نحن الكتبالباب: مقالات الكتاب
عبدالرحيم نورالدين المغرب |
برنار فيربير
ترجمة: عبدالرحيم نورالدين
برنار فيربير Bernard Werber المولود بتولوز (فرنسا) يوم 18 سبتمبر 1961، كاتب، صحفي، رسام ومخرج. اشتهر بثلاثيته عن عالم النمل والتي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. تصنف كتبه في إطار الخيال العلمي، إلا أنه غالبًا ما يحب وصف أسلوبه بـ"فلسفة- تخييل". من بين مؤلفاته: النمل (1991)، يوم النمل (1992)، ثورة النمل (1996)، النوم السادس (2015). يروي فيربير في هذا النص حكاية الكتاب الذي تحدى جميع الصعوبات وصمد في وجه الرقمي.
أنا كتاب وأنا حي.
تنشأ الأنواع وتختفي بمرور الوقت.
كان يُعتقد أننا، نحن الكتب الورقية، سنخسف ومع ذلك، فالبشر من لحم ودم، هم الذين طُردوا من التطور.
كيف جرى هذا الانقلاب الفجائي؟
ينبغي أولاً تذكر كيفية ظهور صانعينا، وكيف اخترعونا.
ظهر البشر الأولون على وجه الأرض منذ 7 ملايين سنة (بحسب أصدقائي، كتب التاريخ الأكثر علمًا). في تلك المرحلة كانوا بالكاد يتكلمون، كانت تصدر عنهم خشخشات من الحلق لتنبيه بعضهم البعض إلى المخاطر أو الإشارة إلى أنهم يريدون التزاوج.
لنُقر بذلك بوضوح: في تلك المرحلة، لم تكن قصص الحب تَجِد مادة رومانسية كثيرة. لا قاموس، لا نحو، لا قدرة على استحضار مواضيع مجردة: لقد كان البشر الأولون ضعفاء في الأدب، ينبغي الاعتراف بذلك.
كانوا يتواصلون خاصة من خلال شم الظهر وفلاية رؤوسهم. كانوا وسخين، خائفين وعنيفين.
ثم ظهرت الكتابة منذ 10000 سنة في شكل لوحات جصية مرسومة بالدم، بالفضلات وبالفحم. كان سلفي الأول عبارة عن رسوم على جدران كهف، كانت آنذاك تَقص حكايات متعددة الشخصيات والمغامرات. خرجات صيد. حروب. رؤساء منتصرين. أحلام. طبعًا لقد هدَّأ ذلك من روعهم، طمأنهم ووحدهم. منذ ذلك الزمن، كانت للحكايات هذه القدرة: هزم القلق خلال تشغيل المتخيل.
ثم ظهرت الكتابة على ألواح الصلصال أو على لوحات الخشب تلك هي أصولي، السومريون هم من جعلنا نظهر بفضل الكتابة المسمارية، أي في «شكل مسامير». وهكذا حررت أول وأكبر قصة معقدة: ملحمة جلجامش، حكاية سفر فرد منهم إلى السماء.
لكن تَطورَ أسلافي "ما قبل الكتب"، بدأ بصعوبة كبيرة؛ فبعد البردي جاءت الرقوق (من جلد الخروف، والعجل، والحمار أو الظبي) التي استعملها الإغريق والرومان. لقد كانت متينة جدًّا، وكانت تسمح بمسح النص الأول من أجل كتابة نص جديد (مبدأ الرق الممسوح).
منذ 2000 عامًا، تم تجميعنا في قرية كتب كبيرة وعجيبة حيث تمكنا من التكاثر، "عاصمتنا الكتبية" الأولى: م. أ. ك.، مكتبة الإسكندرية الأولى! آه كم كنا سعداء في هذا المقام السحري... في شكل لفات متزاحمة، قادمة من العالم قاطبة، في الظل، مستعملة من لدن بشر تلك المرحلة الأكثر ذكاء. للأسف، جاء بشر آخرون، متعصبون دينيًا، غيورون من معرفتنا وخائفون من تعلم الشعب، وقرروا حرقنا.
خلال عصر البشر الوسيط، منذ 1000 سنة، اخترع الورق ومكنت الأديرة من انتشارنا الواسع بين السكان.
كانت مرحلة توسع، بالنسبة لنا، ولم يكن ينقصنا سوى المطبعة لنعرف أخيرًا نموًا ديمغرافيًا. ظهرت المطبعة عام 1450 تبعًا لتقويمهم، بفضل المدعو غوتنبرغ. كانت النهضة بالنسبة لنا.
في البداية، طبعت نسخ من الإنجيل، تلتها روايات، ثم أشعار وأخيرًا موسوعات. كان صنفنًا يتنوع، بينما كان قراؤنا يتضاعفون. كانت سلطتنا عظيمة. حتى الأطفال كانوا يقرؤوننا.
كان بإمكاننا، نحن الكتب، في هذه اللحظة، الاعتقاد أننا ربحنا الجولة. غير أن الديكتاتوريات، ابتداء من 1930، قررت ضرورة حرقنا في الساحة العامة، فكانت محرقات الكتب التي قضى فيها الكثير منا (غالبًا الأكثر فطنة) حرقًا.
في جميع الأنحاء تقريبًا، قُتل الطابعون، والكتاب، والصحفيون والكتبيون، أو أُرغموا على إيقاف نشاطهم. لم يكن الديكتاتوريون يحبوننا لأنهم كانوا يخشون أن نُحول الجمهور إلى بشر أذكياء وأن تتكون لدى هؤلاء، في ما بعد، الرغبة في الثورة.
كان الديكتاتوريون يعرفون: «فتح كتاب، يعني فتح العقول».
بعد حربهم العالمية الثانية، عشنا فترة استراحة وتوسعًا جديدًا، فهم صانعونا أخيرًا أننا ضروريون في الصراع ضد الظلامية، وجودنا نفسه لم يعد محط تساؤل.
أصبح لنا في مجال نقل القصص منافسة السينما، والراديو، والتلفزة. أعلن خبر موتنا مرارًا، لكننا قاومنا. كنا الوحيدين القادرين على منح أكثر من سبع ساعات من التسلية المتواصلة! ثم... منذ أربعين سنة ظهر الكتاب الرقمي. لقد كان عبارة عن أصناف من «نحن» لكنها «منزوعة المادية». لم يعد هناك لا ورق، ولا مداد ولا مكتبة.
عُوضنا بالقارئات الإلكترونية، باللوحات الرقمية، وبالملفات التي كانوا يتبادلونها مجانا من خلال تقنية "الند للند".
من جديد بدا وجودنا محط تساؤل. من جديد أُعلن اختفاؤنا المبرمج. وقيل عنا لقد «بطل استعمالنا».
نحن أيضًا صدقنا ذلك، وينبغي الاعتراف بأن توزيعنا في العالم عرف تباطؤا تدريجيًا وبلا مراعاة.
أغلقت محلات بيع الكتب، أغلقت المكتبات وفقد الناس هواية جمعنا في صالوناتهم. صار الناس يعتبروننا سلعة باهضة الثمن، وأننا معرقلون، سريعو الزوال ومتجاوزون.
فقد البشر عادة لمسنا، وشمنا، وتصفحنا، ووضعنا في جيوبهم. قاومنا، مدعومين بدفاع بعض الكتبيين النادرين والعنيدين ومديري مكتبات شغوفين، وكتاب ذوي رؤيا استشرافية، وصحافيين متبصرين. كما احتفظنا بأمل البقاء على قيد الحياة رغم كل شيء.
بعد ذلك انقلب الوضع. في أحد الأيام، ظهر فيروس في الإنترنيت ودمر كل الحواسيب (نوع من الطاعون الإلكتروني) لم يعد بإمكان رواد الإنترنيت التوصل بالملفات التي كان من المفروض أن تعوضنا.
أصاب الفيروس وحدات التوليد، لم يعد ثمة كهرباء، وانتبه البشر إلى توقف لوحاتهم الرقمية عن العمل.
وهكذا اختفت بدائلنا المزعومة بعد مدة ظهور سريعة. انهزم الافتراضي أمام المادي. لكن البشر كانوا يحتاجون باستمرار إلى قراءة حكايات لتذكر من كانوا، ومن أين أتوا، وإلى أين هم ذاهبون.
كان الجواب على الأسئلة الثلاثة المذكورة ضروريًا لكي لا يصابون بالحمق. أَخرجوا من جديد مطابع الأوفسيت القديمة، وبدأوا مجددًا في صنعنا بكمية كبيرة، بالورق والحبر.
استطعنا مقاومة الاختفاء في آخر لحظة، لندخل مرحلة جديدة من التوسع. لكن لحظة انتهاء صلاحيتهم كانت قد حلت. بعد الوباء الأول الذي ضرب الرقمي والكهربائي، جاء وباء آخر ليضرب العضوي. مات كل البشر بسبب فيروس زكام بسيط انتشر خلال أيام قليلة وتحول إلى وباء شامل بفعل طائراتهم، وقطاراتهم وبواخرهم.
قضى آخر كائن بشري وهو يقرأ سفر رؤيا يوحنا، بينما كان يسعل ويبزق. ها قد ماتوا جميعًا ونحن ما زلنا أحياء.
وبينما كانت أشجار الأدغال تنبت مجددًا في كل أنحاء مدنهم القديمة المشيدة بالخرسانة، والفولاذ، والبلاستيك والزجاج، كنا نحن الكتب الورقية، ما نزال مرتبين بعناية في المكتبات، بحسب الترتيب الهجائي أو بحسب الموضوع. نحن، الموسوعات برائحة التراب، نحن القواميس ذوي الصفحات الصفراء، نحن روايات الحب، نحن المسرحيات، نحن السير الذاتية، نحن كتب النكت، الدواوين الشعرية، المقالات الانتقادية، الكتب التاريخية، نحن الروايات البوليسية أو روايات الفانتاستيك أو الخيال العلمي، لقد حافظنا على بقائنا بعد موت أولئك الذين خلقونا.
نحن مستعدون من الآن فصاعدًا. ننتظر أن يعثر علينا، يومًا ما، شكلٌ ذكي آخر من الحياة، قادم من مكان آخر، أو نما بالموازاة فوق كوكبنا، ننتظر أن تفتحنا أياد، أن تداعبنا أصابع، أن تمر فوق أسطرنا أبصار.
حينئذ سنكشف لمن سيكتشفوننا أننا، نحن الكتب الورقية، كنا أفضل الحراس لذاكرة البشر.
هامش:
نشر بمجلة " لير " Lire الأدبية الفرنسية، عدد يونيو 2015
تحت عنوان:
BERNARD WERBER , « Nous ,Les livres
تغريد
التعليقات 1
مقال روعة
اكتب تعليقك