شعرية المنهاج بين الأمس واليوم: رؤية نقدية أسست لمناهج حديثةالباب: مقالات الكتاب
د. عتيقة هاشمي أستاذة باحتة بكلية الآداب جامعة محمد الخامس – الرباط |
توطئة:
ظلت المناهج نتاجًا ثقافيًّا ونقديًا متراكمًا، سعت في جوهرها إلى فهم النص الأدبي ومقاربته، إذ تتفق أحيانًا من أجل ذلك، وتختلف فيأخذ كل منها مسارًا مغايرًا ليكتسب خصوصيته واستقلاليته. والحقيقة أنه مع مطلع القرن السابع الهجري ظهرت محاولات أطرت لمناهج نقدية ذات اتجاه لغوي في تناول النص، وهذه المناهج انطلقت في تناولها للنص الأدبي من بنيته اللغوية باعتباره نصًّا لغويًّا يستغل إمكانات اللغة الواسعة في اكتساب خصوصيته. ولعل هذا ما أسس لمصطلحات باتت متداولة في النقد الحديث كالشعرية التي أصبحت منهجًا نقديًّا لغويًّا يقوم على دراسة العمل الأدبي ليشمل جميع عناصره وما ينشأ بينها من علاقات تتوازى وتتقاطع بشكل يحدد سماته الفنية. هذه الخاصية دفعت بها إلى أن تكون فعلاً منهجًا نقديًّا مستقلاً بذاته يعنى بمعرفة القوانين التي تحكم بنية النص وتشكله، لا بفهم مضامينه وأبعاده النفسية والاجتماعية والفكرية وغيرها. والشعرية كمصطلح نقدي تعنى بكشف القواعد التركيبية، والقوانين اللغوية التي ساهمت في إنتاج دلالة النص، وكأن المستوى التركيبي يشكل بداية التحليل الشعري ونهايته في الوقت نفسه، أو هو الوسيلة والغاية التي تبحث فيها الشعرية، بل إن الكلمة اللغوية التي هي وحدة مكونة للبنية التركيبية تأخذ داخل النظرية الشعرية بعدًا إضافيًا بحيث تصبح هي في ذاتها هدفًا للتحليل؛ لأن الشعرية "تتجلى في كون الكلمات وتركيبها، ودلالتها، وشكلها الخارجي والداخلي، ليست مجرد أمارات مختلفة عن الواقع بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة"1 .
المنهاج ومصطلح الشعرية:
إن فكرة مقاربة مفهوم الشعرية في النقد العربي القديم يظل فكرة مثيرة للاستغراب، ذلك أن هذا المصطلح حديث العهد، ظهر مع البنيوية الأسلوبية وارتبط أساسًا بنظريات النقد الحديث كنظرية التلقي وغيرها.
تعرض النقاد العرب قديمًا لمفهوم الشعرية الذي يجمع في جوهره بين عمق الماضي المتمثل في كشف أرسطو عن جوهر الصناعة الشعرية، من خلال مفهوم المحاكاة والتخييل الذي شكل أساس التقاطع الشعري مع غيره من النصوص الأخرى، ونضج الحاضر المتمثل في التعامل مع النص الإبداعي كبنية لغوية إذ تسعى إلى معرفة القوانين العامة داخل النص الأدبي ذاته من خلال الجمع بين البعد الدلالي والبعد التركيبي وبين التجريد، غير أنهم لم يتعاملوا معها كمنهج نقدي بقدر ما تناولوها كمكون شعري، وظاهرة فنية جوهرية لصناعة اللغة الشعرية، وهذا لم يقلل من جهودهم، إذ إن ما سعوا إليه يكاد يوصلنا إلى تحديد منهج نقدي دقيق، غير من علاقته بالنص الإبداعي العربي. ومن النقاد العرب الذين قاربوا مفهوم الشعرية بمعناه الحديث نجد حازم القرطاجني2، فماهي حدود تجربته الإبداعية، وآفاق تجلياتها؟، وما هي الطريقة التي اعتمدها في طرحه لمفهوم الشعرية؟.
لقد أثارت آراء حازم النقدية ضجة دفعت إلى مساءلتها واستكناه جوهرها الإبداعي، خاصة وأنها تؤسس لمناهج نقدية حديثة صرفة. يبدو من خلال كتاب المنهاج أن حازمًا وريثًا شرعيًا للفكر الأرسطي، وباعتبار الوشائج بين البويطيقا الشعرية الأرسطية والشعرية الغربية الحديثة، تبادرت إلى ذهننا عدة إشكالات، هل يمكن القول أن حازم القرطاجني شكل جدلية حقيقية بين التراث العربي القديم والأرسطي وبين الشعرية الغربية الحديثة؟ ما هي طبيعة الشعرية التي جاء بها؟ ما حدود التَّماس بينها وبين شعرية العصر الحديث؟
لقد كان حازم القرطاجني واعيًا تمام الوعي بقوانين الصناعة الشعرية والوسائل الفنية الداعمة لها، وكانت نظرته للشعرية سواء في النثر أو الشعر توازي الشعريات المعاصرة، ذلك أنها تحيط بجوانب العمل الأدبي. وقد حصر قوانين الشعرية في عناصر أساسية أهمها: التخييل والتأليف، والتناص، وأن هذه القوانين وجب أن تكون شاملة لا مفصلة، يقول: «يمكن إقامة علم الشعر بالجمع بين الأصول العربية واليونانية ومراعاة الإجمالي من القوانين، دون التفصيل في الأحكام، ولكن أهم من ذلك كله عدم التباعد بين الشعر نفسه، وبالتالي الحرص على صياغة القوانين بطريقة غير مفارقة لطبيعة مادة العلم وخصوصياتها، فقوانين الشيء وأصوله، لابد أن تؤخذ من الشيء نفسه، وإلا كانت مجافية لطبيعته»3 .
إن البحث في مفهوم الشعرية عند القدماء يستدعي البحث عن الجدر اللغوي للمصطلح، والذي أشارت إليه الكتب النقدية القديمة في (صيغة النسب) كقولهم المعاني الشعرية والأبيات الشعرية4، أما عند القرطاجني فقد شكل اختلافًا حيث ورد مصطلح الشعرية عنده كمصدر صناعي ولعله استفاد في ذلك من تأثره بفكر أرسطو من خلال كتابه (فن الشعر)، حيث يعتبر كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) أول كتاب من القرن السابع الهجري يعرض فيه صاحبه لنظريات أرسطو في البلاغة والنقد، "فهو أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرَّض لتطبيقها في كتب العربية الخالصة"5 . لذلك حق القول أنه لم يكتف بالنقل عنه، وإنما تجاوزه على اعتبار أن المادة الشعرية العربية غنية من حيث خصائصها وقوانينها، يقول: «ولو وَجَدَ هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من كثرة الحكم، واختلاف ضروب الإبداع في فنون الكلام لفظًا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، .. وحسن مآخذهم، وتلاعبهم بالأقاويل المخيَّلة كيف شاءوا، لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية»6. والحقيقة أن ما توصل إليه القرطاجني من نقل لنظريات أرسطو إلى المجال العربي وتطبيقها على مستوى النقد والبلاغة، ظل حبيس المنهاج، ذلك أن أحدًا من بعده لم يسع إلى تطويره.
جسد المنهاج لحازم القرطاجني مفهوم الشعرية، خاصة في القسم الرابع منه والذي قسمه إلى أربعة مناهج، إذ نلفيه في المنهج الأول يصنف طرقًا في الشعرية، حيث قدم له بمصطلحات ذات حمولة نقدية، بل منها ما يؤسس لنظريات حديثة كـ(ملاءمة النفوس والمنافرة) فهو مفهوم يحيل على النظرية التداولية الحديثة، و(مفاهيم تتعلق بمعطيات المرسل والمرسل إليه) وهو مفهوم آخر وظفه، يحيلنا على نظرية التلقي وهي من النظريات الغربية المعاصرة، إلى جانب مفاهيم أخرى كأحوال الكلام، والمخيل، والمقفى والموزون، والقوانين البلاغية، وأنحاء التخاطب، والطرق الشعرية، والأساليب...، وقد قدم إجراءات نظرية وتطبيقية للطرق الشعرية تقوم على أساس اللفظ والمقام والمقال، كما أثار جوانب التمايز، لنجد إنه جمع بين الضدين المتناقضين ليتسنى للشعرية أن تنبثق، ويربطها بالجانب النفسي الذهني، أو بما سماه بـ(الهمة والهوى) عند المتلقي وكيفية استقبال هذا الأخير للمتناقضات من خلال التصنيف بين ما هو جدي وما هو هزلي إذ يظل مصدرهما هو ذاته (الهمة والهوى)،كما حدد الألفاظ والمعاني المؤدية لكل واحد من الجد والهزل، وكذا شروط تماسهما وحدود تباعدهما، وهذا يجعلنا نقول أن الرجل بنى موضوع طرق الشعرية على أساس منهجي توزع بين النظري والتطبيقي والتنظيمي في رؤية متكاملة من زوايا الخطاب والتلقي.
أما المنهج الثاني فقد خصه حازم لطرق الشعر من خلال أقسامه وأغراضه، وأحواله من حيث ملاءمة النفوس أو المنافرة لها، حيث نجده تناول أغراض الشعر، وخصائصها ومميزاتها وأنواعها، وكيفية تقسيمها ومبررات هذا التقسيم، كما قدم رأيه فيها، وكذا طباع النفوس القائلة والمقولة لها وفيها، وجعل قانون الشعر عدم الجمع بين متناقضين كـ(الحسن/القبح)، بل جعل التناقض يتمثل عندما يكون المقصدان غير منصرفين لهدف واحد أو صادرين من محل واحد، كما تحدث عن مجريات الأغراض وطرق التركيب، وتركيب ما هو مركب.
بالنسبة للمنهج الثالث الذي خصه للأساليب الشعرية، استهله بالحديث عن مسالك الشعراء في النظم بين رقة وخشونة، وقارنها بأحوال نفوسهم المتراوحة بين الضعيفة كثيرة الإشفاق، والخشنة قليلة المبالاة، ونفوس بينهما مقبلة معرضة. بينما ناول في المنهج الرابع النوازع الشعرية، أي المادة التي تلهم الشعراء مواضيعهم، وكيفية التصرف فيها بين التبعية والإبداع، وأي الموضوعات الأكثر هيمنة على غيرها. كما وجدناه يثير مفهوم المذهب والمنزع وهو القانون الذي يؤسس تفرد المبدع وتميزه في طريقة نظمه، وصياغة صوره، وهنا يشير إلى المتنبـي الذي ينهي قصائده بحِكَم جعلته متميزًا عن غيره من الشعراء، غير أن قيمة الشاعر ارتبطت عند حازم بمدى تأثير شعره في النفوس7، لذلك نجده يصنف الشعراء ما بين محتذ حذو غيره فلا يحقق التميز، وبين متميز متفرد في مآخذه متجنب الأخذ المعيب، وهنا يشير إلى أنه على الشاعر إن أخذ من غيره أن ينزح به مذهبًا آخر يجعل الأخذ يتوارى. وهذا من أسباب الجمال في الإبداع الشعري، والحقيقة ان هذه الأنحاء متعلقة بالمعاني الذهنية أو الواقعية أو من جهة الأحوال والأحكام وأنحاء التخاطب المتعلقة بها.
ذكر القرطاجني في كتابه مصطلح الشعرية بشكل صريح حين قال: «وكذلك ظن هذا أن الشعرية في الشعر إنما هي نظم أي لفظ اتفق كيف اتفق نظمه، وتضمينه أي غرض اتفق... وإنما المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى القافية»8، يبدو من هذه القولة أن القرطاجني عرَّف الشعرية على أنها مجموعة من القوانين - كما سبقت الإشارة- التي تضبط عمليتها، وتكسبها خصائصها، وأن هذه القوانين نابعة من صلب العمل الشعري ذاته، وكل نص يفرض قوانينه الخاصة في بناء أخيلته وتصوره، لذلك ينبغي لهذه القوانين أن تكون كلية.
فالشعرية إذن عند حازم ليست مجرد صفة، كما هو شائع في التراث النقدي البلاغي، بل هي نظرية ذات بعد فلسفي ذهني وتواصلي ونفسي وفني وتربوي، لها سياقها العام، سنحاول أن نقارب رؤية حازم التي عالج بها موضوع الشعرية من خلال مفهوم المعاني:
إن ما استحضره حازم في كتابه حول الشعرية أكبر وأعمق مما يمكن تصوره، ويدعونا إلى الجزم بأنه قد بد أهل زمانه ومن سبقه، وحقق التفرد على من لحقه، لأنه تعمد النظر فيما أخذه عن أرسطو ولم يكتف باستهلاكه إنما أقر فكرة ملاءمة أو منافرة الفلسفة الأرسطية للتراث الشعري العربي، وهو ما عجزت العرب القيام به إذ التزموا التقعيد والتنظير والترويج لنظريات غربية كان حازم القرطاجني أول من أشار إليها، ثم إن المفكرين الغربيين المعاصرين أنفسهم توصلوا إلى أن الفلسفة الأرسطية قاصرة على استيعاب الدلالة الحقيقية للشعرية ذلك أن أرسطو اعتمد على ما جاء به أفلاطون حول ثلاثية الأجناس للشعرية وهي الغنائية والدرامية والملحمية، وهذا يجعلنا نتأكد من مدى ارتقاء حازم بالعمل النقدي. ولعل الجدول أعلاه يمثل ذلك من خلال المعجم الذي اشتغل عليه حازم القرطاجني، وهو معجم يحدد التصور النظري لمفهوم الشعرية كما سبقت الإشارة، على أن الشعرية ليست مجرد نعت يلحق بالشعر ومعانيه، إنما هي بناء منهجي متكامل ينطلق من المقولات الذهنية والمعرفية والفلسفية والإنسانية ليؤسس لمشروع أدبي نقدي إبداعي جمالي، وهو مفهوم النظرية الذي يسعى إلى التأليف بين المتلقي والمبدع، وتجاوز الإهمال لمقومات الشعرية.
يبدو أن حازم في تناوله لقضية الشعرية اعتمد بعدًا لاحظنا أن النظريات الحديثة أقصته، وهو البعد التربوي حيث كان هدفه الرئيسي هو استرجاع الأدب العربي والنقدي خاصة لأمجاده التي ضاعت منذ قرنين من الزمن، وخلق جسور التواصل مع الآخر، ومع الذات والإبداع بشكل عام، وهذا يؤكد أن حازم تجاوز المعرفة الأرسطية خاصة حين أدلى برأيه في المحاكاة واعتبرها أدنى مستوى في الإبداع لأن منبع الشعرية عنده الذهن والذات. ومما يعزز مشروعه التنظيري اعتماد الشعرية عند حازم على التكامل بين وسائطها وتفسير عناصر الانسجام فيما بينها وتبيان روح الفعل الشعري بكامله بدءًا من الذهن والذات بمرجعيتهما إلى اللفظ والمعنى والأساليب، والأوزان، انتهاء بالمتلقي وكيفية التأثير فيه وأدوات التفاعل معه، وهو في هذا يقدم لنظرية التلقي التي بدأها من تواصل الإنسان مع نفسه، ومع اللغة والواقع، والزمان. وقد ربط مفهوم الشعر بأنحاء التخاطب من خلال أهداف الكلام وصلته بالمعاني، وهذا يحيلنا على أن شعرية حازم تحقق اللذة والمتعة عبر التناسبية، ومراعاة الجوانب النفسية والتواصلية والأقاويل الشعرية والخطابية والأسلوبية حيث ينفعل السامع بعد أن يتشرب روعة الكلام، وهو في هذا تجاوز التواصل التقليدي ومفهوم الشعر الجاف، والفكر الأرسطي ذاته.
التخييل عند القرطاجني:
طلع علينا حازم بتصور جديد، جسده مشروعه في صياغة بلاغة كلية قوامها التخييل الشعري. فهو يعرف الشعر على أنه «كلام من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو مقصورة يحسن هيأة تأليف الكلام»9 يرى أنه لابد من الخيال لارتباطه بالنفس وما يقوم به من إعادة تركيب للصور المتخيلة والغائبة والتي يشترك فيها الشاعر بالمتلقي لأن الإنسان غالبا ما يتلقى المعاني عن طريق قلبه وعواطفه وخيالاته، لذلك تؤثر هاته الصورة في تشكيل أفكاره.
حَقِيقَةً مَثَّل منهاج البلغاء التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب، ذلك أنه «جمع بين المبادئ الهيلينية والأصول العربية، وكان صاحبه على دراية عجيبة بالنظريات الهيلينية...، ألمَّ بفلسفات سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس من خلال الترجمات العربية»10. وبالعودة إلى منظور القرطاجني لقوانين الشعرية نلفيه ينهل من هذه النظريات فيركز على التخييل والتأليف في النص الأدبي والتعارض القائم بينهما والمؤدي بالضرورة إلى الإبداع المؤثر في المتلقي. وقد ميز بين التخيل والتخييل، فالتخيُّل يعني عنده القوة الإدراكية الفاعلة لعملية المزج بين الأشياء، وإدراك العلاقات الظاهرة والكامنة فيها، أي أنه يرتبط بالجانب الإبداعي بالدرجة الأولى، في حين يرتبط التخييل بالجانب التأثيري، وتحريك النفس لمقتضى الكلام، وحملها على طلب الشيء أو الهرب منه11، وهو ما أكد عليه، فالتخييل عنده هو «أن تتمثل للسامع مع لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صور ينفعل لتخيلها وتصوّرها، أو تصوّر شيء آخر بها انفعالاً من غير روية إلى جهة الانبساط أو الانقباض»12. وفي تناوله للتخييل جعله بعيدًا عن مسألة الصدق والكذب، وذهب إلى أن الشعر كلام مخيل، يقول: «لذلك كان الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة، وتكون كاذبة، وليس يعد شعرًا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب بل من حيث هو كلام مخيل»13، كما يتضح أن التخييل عند حازم مرتبط بالمتلقي ومدى تأثره النفسي، فهو «ليس سوى عملية إيهام تقوم على مخادعة المتلقي، وتحاول أن تحرك قواه غير العاقلة وتثيرها بحيث تجعلها تسيطر، أو تخدِّر قواه العاقلة وتغلبها على أمرها، ومن هنا يذعن المتلقي للشعر ويستجيب لمخيلاته»14.
قرن القرطاجني مفهوم الشعرية بمختلف الأجناس الأدبية بشكل متفاوت، فجعلها مرتبطة بالتخييل في لغة الشعر وبالإقناع في النثر، غير أن هذا لا يمنع تزاوجهما، حيث يحقق ذلك تأثيرًا في نفسية المتلقي. وقد فطن حازم إلى وظيفة الشعر من خلال ارتباط رسالته بالسياق الواردة فيه، وأن الشاعر والمتلقي دعامتان لها، يقول: «الحيلة فيما يرجع إلى القول وإلى المقول فيه وهي محاكاته وتخييله بما يرجع إليه، أو بما هو مثال لما يرجع إليه هما عمودًا هذه الصنعة، وما يرجع إلى القائل والمقول له كالأعوان والدعامات لها»15، فالمتلقي ومن خلال انفعالاته يمنح النص الشعري وجوده؛ لأن العملية التخييلية تشكل فاعلية اتصالية بين المرسل والمرسل إليه «فالخيال هو وسيلة الاتصال بين المبدع وقارئه، ولولا التخيل لظلت القصيدة صورًا ميتة لا تجد طريقًا إلى تمثلها والانفعال بها»16.
أكد القرطاجني على أن التخييل يشكل كنه الشعرية، حيث منه تنبثق لترتقي إلى أسمى درجات الإبداع الفني، وبدونها يوجد شعر لا شعرية. يقول: «المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة في أي معنى اتفق ذلك»17.
ما يثير الانتباه أن القرطاجني استعمل مصطلحات مرادفة للتخييل كالمحاكاة، وقد وظفهما بشكل تعاقبي، وهو يدرك تمام الإدراك طرفي العملية الإبداعية المتمثلة في المرسِل المبدع والمرسَل إليه المتلقي، إذ أن التخييل كما سبقت الإشارة يرتبط بالانفعالات التي تحدث عند المتلقي، بينما المحاكاة ترتبط بالمبدع وبالخلق الفني الناتج عنه وهي بذلك تفيد التخيل لا التخييل.
ارتبطت العملية التخييلية الشعرية عند القرطاجني بطرق تجاوزت الجانب السمعي لدى المتلقي إلى الرسم الخطي الذي يقوم مقام اللفظ المسموع، ذلك أنه «إذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفِّظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني فيكون لها أيضًا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها»18، يبدو أن العملية التخييلية قد تتمثل معانيها لدى المتلقي من خلال الخط الذي يعكس المعنى المسموع. كما ارتبطت بعلاقات تداخلية بين العالم الخارجي والمبدع والمتلقي، يقول: «إن المعاني هي الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن، فإنه إذا أُدرِك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبّر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبَّرُ به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ»19.
التناص عند حازم القرطاجني:
نعلم أن بذور هذه النظرية تواجدت في الموروث العربي القديم عبر ما تناوله النقّاد الأقدمون من التضمين والاقتباس والمعارضات التي اعتبرت شكلاً من أشكال تناول النصوص السابقة وإعادة إنتاجها مقترنة بالنصّ الأصلي. وقد أشار إلى ذلك علماء العرب الأوائل أمثال أبو هلال العسكري حين رأى أن المعاني المشتركة ملك للعامة، وابن رشيق القيرواني حين أقر بالأخذ الحسن، وذكر مواضع الاتباع السيء، وابن الأثير، والجرجاني وغيرهم.
بداية يجب أن نوضح أن التناص الأدبي هو تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعرًا أو نثرًا مع نص القصيدة الأصلي بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر21، وهو مصطلح حديث لظاهرة أدبية ونقدية قديمة، تمثلت في تداخل النصوص في التراث العربي، فهو مرادف لما سمي عند الأقدمين بالـ(سرقات الشعرية)، كان موجودًا عندهم بكثرة إلا أنه لم يعرف بهذا الاسم. وقد اهتم به النقاد العرب من جانب المعاني المتكررة بين الشعراء، والبحث عن الأصالة لدى الشاعر حتى جعلوا معيار ذلك قوة الخلق، وقد أشرنا إلى ذلك الأمر أنه «ما تعرى منه متقدم ولا متأخر» ، ومعنى ذلك أنه لا يمكن العثور على نص خال من التداخلات نصية، وبالتالي لن يبدو غريبًا أن تتوافق الرؤى وتتمازج في النص الأدبي الواحد، فذلك ما يثير شاعريتها، و«هو الذي يلفت اهتمامنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة، وإلى التخلي عن أغلوطة استقلالية النص، لأن أي عمل يكتسب ما يحققه من معنى بقوة كل ما كتب قبله من نصوص»22.
ويعود مصطلح التناص إلى الغرب، حيث ظهر أول مرة مع الباحثة جوليا كريستيفا التي عرَّفته بأنه «التفاعل النصي في نص وبعينه»23، نقلته عن ميخائيل باختين من خلال توظيفه لمصطلح الحوارية في النص الروائي، ثم توسع فيه جيرار جينيت الذي حدد أنواعه. ليصبح مصطلحًا شائعًا في الدراسات النقدية.
برجوعنا إلى المنهاج نستشف أن حازم القرطاجني قد تنبه إلى المصطلح قبل عقود من الزمن، غير أنه لم يكن على وعي تام بأبعاده، وأشكال توظيفه، لكنه كان على دراية بتلاقح النصوص وتفاعلها، حيث أن «صانعي النصوص أنفسهم ليسوا سوى نتاج ثقافي لسياقات الموروث الأدبي، وهم يكتبون من فيض هذا المخزون الثقافي في ذاكرتهم كأفراد، وفي ذاكرة اللاوعي الجمعي لمجتمعاتهم»24، هذا لا يعني إلغاء روح الإبداع، وإنما يرتبط الإبداع بقدرة الشاعر على إعادة صياغة النص الشعري السابق عن طريق نقله وتغيير بعض خصوصياته الإبداعية بشكل تبرز معه شخصية المبدع، وفي هذا الإطار يؤكد على أن الجمال الفني في الشعر مرتبط بالسير على نهج الفحول والذهاب على مذهبهم، وضرورة ملازمتهم، وإن كان لكل شاعر ما يميزه عن الآخر، يذكر: «وأنت لا تجد شاعرًا مجيدًا منهم إلا وقد لزم شاعرًا آخر لمدة الطويلة، وتعلَّم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية»25 وأن فشل بعض الشعراء إنما يعود إلى انحرافهم عن طريق الأوائل من فطاحلة شعراء العرب، يقول: «إذ لم يوجد منهم من نحا نحو الفحول، ولا من ذهب مذهبهم في تأصيل مبادئ الكلام، وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها، فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم»26. نجد التناص عند القرطاجني يأخذ أشكالاً متنوعة تراوحت بين «أن يركب الشاعر على المعنى معنى آخر، ومنها أن يزيد عليه زيادة حسنة، ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه، ومن ذلك أن يقلبه ويسلك به ضد ما سلك الأول»27، ذلك أن نقل المعاني والتراكيب دون تغيير بزيادة يمثل قبحا وسرقة جلية، وإن كانت السرقة في معظمها معيبة غير أن بعضها أشد من بعض.
تتيح عملية التناص ازدحام النصوص الغائبة في ثنايا النص الحاضر، أي أن النص الجديد هو تضمين لمعاني النصوص السابقة، الشيء الذي يولد غموضًا على مستوى الدلالة. وتجلية هذه النصوص تفرض على الناقد ضرورة إحاطته بمختلف المعارف المتعلقة بها، وأن يكون على اطلاع واسع، ذلك يجعله قادرًا على تمحيصها، واستجلاء مغاليقها.
خاتمة
إن مقاربة القضايا النقدية يظل رهينًا بتنوع ما يطرح في البيئات الثقافية، والذي يفرض على الباحث شروطًا تطبع بخصوصيتها هذه القضايا المطروحة لذلك يمكن أن أأكد على مدى وعي النقاد العرب بأهمية القضايا النقدية وتداعياتها، وعيا ساهم في بناء الخطاب الأدبي من خلال اهتمامهم بالنثر والشعر وبنيتهما اللغوية، وطرق بحثهم فيها، وقد تجاوزت في جوهرها الانتصار لهذا أو ذاك إلى كشف عناصر التلاحم والتفاعل دلاليًا، وتركيبيًا، وصوتيًا، وبالتالي أجزم بأن المواقف النقدية التي وصلتنا هي محاولات عميقة عرفها التراث العربي في امتداده، وقد أجْلَتْ بشكل متطور الإشكالات الكبرى التي طرحتها القضايا النقدية ومنها الشعرية العربية حيث اعتمد حازم القرطاجني التعليل لتشخيصها والتأسيس لها. وهذا يدفعنا إلى القول بأن الزخم الفكري الذي شمله النقد العربي القديم يستدعي قراءة تأويلية حديثة..
إن أكثر ما يثير الانتباه، أن النقاد العرب اعتبروا شعرية القصيدة بناءًا منهجيًا متكاملاً ينطلق من المقولات الذهنية، والمعرفية، والفلسفية، والإنسانية، ليؤسس لمشروع أدبي نقدي إبداعي جمالي، وهو مفهوم النظرية الذي يسعى إلى التأليف بين المتلقي والمبدع، وهو الأمر ذاته الذي صرح به حازم القرطاجني.
الهوامش:
1 - قضايا الشعرية، ص. 19.
2 - تعريف القرطاجني
3 - مفاهيم الشعرية، ص. 32
4 - قضايا الحداثة عند عبدالقاهر الجرجاني، ص. 81.
5 - إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين، ص.87
6 - منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص.69.
7 - المنهاج، ص. 366
8 - المنهاج: 28.
9 - المنهاج، ص. 71
10 - منهاج البلغاء، ص. 118
11 - المنهاج، ص. 71
12 - المنهاج، ص. 89
13 - المنهاج، ص.63
14 - الصورة الفنية، ص. 66.
15 - المنهاج، ص.346 /الخطئية والتكفير، ص. 15/16.
16 - الخيال مصطلحاً نقديًا بين حازم القرطاجني والفلاسفة، ص.62.
17 - المنهاج، ص. 21
18 - المنهاج، ص. 19
19 - المنهاج، ص. 18/ 19.
20 - التناص نظريًا وتطبيقيًا، ص. 50 .
21 - الموازنة، ص.311.
22 - التناص وإشاريات العمل الأدبي، ص. 23.
23 - مقال التناص وإشاريات العمل الأدبي، ص. 23.
24 - الخطيئة والتكفير، ص. 56.
25 - الخطيئة والتكفير، ص. 27.
26 - الخطيئة والتكفير، ص. 10.
27 - المنهاج، ص. 193.
تغريد
اكتب تعليقك