعين واحدة الذى كان دومًا يشتعل عندما تزداد حرارته حتى صرت أخشاه فوقيت نفسي منه ونئيت بها بعيدًا عنه وتركته لصنع الشاي فقط حتى نسيت مذاق الطعام الساخن ذلك الطعام الشهي الذي كنت أشتم رائحته من نافذتي الوحيدة المطلة على المنور, وكم تمنيت أن يحنو عليّ أحدهم بطبق مما يصنعون.
كنت مشردًا من داخلي, أتمنى ما يتمناه متشردو الشوارع ولكن لا أعيش مثلهم وليس لي حيلتهم, والفوارق التي بيني وبينهم أني أعيش تحت سقف حجرة وأني أحافظ شيئًا ما على هندامي من الخارج بملابسي التي أرتديها بعد أن تغسل وقبل أن تجف.
في تلك الأيام كان موعد الشتاء وقد أقترب من ذروته في ذلك اليوم حيث أشرقت الشمس على استحياء خلف غمامة رمادية إيذانًا بهطول المطر, كنت أخاف الشتاء فشهوره كانت كلها شقاء فلا تمر وأنا بكامل عافيتي لأنى كنت أمرض فلا أذكر يومًا دثرت فيه بدثار ثقيل يدفئ جسدي ليحميني من لفحات البرد القارص. كانت ملابسي خفيفة زهيدة الثمن لا تعفي صدري أبدًا من اختراق البرد إليه حتى لازمني السعال وقد ازداد الوضع سوء من كثرة التدخين, كنت مدخنًا شرهًا مدخنًا تليدًا. حتى أنه ذات يوم قال لي أحد الأصدقاء الدائنين أدخر ما تنفقه على سجائرك لتعفي نفسك بثمنها من بعض الديون. وكان يدخن سيجارته وهو يقدم إليّ نصيحته. من المؤكد أنه لا يعرف ماذا تعني السيجارة بالنسبة لي كونها أكثر من مجرد عادة, إنها أنيسة وحدتي وصديقتي وقت الانتظار وبما إني أطيل الانتظار فهي لا تفارق ما بين أصابعي, ولأني دومًا انتظر شيئًا فهي أيضًا تنتظر لأجلي تحترق معي فكلانا يحترق, وقد أعفي نفسي من الطعام وأكتفي ببعض اللقيمات لأوفر احتياجاتي منها, وعلى كل حال سجائري أيضًا رديئة زهيدة الثمن لا تستحق أن أدخر ثمنها, لا لشيء ولكن لأن الفقير تهون عليه دنياه, فهي ليست بذي قيمة تذكر فهو لما يعتاد الادخار أو الحفاظ على أي شيء, وكل ما يؤتي إليه يذهب أسرع مما جاء.
في ذلك اليوم انتهيت من عملي في الواحدة صباحًا وها قد بدأت حدة البرد تزيد ونشطت سرعة الرياح, حينها نظرت للسماء وجدتها وقد ملئت غيمًا كثيفًا, أيقنت وقتها أنها ساعة المطر.
وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى أمطرت السماء, كانت قطرات ثقيلة عنيفة متدافعة, لمع البرق في السماء فأضاء الأرض المختبئة في الظلام, وعلىَ صوت الهزيم فشق جوف الليل الصامت.
وأنا سائر في طريقي بلا مأوى, فلا يوجد مظلة أحتمي تحتها, وقد تبللت ملابسي تمامًا, حتى حذائي الذي كان يشبه حذاء الجنود ذو رقبة طويلة محكمة الأغلاق بسيورها الكثيرة, ولكنه على النقيض, فمن أسفل قدمي قد تآكل تمامًا, شعرت بوخز في كعب قدمي فعلمت أن هناك حصى أستشعرها, ليست بالصغيرة آلمتني, قيدت حركتي, أبطأت خطواتي, فلم أستطع الاسراع كي أهرب من هطول المطر مع المسرعين بجواري, لمحتهم بعيني, كانا رجلان تجاوزا الأربعين من عمرهم وقد تجاوزا عمري أيضًا بقليل.
كانت ملامحهم سعيدة, ملابسهم أنيقة, مدثرين تمامًا, لم يظهر منهم سوى وجوههم الباسمة, تألمت روحي أكثر مما أتألم لما أنا فيه.
فلماذا اختارني الله كي أشقى في دنياي؟
لماذا لم يدع لي شيء أنعم به في حياتي؟
وأثناء غرقي بماء المطر وغرقي في تفكيري سمعت صوت أحدهما يسأل صاحبه الركوب. فأجابه رافضًا كونه مستمتع بصحبة المطر في ذلك الوقت.
أما أنا مجبرًا على السير تحت المطر وفي قدمي تسكن حصى تؤلمني, لم أستطع خلع حذائي لأتخلص منها, أفعل كل شيء لأني كتب عليَّ شقاء العيش, أسير هائمًا في حياتي, لا أعرف يومًا كنت فيه تعبًا فأخذت وسيلة نقل, ولا أعرف يومًا أن مللت من عملي في منتصف اليوم وتركته, فأنا مجبرًا على كل معاناة أعيشها.
حاولت أن ألحق بخطاهم لكن خطاي كانت وئيدة وكلما حاولت الاسراع أبطأتني الحصى, وبما أني عنيدًا اقتربت منهم كنت أود أن أنظر إليهم, إلى أحذيتهم, كنت أود أن أقترب كي أئنس بهم, حتى استسلمت تحت وطأة المطر, تحت وطأة الفقر مجبرًا على تلك الحياة بالصبر, وكأن الصبر هنا تلك الجرعات المسكنة التي نتجرعها حتى يتحقق الأمل.
سمعت مكابح سيارة تصرخ كما لو أنها تصارع بألا تصطدم بشيء.
انقطعت أنفاسي من صوتها المفاجئ, وحيث أني كنت في منحنى من الطريق فلم أبصر ما حدث, وما هي إلا خطوات حتى وجدت ما لم أتوقعه حتى أنني كذبت نظري, هذان الرجلان؟!
صدمتهم سيارة مسرعة, وقد سالت الدماء منهما, وشخصت أعينهم.
وقف لفيف من الناس يتفحصوا أنفاسهم, ولكن لا شيء سوى رائحة الموت المفاجئ.
كنت واقفًا على مقربة, فلم استطع جمع شتات فكري, أفقت وأنا أنظر إلى حذائي, أضغط على كعب قدمي, أتحسس تلك الحصى التي أبطأت سرعتي.
عنادي كان يدفعني لألحق بهم, والأفكار المتسارعة تدفعني خلفهم, لكن الله أراد أن يلقنني درسًا لن أنساه ما حييت, كنت غاضبًا من كل شيء, من كل ما حولي ومن ملابسي وظروفي وحذائي المتأكل, وتلك الحصى التي أبطأت خطواتي لمصير مجهول.
تغريد
التعليقات 7
تسلم خيالك يا استاذنا بس كبرلنا القصه يا كبير المطر والوقت والناس القليله اللي في الشارع تخليك تفكر في اي حاجه واصغر حاجه تخليك تركز مع التفاصيل حتي لو صغيرة
سملت يمناك يا ابو حميد جميلة جدا
رووعه يا احمد ..مضمون وكلمات واشلره اكتر من رائعه . بالتوفيق دايما يا حبيبي
رائعة يا احمد ..لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع
قصه رائعه رب ضارة نافعه شكرا لكاتب القصه
لو اطلعتم الغيب لرضيتم بالواقع سبحان الذي قسم الارزاق لو اعطى الفقير لتجبر ولو حرم الغني لتمرد احسنت يا احمد وربنا يوفقك للافضل يارب
الكاتب المحترم : أحمد حسن ياسو اقسم بالله هذه القصه خلتني في حال افضل واقول لنفسي الحمد الله على كل شئ وربنا دائماً كريم بعباده احسنت يا احمد
اكتب تعليقك