قناع تأنيث الذات في قصيدة نزار قباني - دراسة جدل بنية الشعرية و الأنثى في القصيدةالباب: مقالات الكتاب
د.خالد زغريت قاص وناقد وباحث أكاديمي في مجال الأدب والتربية، وعضو هيئة التدريس في كلية الآداب جامعة حماة |
مدخل:
مهما اختلف النقاد في تقييم شعرية نزار قباني فإن معارضوه ومؤيدوه يتفقون على استثنائية انتشاره وتلقيه، وهذا الاستثناء الشعري يرتكز في العمق على إستراتيجية فنية تولي الأهمية لاستثارة القارئ، وترى القصيدة فاكهة شعرية تنتج اللذة وتدرك بها، وهذه ميزة مسجلة لنزار قباني بامتياز، وهي تستدعي إعادة قراءة تجربته الشعرية من خلال بنية تكوينها قبل الخوض في فضاء مظاهرها وآفاق طروحاتها الملتبسة، وإن دراسة البنية الشعرية والتماس تجلياتها هو في الحقيقة متن السؤال الجوهري في فرادتها، ومدخلنا لاستقصاء تفاصيل هذه البنية، وجدل تكوينها الشعري في نموذج محدد هو بنية المقابلة الذي يتأسس على استقصاء جدل المرأة و القصيدة في الشعرية، ونزار قباني لا يضللنا في هذا المدخل بل يقودنا إليه وبشموع أيضًا، يقول موحدًا بين القصيدة والأنثى:
«أحبك ..لا.. لأنك تشبهين النساء
وإنما لأنك تشبهين القصيدة»1
* * *
« لا أحد قرأ قصائدي عنك
إلا وعرف مصادر لغتي
لا أحد سافر في كتبي
إلا ووصل بالسلامة إلى مرفأ عينيك»2
إن ذوبان صورة المرأة في صورة القصيدة في شعر نزار قباني حالة جلية لا لبس فيها، تلامس في كثير من مفاصلها تجليات التوحد الصوفي، ونستطيع استشراف هذا التوحد العميق من خلال استقراء جدل بنية الشعرية وشرفاتها الفنية التي وهبت قصيدة نزار قباني خصوصية هويتها الفريدة.
بنية المقابلة في شعر نزار قباني
تقوم بنية المقابلة ـ بصفتها آلية فنية لبناء الشعرية ـ على تناظر بين صورتين ترسم كل منهما حالة تلتقيان في مشهد بنائي يشكل مصدر الطاقة الشعرية، سواء كان ذلك على سبيل التضاد من خلال جمع المتنافرات والمتناقضات، أم على سبيل التناظر أو التوازي حيث يلتقي أفق الصورة الأولى مع أفق الصورة الثانية في نقاط معينة، تتتابع أو تتقاطب، أو تتكامل، أو تتناظر، فتوحدان حالة تشكيلية تثير لوحة تشع عبر المقابلة بين الأفكار والصور، فتصير بنية المقابلة «وسيلة، أو بالأحرى، ضرورة فنية، وبنية فكرية يلجأ لاستخدامها الشاعر، وعندما تتعمق التجربة الفنية أو الفكرية وتتسع أبعادها وتصل إلى حد الاستيعاب الشمولي يغدو بالمكنة معالجة المتباين من الأفكار والصور على صعيد واحد»3. ولقد اعتمد شعرنا العربي في مختلف مراحله الإبداعية على هذه البنية في تكوين الشعرية سواء على التناظر الصوري أم التضاد، يقول الحارث بن حلزة اليشكري في وقفة على الأطلال:
لمن الديار عفون بالحبس آيـــاتـهــا كمــهـــارق الـفــــرس
لاشيء فيها غير أصورةٍ سفع الخدود يلحن كالشمس
تتشكل الشعرية في البيت الأول من صورة أولى (هي الآثار الدارسة) تقابل بالتشبيه صورة ثانية (هي خطوط الصحف الفارسية) فتنتج صورة الأطلال، أما البيت الثاني فيتألف من صورة أولى (هي اسوداد خدود الأصورة) تقابل بالتضاد صورة ثانية (ابيضاض جسم الأصورة)، فتنتج جمال صورة بقرة الوحش التي هي طيف المحبوبة. وهكذا نجد أن بنية المقابلة تتولد في القصيدة من خلال تناسق البناء الفكري والفني في الخطاب الشعري، وقد استلهم الشاعر المعاصر هذه البنية من خلال تجربته الجمالية الوجدانية التي تتشابك مع طبيعة البيئة وموروثها ذاكرتها الفنية والثقافية، والشاعر نزار قباني المتفرد بجاذبية فنه الشعري والتصاق شعره الحميمي مع جماهيريته يتفرّد أيضًا في اختياره بنية المقابلة، وتفعيل جمالها بما يصاقب إثارة متلقيه، وتشكيل لحظات فتنته بشعره فيسعى عبر امتثال هذه البنية إلى بناء التكوين الشعري للمقولة التي يرغب في إزجائها، وتنويرها جماليًا في حواس المتلقي، و إذا عدنا إلى أية قصيدة لنزار قباني ، سنحظى بمجموعة وحدات شعرية تقوم على بنية المعادلة الصورية، ولنقرأ هذا المثال:
«ضوء عينيك ... أم همـــا نجمتان
كلهم لا يرى ... وأنت تراني
لست أدري من أين أبدأ بوحي
شجر الدمع شاخ في أجفاني»4
نلاحظ أن الوحدة الشعرية تنبني على مقابلة بين صورتين: الأولى ترسم حال (طه حسين ):
ضوء عينيك ... أم همـــا نجمتان
كلهـم لا يرى ... و أنت ترانـي
وهي صورة تمثل حال طه حسين بصفته الرجل الكفيف البصر لكنه المستبصر الوحــيد بين المبصرين لقضايا الواقع، وآفاق المستقبل، وأهمية موقفه في تغيير الواقع ونقده الذي تحمله هذه البنية عبر أفق دلالي يركب المتناقضات في بناء ينتج الإثارة (طه حسين (هو) الواحد الأعمى المبصر # كلهم (هم) الجميع المبصرون العميان) تقابل هذه الصورة المركبة صورة ثانية تمثل حال الشاعر الثائر (الواحد) على الواقع المتردي (الكل) (الناقم الحزين على ظلام الواقع الأعمى):
لست أدري من أين أبدأ بوحي
شجر الدمع شاخ في أجفاني
إن المقابلة في هذه البنية الشعرية تتجاوز المقابلة بين حالين، لأنها تنشد بناء مقابلة أخرى بين عيني الرجلين المبدعين، حيث تتحول عينا طه حسن المظلمتان إلى نجمتين تشعان في الواقع المظلم، بينما تتحوّل عينا نزار قباني المبصرتين إلى شجرتي دمع تبرقان حزنهما، ويفضي هذه التقابل إلى تقابل الحقول الدلالية بين الحالتين: [الظلام -الظلم – التردي –الخنوع – الاستكانة] مقابل [التنوير- الضوء - التبصر - الثورة]، وينشأ عن هذا التقابل مقابلة نفسية بين الحالين، إضافة إلى مقابلة حسية لونية بين (الظلام، العمى ولونهما الأسود وبين النور و الإبصار ولونهما الأبيض)، وتتشكل عبر هذه البنى تقابلات أخرى هي تقابلات الرمز (الأبيض/الإبصار الرامز والموحي/بالحياة/ مع الصورة الثانية الأسود/العمى الرامز و الموحي بالموت أي التقابل هنا حالة من حالات التضاد المعمول بها تراثيًّا تحت مسمى بلاغة الطباق. بهذه الآلية تتداخل سلسلة صور جزئية تتقابل لتنتهي بمقابلة كبرى تبني الشعرية التي تبدع إدهاشها وإثارتها وآلاء جمالها. وتماثل بنية المقابلة في شعر نزار قباني المعادلة الكيميائية، فإذا كانت الكيمياء بمعناها العلمي هي معادلة بين مادتين لإنشاء مادة جديدة فإنها شعريًّا معادلة بين صورتين لبناء صورة جديدة للمعنى، تتمثل للمتلقي بآليتها البنائية الموضوعية المنطقية/منطق آلية التعادل/وهذا يعني اعتماد الخطاب العقلي من حيث البناء الآلي والتكوين الجمالي من حيث التخييل وتوليد المعاني، وتنكشف هذه البنية عن جدل التقابل الفكري عبر صورته الفنية لبناء حالة تخييل لا تتقيد بإنشائها الظاهري من الصورية، إذ الصورية هنا بؤرة إيحاء متعدد الدلالات ومتولد باطراد، كما تكشف هذه البنية عن خزين الخبرة الجمالية للشاعر وتجليه الحيوي في الوحدة الشعرية في الآن معًا، وهذا أسلوب إبداعي تقليدي من حيث آلية البناء إلا أنه يتحصل على إبداعية عبر التكوين الاختراقي المفارق للتعادل وبنية التقابلات.
تبدو بنية المقابلة أحد أهم مكونات الإشراقات الشعرية في قصائد نزار قباني، وإحدى أنصع شرفاته التخيلية التي تناغم تكوينه النفسي والجمالي، فهي تجذبه لتعادله مع تكوينه الإنساني والشعري والثقافي حيث يصدر كل ذلك عن كيمياء الخلق للحياة. و يلتمس قارئ نزار قباني اكتناز تجربته الطويلة بهذه البنية وتعويله عليها في شطر مهم من بنائه الشعري، سواء في القصائد المطولة أم القصائد القصيرة، وتتميز هذه البنية عند نزار باحتوائها ضمنًا على بنية الإثارة، أي تصبح بنية الإثارة القائمة على آلية التحفيز والتفريغ بوصفها المدماك الأول للمعادلة الأولى، كما هي في الحال نفسه بنى المعادلة الثانية [العينان العمياوان] (تحفيز) [نجمتان] (تفريغ) ولنقرأ مثالاً آخر:
«أكلت مصر كبدها ... و سواها
رافل بالحرير و الطيلسان»5
المقابلة بين ([أكلت مصر كبدها] وبين [سواها رافل بالحرير والطيلســـــان])
1) أكلت مصر أ – تركيب لم يكتمل معناه يقوم بإثارة الترقب أي ( تحفيز )
2) كبدها ب- تركيب لغوي يتمم معنى التركيب
(أ) يشبع الترقب والتحفيز أي (تفريغ)
تتألف هذه الوحدة من مقابلتين الأولى (1) تعكس صورة فاعل متفان في عطائه،وهي ذات لون أحمر دموي تتألف ضمنًا من تحفيز (أ) وتفريغ (ب) فتكوّن إثارة، والمقابلة الثانية (2) تعكس صورة فاعل منغمس بالرخاء وهي ذات لون أبيض ، تتألف ضمنًا من تحفيز (أ) وتفريغ (ب) فتكوّن إثارة. كما أننا نلمح التضاد في زمن الفعل، في المقابلة الأولى (أكلت) فعل ماض يدل على زمن الماضي أي الذاكرة والثبوت، أما في المقابلة الثانية فاسم الفاعل (رافل) يدل على زمن الحاضر والمستقبل والاستمرار والديمومة. ويعكس الزمان وهو يحضر من خلال تكوينه في بنية المقابلة ـ حيوات تجربة الشاعر الحياتية، ورؤيته الجمالية التي تلتبس ذاته بالقصيدة ، وبالشعرية كونه يسرب ذاته نسيجًا باطنيًّا في البناء الشعري6:
فإذا صرخت بوجه من أحببتهـــم (أ)
فلكي يعيش الحب والأحبــــاب (ب)
و إذا قسوت على العروبة مـرة (ج)
فلقد تضيق بكحلها الأهـداب (د)
أ+ ب = مقابلة (1) و ج + د= مقابلة (2)، و (1)+ (2) = مقابلة (3)
وضمير المتكلم / الشاعر (أنا) يقابل ضمير الغائب /الآخر (هم) = مقابلة (4)
نلاحظ في هذه الأبيات أن بنية المقابلة تتشابك في تشكيل صوري متعدد ومتنوع يعكس تغلغل الشاعر في نسيج شعره حتى تصير (أناه) إستراتيج البناء الشعري لديه كونه ملتبسًا بعلائق معقدة، ونتيجة ذلك تعكس بنية المقابلة مستويات حضور الأنا مقابل الآخر من خلال التكوين الدرامي للمعادلة الأمفي المقطع الشعري، ولنقرأ المثال التالي7:
إنني السندباد ، مزقـه البحــــر (أ)
وعينا حبيبتي المينــــــــــــــاء (ب)
هي: الخلاص، الأمان، الحلم، هي / الأنثى
هو: المغامر الفارس المهزوم، هو/ الذكر
المقابلة بين الهو و الهي = مقابلة العلاقة بين الأنوثة والذكورة.
تتألف الوحدة الشعرية السابقة من مقابلة بين صورتين الأولى تعكس الأنا/بهمومها ومآزقها ومرارة واقعها، والثانية تعكس الآخر الأنثى، هي بوجودها الحلمي الأنوثي الجمالي/الخلاص. لقد بنيت الوحدة الشعرية على مقابلة مركبة بين الأنا والآخر لإظهار العلائق المعقدة التي تجمع بين الذكورة والأنوثة باختلاف همّهما الواقعي؛ أي يتقاطب في عمق البنية الشعرية حضور أنا الشاعر وأنا الأنثى المكمل، فالأنثى تحفر في أنا الشاعر البعد التوليدي الجمالي، الحلمي، وهي جزء من تكوين ذاته وحياته وحلمه، لو تأملنا معنى البناء الآلي لبنية المقابلة في شعر نزار قباني لوجدناه فضاء للمقابلة بين متضادين أو متكاملين؛ أي يتكون من ثنائية متنافرة أو متناظرة أو متكاملة، وتلك حالة أنا المذكر مع هي المؤنث، اللذين بهما تمتد الحياة، ويخصب الكون ويستمر، كما أنه بالتقابل تنبني الشعرية .. تتكوّن ...تمتد ... تستمر وتلك هي كيمياء الكون/الحياة/الشعر، ولأن لحضور الأنثى - بصفته مقابلاً أو معادلاً أو مكاملاً- طغيانًّا وجوديًّا إنسانيًّا جماليًّا، فإننا سنطوف حول جدل بنائها في التكوين الجدلي لبناء المقابلة في شعر نزار قباني.
تجليات إستراتيج الأنوثة في بنية المقابلة
تبدو إقامة الأنوثة في الأشياء قصد بناء جمالها حالة أزلية في الشعر العربي، فالتأنيث لدى الشاعر العربي هو حالة إيجاد معادل للفعل الجمالي في فقه البناء الذكوري للجمال، لأنه لباسه الفني الإبداعي ، فالذكورة في بنية الشعرية ممارسة فعل خصوبي مجرد يتحصل على لباسه الجمالي من المقابل الأنثوي، الذي يعني حضورًا جماليًّا، فالخصوبة الأنثوية فعل جمالي بينما الخصوبة الذكورية فعل تكويني آلي خال من الجمال، قد تكون هذه الحالة ناتجة عن عقدة شعورية تضمر جمالية التذكير، شغفًا بالتأنيث وموازاة لنقصه المشعور بفقدانه، لكن ثمة مقارنة مسكوت عنها في الشعرية إنها جلد الذات الذكوري لصالح تأليه الأنوثة والتغني الأسطوري بجمالياته، وقد راحت تتفاقم هذه الحالة وتسود إلى حد أصبحت مألوفة ومرغوبة، وهي إن دلت على شيء إنما تدل على رغوبية الذكورة بنقيضها المتمم، وشهوة اختراق (تابو) الأنوثة و (طوطمها) المحرم المتلهف له، وهذا يدفع الشاعر إلى منح الأنوثة سمات خارقة للبشرية متأسطرة بلا حدود ومتعالية على الذكورية، التي لا تتجمل بحضور الأنوثة بذاتها على الأقل على مستوى الإثارة الجمالية الشعرية، ونتيجة ذلك سعى الشعراء إلى افتراض التأنيث معادلاً للجمالية، فحتى الأمومة هي أكثر حضورًا جماليًّا من الأبوة أضف إلى ذلك استحضار المفردات المؤنثة وتشغيل، طاقة الأنوثة في الأشياء، ومن ثم أصبحت الأنوثة هي المثير الجمالي في بنية المعادلة الصورية، وهي إستراتيجها الشعري والفني والجمالي:
«الورقة أنثى والاقتراب من ورقة لا تريدنا
هو فعل اغتصاب»8
نتلمس تجليات هذا السياق في الشعر العربي قديمه وحديثه غير أن حديثه استغرقه مفهوم تحرير الأنوثة وإن بعبثية أو ذهنية أو أنانية:
(المرأة العربية تحتضن القصائد كما تحتضن الدجاجة بيضها. أما الرجل العربي فلا عمل له سوى أن يكسر البيض)9
يمارس الشاعر جلد ذاته ليمنح المرأة صورة ملائكية في تطهير هذه الإثمية متكبدًا توهم خطيئة ، بطغيان فريد إلى حد بموّه الذات الذكورية بأنوثة خارجية فأنّث كل شيء حتى الذكورة، وهذا ما جعل الأنوثة في القصيدة الحديثة في غالب منتوجها أنوثة مخنثة لأنها ذات الشاعر المذكرة وذكورته الملفوفة بغلالة الأنوثة وغيومية الأسى عليها فاختلطت الصورة في جذرها الأم عبر توحد شعري يمحو تمايز الذوات، لأنه ينشد الانمزاج المفضي إلى التخنث عبر شذوذ تأنيث الأنا:
«لا تفتح كفك ... واتركني أرعى كالأرانب في غابات يديك الوحشية
لا تغضب مني، لا تغضب فأنا قطتك الشامية»10
يغتصب الشاعر هنا ذات المرأة، و يقيم ذاته عوضًا عنها فيعبر عما يريد باسمها، وتقوم المعادلة الصورية بصفتها بنية شعرية على تعويض الجنسوية بالأنا الذكورية، وتدعي حق التعبير الخاص عنها وامحاء خصوصيات الذوات لتوحيدها المطلق في صورة شعرية تأخذ جمالها من تغلّب التأنيث على التذكير في العمق.
وتنمو هذه الصورة للمرأة في شعر قباني بالتوازي مع انفلاتات التحديث التي غنّجت هذه الصورة كونها أولية حداثية، وتقوّت هذه الصورة من خلال تقنيع الأنا بالأنوثة تمحلاً للشعارات الصارخة التي حملت به شذوذًا مرحلة الحماس الثوري بالتخاطر مع عصبوية التيارات الطارئة التي لقحت النضال الثوري بأجنتها الممسوخة، ولقد كان الشاعر العربي متفجعًا بسبب عقمه السياسي والثوري والحضاري فأصبحت الشعرية مدار الوصفات الحلمية التي تحرره من انعزالية غرائزه وأحلامه المكبوتة عن حياتها التي أخذت مجالها المرضي، وانتعشت كالفطر بين ظلمتي الواقع والتخدير الأيديولوجي المذهّب بالشعارات التي تخادع أوجاعه، وعقديته المجتمعية، فراح الشاعر يلتزم بتعميق عقده الحرمانية وغياهب تابواته في كل ما يصدره زناة التيارات المستوردة من أفكار معسكرة، فمسخ الشاعر ذاته التي دفعها لتتولد لقيطة من زنى تربوي فكري غارق بحماسه، ولنقرأ بوحي هذا السياق سمات صور المرأة البانية بتأنيثها الصوري بنية المعادلة كالتالي:
1 – المرأة أسطورة الخلق الخصب:
تبنى نزار قباني منذ بواكير تجربته الشعرية نهجًا مشاغبًا متمردًا للتحرر والخروج على قوانين المجتمع العربي بحدة، وتوغل عميقاً في تغيير مفهوم المرأة وحريتها، وهذا ما حرضه على الحفر في ماهية التكوين الأسطوري الأولى للمرأة الذي يتأسس على إدراك مشاعي، مؤسطر، يجعلها تتملك طاقة اختراقية في الفعل التغييري:
«قبل أن تصبحي حبيبتي
كان هناك أكثر من تقويم لحساب الزمن
كان للهنود تقويمهم،
و للنصارى تقويمهم،
وللمسلمين تقويمهم،
بعد أن صرت حبيبتي
صار الناس يقولون:
السنة الألف قبل عينيها،
والقرن العاشر بعد عينيها»11
تتشكل هذه الصورة من بنية صورية متعادلة بين إبداع العالم بمختلف حضاراته، وإبداع عيني المرأة للزمن، وهي أي الصورة تنطوي على فعل خلق أسطوري ثوري، وإن كان مشفوعًا بأسطورة الخصوبة الأنوثية، إلا أنها مندغمة بالتذكير:
«يا امرأة سوداء العينين
تساوي عيناها عصرًا
لو عندي امرأة .. مثلك ..
مثلك أنت لكنت هرقلاً .. أو كسرى ..»12
وهكذا يصير الفعل الذكوري هو الفاعل، أما الأنثوي فهو محرّض، وهذا التحريض محمول على سحرية تنفذ من موضوعية الوجود وكون القدرة في الذكورة كامنة محتاجة للتحريض:
«يمطر عليّ كحلك الحجازي
وأنا في وسط ساحة (الكونكورد)
فأرتبك
وترتبك معي باريس
تسقط حكومة وتأتي حكومة
وتطير الجرائد الفرنسية من أكشاكها
وتطير الشراشف من فوق طاولات المقاهي
وتطلب العصافير اللجوء السياسي
إلى عينيك العربيتين»13
يصير هذا التحريض معنويًّا بينما يكون الفعل حسيًّا، ومن ثم تتأسس شريعة المبالغة الشعرية الغائمة بصفتها تجليًا عن شعلة حماسية موسومة بسذاجتها الموضوعية أو بكونها بوارق حلمية سلبية، ويتأتى ذلك من تركة ميراث الأيديولوجية الفاقعة المبتورة عن سياقها الوجودي، إذ يصير فعل الأنوثة هنا مضللاً وهجينًا لأنه صورة وهمية لقيطة ليست من بنات الواقع المجتمعي المحيط ، بل هي صورة امرأة ثقافية مؤدلجة من ورق، وليست امرأة من لحم ودم تعيش في المجتمع العربي، حيث لم يتأت لهذه المرأة أوليات الوعي التحرري، فهي وكما تؤكد الدراسات المجتمعية مرآة مقعرة تعكس بنيتها الأنوثية الجامدة والمثبطة، أي أن الشاعر يقسر على المرأة صورة من ثقافته ينقش عليها أناه الشاعرة الحالمة والمعبأة بنزقها الثوري الذهني الثقافي لا أناها الموضوعية، وهذا ما يؤكده نزار قباني في جل قصائده:
«كفي عن الكلام يا ثرثارة
كفي عن المشي
على أعصابي المنهارة
ماذا أسمي كل ما فعلته؟
سادية
نفعية
قرصنة
حقارة
ماذا أسمي كل ما فعلته؟
فإنني لا أجد العبارة
أحرقت روما كلها لتشعلي سجارة»14
2 – قناع الأنوثة المرأة الثورة /الوطن/الطفولة
تطّرد هذه الصورة وتتضح حينما يقنّع الشاعر الثورة بصورة أنثى، والثورة هنا فعل تذكير كونه ثورة الشاعر العائمة ببناه :
«شرشت بي رعدا و صاعقة
و سنابلاً و كروم أعنــــــاب
شرشت حتى صار جوف يدي
مرعى فراشات و أعشــــــاب
تتساقط الأمطار من شفـتي
و القمح ينبت فوق أهدابــي»15
تحفر الشعرية من خلال بنية المقابلة هنا صورة امرأة معسكرة بثورة من طراز تلك الثورات المحلومة بفعلها السحري التطهيري المطلق المشحون بطوباوية عزيزة على الواقع فأنى للمرأة العربية أن تكون ما كانت هذه المرأة التي لم تكن إلا بنت القصيدة. وغالبًا ما يجد متقصي صورة المرأة في شعر نزار قباني صورة شمولية مطلقة عندما يكون الشاعر إيجابيًّا تجاهها فهي قناع كل جميل ومحبوب أو بانٍ للحلم والثورة، إنها أمومة أحلام الذات الشاعرة واهتماماته، فتصير في القصيدة حبيبة، وزوجة، وأمًا، وقصيدة، ووطنًا، وثورة، إنها مجال شهوة الشاعر للحياة العاطفية والثقافية والأيديولوجية:
«قرأت خرائط جسمك في كتبي المدرسية
و لازلت أحفظ أسماء كل النهور
و أشكال كل الصخور
وعادات كل البوادي
ولازلت أحفظ أعمار كل الجياد
فكيف أفرق بين حرارة جسمك أنت
وبين حرارة أرض بلادي»16
ولنقرأ المعادلة الصورية في المقطع التالي التي تؤنث الوطن والطفولة والثورة والحياة والجمال:
«ألاحظت كم تشبهين دمشق الجميلة؟
وكم تشبهين المآذن ..
و الجامع الأموي ..
ورقص السماح
و خاتم أمي
وساحة مدرستي
وجنون الطفولة
أ لا حظت كم كنت أنثى؟
وكم كنت ممتلئاً بالرجولة»17
يسعّر نزار قباني التأنيث ليشمل كل ما هو جميل، ونفيس، وإيجابي، فهو يحاور بالإقرار تأنيث الزمن والكون:
«ألاحظت أنك صرت دمشق
بكل بيارقها الأموية
ومصر بكل مساجدها الفاطمية
وصرت حصونًا و أكياس رمل
ورتلاً طويلاً من الشهداء
ألاحظت أنك صرت خلاصة كل النساء
وصرت الكتابة و الأبجدية»18
إنها المرأة إستراتيج التكوين، والتحّول، والبناء، والإبداع، فهي أفق المخيلة في البنية الشعرية عند نزار قباني.
3 – صناعة المرأة/مسخ المرأة
تسوقنا قراءتنا لصورة المرأة السابقة إلى استبصار طغيان تصنيع المرأة ثقافيًّا فيسوق الشاعر من خلال تجريدها عن كينونتها الموضوعية وإعادة صناعتها بحاسة ثقافية تنتج وتنتش الأنا، وتقنعها بأنوثة شديدة الصياغة الثقافية والأيديولوجية الفكرية لتحقيقها بصفتها جوهر فن شعري مستحدث، وذلك من خلال استثمار الأنوثة ودلالاتها قبل تحقيق أنوثتها ومن ثم تصير المرآة وليدة بنية ثقافية تطرح معاناة الأيديولوجيا والثقافة المشبعتين لذات الشاعر قبل أن تطرح هموم المرأة العربية و حيواتها و صوريتها لذلك تحضر الأنثى مادة فكرية وصورة شعرية لها لا مادة إنسانية وليدة بيئة معينة، ولنقرأ هذا المثال الذي يرسم امرأة مصنوعة كفعل نيتشوي مجرد من فعلها النسوي معبأة بأداء بطولي فتنازي أسطوري:
«لم يعد بوسع اللغة أن تقولك
صارت الكلمات كالخيول الخشبية
تركض وراءك .. ليلًا ونهارًا
و لا تطالك» 19
* * *
«ألاحظت
كيف تألق وجهك تحت الحرائق
وكيف دبابيس شعرك صارت بنادق
ألاحظت كيف تغير تاريخ عينيك في لحظات قليلة
فأصبحت سيفًا بشكل امرأة
و أصبحت شعباً بشكل امرأة
و أصبحت كل التراث وكل القبيلة»20
إنها المرأة المهندسة بثقافة الشاعر والمصنعة بثقافة فنية القصيدة و مقتضيات سمتها التحديثي، فهي غاية شعرية قبل أن تضيء غائية الأنوثة في الحياة الحرة التي تنضح أحاسيسها وانفعالاتها وإشراقاتها الخاصة الفريدة التي تتجلى من خلال علائق تفاعلها مع الذكورة فتزهر بذاتها لا بذات شاعرها.
ختام
تشكّل الشعرية من خلال جدل تأنيث بنية المقابلة الصورية عند نزار قباني طقسًا إثاريًّا خصبًا يشبع رغبوية القارئ المتحفزة وذلك باستثارة تحفزه الداخلي، وأسئلته الغريزية والحلمية ، فالأنوثة إستراتيج إثاري لشهوة تألق الحواس والحساسية والانفعال لديه، وإمتاعه بلذة تتم بالنسبة للقارئ بإنارة تخيّله، وإشباعه كما تتم بالنسبة للشاعر بالتخلص من أسئلته وإنتاج جمال القصيدة الذي يفتقده ويرهقه بالبحث عنه، مما يجعل الأنوثة لديه فعل إبداع وبناء جمال، لذلك يصير حضور المرأة في البناء الشعري إشباعًا معنويًا للمنتج، والمستهلك، فالشاعر ينتج فيتخلص من مستهلكه الداخلي والمتلقي يسد استهلاكه عبر إنتاجها، فكل من الشاعر والقارئ مدفوع بضرورة إشباع حاجاته وأسئلته ورغباته، الجمالية، الجنسية، الوجودية الإبداعية إلى تحقيق ذاته عبر الإنتاج والتفعيل، وهكذا تصبح صورة المرأة منطوية على إنتاج نفسي ومادي وعاطفي ومعنوي وانفعالي وجمالي كونها حالة/جمال/إمتاع/ لذة/صورة/مادة/حب/حبيبة/اكتمال/إبداع/زوجة/أنوثة/لذة/إرواء/إشـــباع غــريزي/جنس/حــنان اطــمئنان/احتواء/أمومة/حاجة/وضرورة/سؤال بالنسبة للقارئ والشاعر في الآن معًا .. وهكذا يعني استحضار التأنيث استحضار إثارة وإشباع معًا، فتقوم الشعرية بمعادلة نفسانية حلمية المتلقي والشاعر، حيث كلاهما يعيش مقصومًا بين حفز الحاجة وإشباعها، ومن ثم تحقق البنية الشعرية معادلة معنوية للمتلقي وهذا ما يجذبه ويثيره ويشده إلى الارتواء فيتمتع بهذه الشعرية، أي أن حضور الأنوثة حالة بنية شعرية نفسانية معادلة بذاتها، لأنها متكاملة للذكورة، وهي معادلة متناظرة متكافئة، فهي بالنسبة للمتلقي المؤنث مكمل بالذكورة، وإن يطغى التأنيث فلأن الذكورية هي السيدة في راهننا العربي.
الهوامش:
1 - نزار قباني : هوامش على دفتر الشعر ، مجلة الناقد العدد الرابع عشر ، السنة الثانية ، آب 1989، ص5.
2 - نزار قباني :امرأة تمشي داخلي ، مجلة المستقبل ، السنة 6، العدد 283، 24، تموز 1982، ص 6.
3 - د. علي الشرع : بنية القصيدة القصيرة ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، سورية دمشق ،1987، ص28.
4 - نزار قباني : الأعمال السياسية الكاملة ، ج3 ، ط3، منشورات نزار قباني ، لبنان ، بيروت ،1983، ص471.
5 - المصدر السابق ، ص 482.
6 - المصدر السابق ، ص646 .
7 - المصدر السابق ، ص 396 .
8 - نزار قباني : هوامش على دفتر الشعر ، مجلة الناقد العدد الرابع عشر ، السنة الثانية ، آب 1989، ص5.
9 - المصدر السابق ، ص5.
10 - نزار قباني: ديوان قصائد متوحشة ،،ط16، منشورات نزار قباني ، بيروت ، لبنان ،199 ص40.
11 - نزار قباني : على عينيك يضبط العالم ساعاته ، مجلة المستقبل ، السنة 6، العدد282، 17، تموز 1982، ص 6.
12 - نزار قباني : ديوان قصائد متوحشة ،مصدر سابق ، ص130.
13 - نزار قباني :فاطمة في ساحة الكونكورد ، مجلة المستقبل ، السنة 6، العدد 284، 31 تموز 1982،ص6 .
14 - نزار قباني : ديوان قصائد متوحشة ،مصدر سابق ، ص135-136 .
15 - المصدر السابق ، ص 80 .
16 - نزار قباني: الأعمال السياسية الكاملة ، ج3 مصدر سابق ، ص456.
17 - المصدر السابق ، ص460.
18 -المصدر السابق ، ص463 .
19 - نزار قباني : على عينيك يضبط العالم ساعاته ،مصدر سابق ، ص6 .
20 - نزار قباني : الأعمال السياسية الكاملة ، ج3 مصدر سابق ، ص461 .
تغريد
اكتب تعليقك