المرآة ... سيرة الشمس رواية العقل والمقاربات الفلسفيةالباب: مقالات الكتاب
فرج مجاهد عبدالوهاب قاص وناقد - مصر |
النص الروائي الذي يقوم معماره على أعمدة الشك والبحث عن المعرفة، إنما يقارب مداخلات الفلسفة ومقاربات الصوفية ليتشكل مسرود حكاية فلسفية، تعتمد المغامرة والمفارقة، والغوص في مدارات الفكر والتفكير والأسئلة والتساؤل التي قد تصل إلى الشك من أجل الوصول إلى المعرفة، والأهداف سوى تعرية الواقع ونقده بهدف إصلاحه، فهي جنس روائي يُعالج موضوعات معينة كالبحث عن الحقيقة والحرية والذات والمسؤولية، ونقدًا للحياة بقصد التغيير وإصلاح المجتمع، تنهض بانتظام أحداثها حول شخصية متأزمة غالبًا ما تكون مرغمة على المجابة والخوض في أوضاع متناقضة وغير مألوفة وتكون معظم شخصياتها أقل تعلقًا بالحياة، وغالبًا ما تكون من عامة الناس، لكنها مسكونة بقضايا فلسفية متنوعة تبدأ بالشك، ومن خلال البحث عن الحقائق تصل إلى اليقين لذلك نراها تطرح أسئلة كثيرة ومتعددة تكون أكثر تجريدًا، وغالبًا لا يظهر ذلك في الفضاء الزمكانى العام الذي تتحرك فيه من خلال خيوطه العريضة، ومن المفيد في هذا الاتجاه أن يكون الحوار ثريًا بالتحاليل والكشف عن الحقائق والتأمل في علاقة الإنسان بالوجود.
ولذلك غالبًا ما يكون ضمير المتكلم مُفضلاً في هذا الاتجاه عن ضمير الغائب لأن السرد هنا بضمير المتكلم غالبًا ما يكون له علاقة ما بالمؤلف نفسه، وبالتالي فإنه يُقدم أنموذجًا واعيًا لأسلوب القص الذاتي ولكن بعيدًا عن فضاء اليوميات أو المذكرات وحتى السيرة الذاتية لأنه غالبًا ما تقود سرديات الذات عندما تتعمق في بحثها وغوصها في قضايا الوجود وحقيقته، والعدم والروح لتصل إلى مقاربات صوفية بغض النظر عن قوتها أو توازيها مع مقاربات الفلاسفة الصوفيين القدامى، فإنها تفرز بعضًا من روحها التي تُنقّيها الفلسفة وتصحبها إلى الحقائق الكبرى.
وقد اشتغل كثير من الروائيين العرب على هذا الأسلوب، فكتبوا في هذا المجال كما فعل (محمود المسعدي في حدث أبو هريرة ..... قال) و (مطاع صفدي في جيل القدر) وغيرهما كثير.
ولا أخال المبدعة الكويتية (هديل الحساوي) في روايتها الفلسفية (المرآة.. مسيرة الشمس) إلا واحدة من المبدعات الجريئات اقتحمت أسوار الفلسفة على الرغم من أن اختصاصها العلمي "علوم حاسب آلي وإدارة أعمال" وهذا ما يشير إلى:
1- اهتمامها الخاص بعلوم الفلسفة الذي خزنته قراءاتها المتعددة والمختلفة للأدب الفلسفي والصوفي، فشكلت فضاءات ثقافية دفعتها إلى الخوض في تجربة الإبداع الذاتي والفلسفي.
2- نزوع داخلي في أعماقها شكلته متوازيات الواقع المتشح بالضباب وفقدان القيم مما دفعها إلى البحث عن فضاءات الحرية لتصل إلى المعرفة الحقيقية التي من شأنها أن تصلح الحياة والمجتمع والفرد.
3- قوة امتلاكها لعناصر التخيل الذي ساعدها على إقامة علاقاتها التبادلية سواء مع أشهر علماء الفلسفة كسقراط وغيره أو من خلال قريتها المفترضة (داليوب) التي بقيت تسأل جدتها وجدها عنها وتكثر من الأسئلة حتى تعرف سّر التسمية كنسبة إلى عابري السبيل من الغرباء التائهين:
"يمرون بقريتنا كلما ضل أحدهم طريقه إلى جنته، تقوده قدماه دونما قصد منه فيعبر الممر الضيق بين الجبلين وينقله الزورق الذي ننقل عليه القرابين لأبولو كل سنة، كل غريب كان يقول: "تركت أرضي وسافرت بحثاً عن مدينتي الخاصة" (ص10)
ومن فضاء قرية داليوب التي لا حرّ فيها ولا برد ولا طعام ينقصها ولا ماء، تبدأ حكاية الساردة في إصرارها على السفر للبحث عن الحقيقة وذلك بعد أن شح ماء البئر وهل الجفاف وحكاية الغريب الذي قتل الغريب وتركه في العراء يحتضر، ليأتيها صوت هامس جدًّا، يعلو شيئًا فشيئًا يقول لها:
"السراب هو ملك القصر الجديد، شرب السماء وشرب الأرض، التقطي الغصن الأصفر وانفخي فيه" (ص17)
تلتقط خشبة صفراء وراحت تنفخ فنبت من الغصن شجرة تفرعت والتفت على ساقي وصعدت إلى جذعي وصرنا متحدين، صار دمى في عروقها وصار ماؤها في دمى، وصرت أنا الشجرة أبحث عن الماء هززت أغصاني أدعو الناس لصلاة السقى، لكن السقى صلاة ما اعتادها أهل القرية" (ص17)
وتروى حكاية هروب الجد وسيفه والنقش الذي كتب عليه، ويموت الجد وتركها للهاجس الذي سلب منها أنفاسها والصوت الذي يغمرها كل ليلة.(ص23)
وترى فينوس الآلة ترقص عند قدمها وقد كتبت على الأرض أنشودته.(ص24)
لتبدأ رحلتها الأولى التي بدأت بالشك الذي يتفرع إلى اتجاهين صحيحين هو الاختلاف اليقين بالعدم أو عدم اليقين.(ص33)
لقد كانت جزءًا من مشهد "نهضت روحي من جثة المقتول ودخلت جثة القاتل، الغراب أشار إلي بالدفن فخفت،وقلت له: الأرض المحفورة موت" (ص35)
مشيت على الطريق أفكر "النار داخل جسدي وخارجه، وأنا كالمرآة أعكس الشمس للخارج لأني أحبها ولأن لهبها الأصفر قدري" (ص36)
تصعد السفينة وعلى اللوح تكتب "في البدء ما كان الشئ ليوجد لولا أربعة:
أنا الإله المرسل من الآلهة ما كنت من الفانين، ولم أُصدق أنني خالد، كنت وأقول: كنت ابن إله، الطريق تدور مع ساقي، على الطريق أمشى في وضح النهار لحتفي الأخير لهذا الجبل إليك يا بركان آتنا لأموت قرب الاثنين"(ص37)
وتبدأ علاقة تبادلية بينها وبين الفلاسفة (بارمنيدس وأمباذوقليس وهيراقليطس) (ص37)
لتدرك أنها بداية وأن الرحلة ستطول وتكون صعبة للتداخل الأسئلة في مقاربات الصراع والحرب والزمن والموت والصحوة (ص40)، ثم مراحل التوحد (ص41)، والمناداة (ص43) والرغبة في الحقيقة: ما عدت أقبل بغير الحقيقة (ص44)، ومن ثم دخول معبد أبولو حيث كتبت: "أيتها الآلهة تعالي إلىّ أحدهم رحل إليك، والآخر حلم بك، أما أنا فتعالي إلىّ لأعرف أين الحقيقة ؟ (ص46)
لتدخل في المرحلة الثانية من الرحلة حيث الصحراء تمتد داخل الكهف لترسم أمامها طريقين: طريق الموت وطريق آخر لإيجاد مخرج لسطح الأرض وهو الذي تختاره مع من كان معها، وتجد نفسها وكأنها تدخل قريتها داليوب، تمشى على أرضها دون أن تمس قدماها التراب ويمد الرجل الذي قابلته على السفينة يده جالسًا على كرسي جدها يمد يده ويقول لها: لا تخافي منى لم أعبث بالمكان كنت أنتظرك فقط، عرفت أنك ستعودين، أنا هنا لأساعدك" (ص58)
وأعطاها كتابًا غلافه من خشب، نُقشت عليه صورة رجل وقال: سيساعدك عنوانه داخل الكتاب فتشعر ببعض من حرية لتساءل الواجب الذي هو عقل يفكر ويفعل.(ص62)
فتشعر أن الأمر في داخلها لا يسير كما في الخارج "تراودني الأحلام فأؤول، تجتاحني أسئلة لا إجابة عليها، يأكلني خوفي من جوع بدأ يأكلني إذ لا شئ هنا ليأكله يدور عقلي بسرعة، يتحرك صاعدًا وهابطًا، جحيمًا وجنةً، نورًا وظلاً، يدور مع أفكاري... يدور... دوامة تعب" (ص63)
ومع ذلك فهي تشعر أنها مازالت مبعوثة لهم ومرسلة لهم ماتوا في سبيل فكرة، ماتوا في سبيل وعد وأمل بنهاية مريحة وجنة وشراب) ويمنحها اسم أكاسيا (ص66)
وتعبر وتقف خارج الحفرة تسمع الحفيف يردد اسمها: أكاسيا .... أكاسيا، وعلى الطريق تشعر مدركة بأن الألم يزداد كلما تعمق الجرح. (ص74) أما أكاسيا فهي الفتاة التي ستولد من جديد (ص78)
وتدخل مع أرسطو إلى المكان المقدس وتسأل عن معنى الحب عنده ويقول لها:
"لا أكن أي مشاعر لأحد، لكنك الوحيدة التي اقتنعت بها وأحببتها، لأني رأيت فيك ما لم يراه الآخرون"(ص82)
تدخل في مغاور الذات والسؤال عن المعرفة التي يكون أولها الجهل ويطلب أرسطو منها أن تتبعه في رحلة ويُريها إشارات طريقها ويطلب منها أن تتبعه وهي صامته "أنا البداية وعليك اجتياز الجسر للمرآة الأم، قابلت نفسك بكل أنانيتها وحقدها وغضبها وهنا تعلمت دروسك واكتسبت معرفة لعقلك" (ص86)
وتتداخل الرؤى وتتشعب الأسئلة حتى تصل إلى محاكمة سقراط. (ص88)
واختيار المرآة (ص96) وقضية الموت والحياة وتأخذ اسمها الثاني الذي منحته لها العرافة (ثيوفيليا) ومعناها المحبوبة من الآلهة "انقسم المكان لثلاثة خطوط متوازية، نهر وطريق مرصوفة، وطريق بلا حدود واضحة، أشار إلى الطريق المرصوفة، وقال: هذه طريقي وأشار إلى الطريق الأخرى وقال: هذه طريقك، سأسلكها معك، إذا تحركنا الآن فسنصل للجسر قبل غروب الشمس" (ص92)
لتبدأ رحلتها الثالثة، حيث الشجرة الأم والوصول إلى المرآة (ص96)، والمرأة الوعد ويطلب منها أن تكتب على لسانه "لا تتخابثي وتدّعى البراءة رأيت اللوح والريشة، اكتبي حقيقتي أنا الواقف على العتبة المضيئة، أنا الباب داخل الباب، الدائرة في الدائرة، الجبل المغطى بماء البحر، أنا الدائم الخضرة في الوديان المقدسة الصفراء، تارك الجنة وتارك الجحيم، أنا الغيمة بلا ماء، والحريق بلا حريق، أنا ابن الإله الذي خذلني وتركني للموت" (ص110)
وتقدم قربان الزواج واختفاء الحقيقة مع الزمن (ص112)، وتكون الصحراء الخطوة الأولى على الرمل باتجاه العبور (ص115)، ويبدأ الدفع إلى الباب الأسود حتى تصل إلى عصا والدها (ص121)، وتقف أمام الجسر حاضنة الكتاب الأصفر وتتحرك الريح ببطء وتحمل لها أصوات بشرية ... لن نبدأ الحكاية من جديد، تطهرني من أدران والدك، قتلوه فلا تعطهم الفرصة ليقتلوك أيضًا ويتم عبور الجسر ومن ثم العودة إلى البداية إلى داليوب الروح الخالدة بعد أن أصبح اسمها المحبوبة.
"أمامي المرآة جليلة وبهية، حجمها على حجمي، إطارها من فيروز أزرق وعلى رأسها ويديها وقدميها أربع يواقيت حمراء، خطوت إلى الأمام ووقفت أمام المرآة وشاهدت انعكاس" (ص130)
لتشكل المرآة الرؤية التي يُجسدها التقابل الذي أشار إليه ابن عربي في عتبة الرواية "إذا كان مطلوبك في المرآة أن ترى فيها وجهك فلم تأتها على التقابل، بل جئتها على جانب، فرأيت صورة غيرك فيها، حلم تعرفها وقلت ما هذا أردت؟ فقابلتك المرآة فرأيت صورتك فقلت هذا صحيح، فالعيب منك لا من المرآة) ومنها جاءت مقولة عكس الشمس للخارج في المرآة.(ص36)
ولذلك تجلت المرآة في مسيرة الشمس وهى تخطو باتجاه الحقيقة والبحث عن المعرفة في إطار رحلة جاءت على ثلاث مراحل سمت المبدعة كل واحدة باسم الطفل كدلالة على عمق الاستشراف وهى في حالة ترحال بحثًا عن أجوبة لأسئلتها التي تناولت أشياء كثيرة قاربت في مواقف كثيرة آراء الفلاسفة ومقولات الصوفيين: التيمم أضعف الإيمان (ص35)ونظرية التوق (ص36)ولحظات التوحد والموت في سبيل فكرة، والموت الذي تجلى في التقاء الساكنين (ص36) وما تكرار الموت في الصفحات (37-86-110) إلا دوران في فلك المعرفة التي شغلتها عن كل شئ، ودفعتها من قريتها إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة، ولذلك كان التخيبل نقاط ارتكاز في تعميق الأحداث التي كانت الفلسفة أهم شاغل لها وفيها حتى تصل إلى صوفية الروح ومتعة اللذة وحتى تأخذ الأبعاد مجراها في سياقات الرؤى الفلسفية، فاغتنت بالفناء الذي توزع على الصفحات (24-106-114-124-125-130-131) وتعمقت بالكتابات التي توزعت على الصفحات (14-47-48-49-50-66-105-107).
"الرحلة ما تمت سوى لشقاء غير الطاهر لا تكتبي، غير الجميل والخير ليس، والأمانة في حمل الأمانة"
ليتشكل من ذلك كله عناصر رواية فلسفية حملت كل مقومات التفكير والتأمل عبر أسلوب حواري متقد لم يكن هدفه سوى النقد من أجل الإصلاح، والشك من أجل المعرفة والمعرفة من أجل الوصول إلى الحقيقة.
ولذلك حافظت الرواية على انتظام أحداثها من خلال:
1- الراوية التي خاضت تجربة الرحلة على مراحلها الثلاثة وارتباط حوارها مع أرسطو ومع أصوات شكلت دافعًا للحركة والتحرك.
2- المرآة التي شكلت نقطة مركزية الحبكة في نصية الرواية، وهى حبكة مشعة ليس بفعل الشمس التي عكستها في المرآة للخارج وإنما لأنها الإضاءة التي أنارت رحلة البحث عن المعرفة ولذلك تعددت الأنساق التي أفضت إلى الحقيقة كأنساق الشك، الطرق، الواجب، الحب، الموت، القتل من أجل عالم جديد، اللذة، كيان الأعمى النار داخل الجسد لتتكامل عناصر رواية فلسفية أضافت إلى هذا الجنس التناولي قيمة فنية وإبداعية تكاملت أطرافها لغةً وأسلوبًا وبحثًا عن معرفة كانت بأمس الحاجة إليها لتُشير في النهاية إلى روائية مبدعة استطاعت أن تمسك خيوط الرواية الفلسفية ليس من باب التجريب وإنما من منطلق التأصيل والتأسيس لفن روائي فلسفي هو جزء من حراك روائي ينمو ويتطور ويتألق.... وينجح.
تغريد
اكتب تعليقك