ثيسبيس وثنائية المسرحالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2018-10-12 02:51:51

د. ياسين اعطية

باحث مغربي وأستاذ اللغة العربية وآدابها

د. ياسين اعطية*

يُعد ثيسبيس (Thespis) أحد أول  الممثلين والكتاب للتراجيديا اليونانية. عاش في القرن السادس قبل الميلاد بعد أن ولد في قرية إيكاريا (Ikaria) بمنطقة ماراثون (Marathon)، والتي كانت تحتفل بطقوس العبادة الدينية، باعتبارها مركزًا مهمًا من مراكز عبادة الإله ديونيزوس (Dionysos). حيث الاحتفال بمواسم الكروم والنبيذ، وحيث المهرجانات التي كان يرعاه الإله نفسه، وبالتالي فالمنطقة كانت تحتل مكانة خاصة في أسطورة الإله. مما جعل أحد مواليدها يقفز بتلك الطقوس الاحتفالية التي كانت تقوم بها الجوقة الدينية البدائية، من الطقس تجاه الدراما. وهذا ما تعترف به لوحة رخام الباريان الشهيرة، التي تؤرخ حضور ثيسبيس لتكريم الإله الأسطوري ديونيزوس، في حوالي عام 534 ق.م، بأثينا في المهرجان الكبير. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت تعقد منافسات في كتابة المسرحيات في المهرجان.

لا يمكننا أن نتحدث عن شكل المسرحية عند ثيسبيس لأن جل أعماله ضاعت، ولم يصلنا منها شيء، وبالتالي لا نستطيع أن نملك الدليل الذي سيمكننا من معرفة كل ما نسب إليه. بل ولدراسة الجوقة والممثل عند ثيسبيس لا بد من مسرحياته لنرصد شكليهما وأدوارهما، لذلك سنقبل  بما جاء من الألسن التي تحدثت عنه.

تنسب جميع الكتب والآراء (شلدون تشيني، أحمد عثمان، وآخرون...) ظهور التراجيديا (Tragedy) إلى ثيسبيس، فإليه يعزى فضل إيجاد الممثل الأول الذي أخذ يتبادل الحوار مع رئيس الجوقة، "هذا التعديل يهدف أساسًا إلى زيادة الأجزاء الحوارية التي كان قد أوجدها آريون"1. وبالتالي فهذا الأخير يدخل أيضًا في اللعبة المسرحية، فليس ثيسبيس وحده من يرجع له الفضل، وإنما حتى آريون الذي خول لثيسبيس أن يبدع ويضيف، ليشكل لنا مسرحًا قائمًا على ثنائية جوقة/ممثل، وعلى ثنائية الفن الإيمائي المسرحي، الذي يؤديه الممثل ارتباطًا بالفن الأدبي المسرحي الذي تقوم به الجوقة ورئيسها (Chorus) على أن "الممثل ورئيس الكورس منذ ذلك الوقت يقومان بالحوار"2. كما أن الكورس وأناشيده في هذه المرحلة كانا لا يزالان العنصران الأساسيان والمقصد المهم في زمن ثيسبيس، بينما كانت المقاطع الحوارية التمثيلية مجرد فواصل للاستراحة. كما أن هذا التغيير الذي قد لا يبدو ملفتًا، هو الذي انتقل بالديثرامب (dithyramb) كأغنية كورسية، من الكلام الشعري إلى الدرامي التمثيلي.

يعتقد المؤرخون أن ثيسبيس كان يتخذ لوجهه مكياجًا من الأصباغ والأدهنة التي تخفي ملامح وجهه بأكملها، ثم ابتكر الأقنعة بعد ذلك فعوض بها المكياج. ويثار الجدل هنا حول النظرية التي يذهب أصحابها إلى أن القناع كان شيئًا موروثًا عن رقص الطقوس الدينية البدائية. إلا أنه مما لا يمكن الشك فيه منذ زمن ثيسبيس قد ظلت هذه الأقنعة عاملاً مساعدًا في انتحال الشخصية الممثلة خلال تاريخ المسرح اليوناني كله. وقد قيل أن ثيسبيس هو من كان يقوم بهذه الأدوار، ويغير ملابسه في كل مرة، مع استخدامه للأقنعة ليشخص الآلهة والأبطال والشخصيات بأنواعها المختلفة، كما ينسب إليه  اختراع القناع الكتاني، بعد أن كان يغطي وجهه إما بالرصاص الأبيض وإما بنبات الرجلة كنوع من الماكياج.

ساهم ثيسبيس بشكل كبير في إيجاد أجزاء التراجيديا بفضل إضافته للمثل الأول، فبهذا الأخير، أصبحت المنصة التي كان يقف عليها قائد الجوقة الديثرامبية ليتحدث إلى بقية أفرادها: ذات طبيعة ثنائية؛ سواء أكانت تلك المنصة في عربة متنقلة كما روي عن عربة ثيسبيس، أو مكانًا مسرحيًا ثابتًا كما عهدناه في المسرح الإغريقي. حيث يأتي الممثل في بداية مسرحيات ثيسبيس ليلقي حديثًا يحتوي على شكل تقديم للحبكة، وهذا ما سمي بالبرولوج (Prologos) فيما بعد، ثم يتلو هذا الحديث الفردي المقدم (monologue)، بعضًا من أغاني الجوقة التي تؤديها أمام المنصة مرفقة بمجموعة من الرقصات، وهذا ما يسمى بالبارودوس (parados): الذي يوظف أغنية المجاز عن طريق الجوقة التي تمر إلى الأوركسترا. أما أغاني المقام فكانت تؤدى بين الفينة والأخرى قبل دخول الممثل وبعد خروجه، وبعد أن يكون قد غير ملابسه وقناعه بما يتلاءم مع الشخصية التي يؤديها، وكانت أحاديث هذا الأخير إما سردية فردية طويلة حيث يروي ما وقع من أحداث في مكان ما أو في زمن ماض، وإما أن يدخل في حوار (Dialogue) مع قائد الجوقة3. 

وقد أدى إدخال ثيسبيس لممثل أحداث المسرحية - التي كانت تلقى سابقًا على لسان الجوقة، وأصبحت مع ثيسبيس تمثل أمام الجمهور ويقوم بتمثيلها شخص أخر ويطلق عليه اسم هوبوكريتيس (Hupokrites) - إلى ظهور سقيفة أو كما يطلق عليها سكيني (Skene)، مرفقة بالمنصة، والتي كان يستخدمها ثيسبيس لتغيير ملابسه وأقنعته. فبريادة  ثيسبيس أيضًا أصبحت التراجيديا تنفلت من هيمنة الأسطورة الدونيزوسية إلى الغوص في أساطير إغريقية أخرى، بعد أن بدأت جوقة ثيسبيس والآخرون من الرواد، تتخلى عن طابعها الساتيري (Satyres) وتدخل في حوارات مع الممثل.

يبدو أن مثل هذه الأحاديث من مونولوج وحوار، راسخة في المسرح الإغريقي حتى بعد ثيسبيس، ويبدو أن سمات المسرحية الثيسبيسية ظلت موجودة رغم توافد الممثلين، لكننا بدون نصوص لا يمكننا أن ندرك الفرق أو نحسم فيه. كما أنه يكمن الظن أن التراجيديا الأولى لإسخيليوس (Aeschylus) "المستجيرات" قد تحمل نفس السمات البدائية التي كان ينهجها ثيسبيس، على أننا يمكن أن نقول أن المرحلة التي تفصل بين ثيسبيس وإسخليوس والتي تقدر بثلاثين سنة، لم يصلنا منها شعراء كثر سوى ثلاثة ساروا في نهجه الذي تميز به. وهم: خويريلوس (Choirilos)، براتيناس (Pratinas)، فرونيخوس (Phrynichos)، مع تجديدات طفيفة لهذا الأخير الذي كان أول من أدخل القناع النسائي، الذي لم يعره ثيسبيس اهتمامًا، كما كان يبتكر تصميمات جديدة لرقصات الجوقة، ويطيل في المقاطع الغنائية مقابل الحوار، كما حاول التكلم عن مواضيع أخرى ليست بالضرورة أسطورية وديونيزوسية، كالمواضيع التاريخية ومن بينها الثورة الأيونية، مما جعله يحظى هو الآخر بشعبية واحترام كبيرين سواء لدى الشعب، أو لدى كتاب التراجيديا الذي تعاقبوا من بعده وأعجبوا بإنتاجاته وقلدوها. ويبدو أن فرونيخوس كان له الفضل أيضًا في التأثير على الدراما الإغريقية وخصوصًا على مستوى انفتاحها على مواضيع أخرى، وكذلك على مستوى الغنى الأدبي والجمال الشعري، بينما أثر ثيسبيس على الدراما بجعلها تسير على ساقين اثنين الممثل والجوقة.

إذن ولكي لا ننسب لثيسبيس معلومات ليست عنه، غير تلك التي تتعلق بكونه أول من فاز بجائزة التفوق في التراجيديا، وبعلاقته بالمسابقات التراجيدية والاحتفالات والمهرجانات، وعلاقته بالطبقة الحاكمة، والاعتراف الذي حظي به من طرف الدولة. فلا يمكننا التكلم عن جوقته المسرحية بالتفصيل، إلا أننا نقول إنها كانت في مراحلها الأولى بالشكل الذي كانت فيه مع آريون الذي تحدثنا عنه سابقًا، والذي لا تفصله عن ثيسبيس سوى (ثلاثين سنة)4 ، لكن يبقى كل منهما واضعًا ومؤسسًا للمسرح الإغريقي. فالأول بالأجزاء الحوارية، والثاني بالممثل، وبالتالي فعلى أساسهما سار الممثل وسارت الجوقة.

وصولاً إلى هذا، يبقى أن نقول إن هذه الأجزاء الحوارية، سواء أكانت من ابتداع آريون أو ثيسبيس أو من شعراء سبقوه، فاقتصر دوره على تطويرها، فإن الأمر الذي لا شك فيه، أن هذه الأجزاء الحوارية، قد تبدو عنصرًا ثانويًا بالنسبة للأغنية الديثرامبية، لكنها أكبر خطوة نحو ولادة التراجيديا الإغريقية، فهي النواة الأولية في الفكرة الدرامية ككل، والتي جعلت الدراما ذات طبيعة ثنائية.

 

الهوامش:

  * باحث مغربي وأستاذ لمادة اللغة العربية وآدابها، حاصل على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وشهادة الماستر في الدراسات المسرحية، بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة. مهتم بمجال الأدب والنقد والفن، البريد الإلكتروني: yassineattiaattia@gmail.com

1 - أحمد عثمان، الشعر الإغريقي تراثًا إنسانيًا وعالميًا، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع77، مايو 1984، ص 185.

 2 - شلدون تشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة، (عرض لتاريخ الدراما والتمثيل والفنون الجميلة)، تر: دريني خشبة، ج1، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، (د.ط)، 1979.، ص 52.

3 - أحمد عثمان، الشعر الإغريقي، ص 188. (بتصرف)

4 - أنظر الشعر الإغريقي، ص 185.


عدد القراء: 8476

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة عبد اللطيف بلاونص من المغرب
    بتاريخ 2018-10-23 17:14:57

    جميل أستاذي الس ياسين .مسيرة موفقة إن شاء الله. #تحياتي_الحارة

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-