الغرابة في شعر بن زريق البغداديالباب: مقالات الكتاب
أحمد الشيخاوي شاعر وناقد مغربي |
"مالم أكتب أجنّ". هي مقولة خلدونية خالدة، يُستشفّ منها إلى أي مدى، تغدو الكتابة سلاحًا ضدّ صنوف الغبن الوجودي، والاستبداد والتوحّش الذي يحاول قطع الطريق على خطاب العقل، بحيث ينحصر الهمّ في رعاية الإيديولوجية المنتصرة لرموز السلطة، ليس إلاّ.
كتابة تذكي فتيلها، العزلة وراء القضبان، فتثمر من دون شك، لحظات انقلابية ارتجالية مقارعة لفصول الظلامية والتخلف والجهل والسلبية والنقصان.
وكما هو مأثور عن ديكارت قوله "أنا أفكر إذن أنا موجود". التفكير تلكم الصفحة السرية أو البياض الذهني القبلي الممهّد، لفعل الكتابة.
إن الإبداع في إحدى تجلياته، ليس سوى صفقة جديدة مع الذات المبدعة، رامية إلى تشكيل وعي جديد بالواقع، ومن ثم تجاوزه.
يُعرف الشاعر البغدادي أبو الحسن علي أبو عبدالله بن زريق المتوفى سنة 420 للهجرة، مثلما هو متداول لدى مؤرخي الأدب العربي، بهجرته المأساوية إلى بلاد الأندلس، طلبًا لحياة الرغد والرفاه، بحيث يفارق خليلة تبادله الحب والإخلاص في الزيجة.
يخرجه من بغداد حلم الكتابة المخلّصة، بل وهم قصيدة العمر، على نحو، ربما يتيح له العيش الكريم أقلّه.
هكذا يتعثّر بخيباته في بلاط ممدوحه الأمير الأندلسي أبو الخير عبدالرحمن، اختبارًا من هذا الأخير له، بما يرتقي فوق الشعر خصوصًا والأدب عمومًا، فوق أيّ مقابل، ويسمه بطابع الرمزية الأبدي، إلاّ إذا تأكّد جنون الكتابة وإدمانها، دونما تلوّن بالنوايا التكسبية والاسترزاقية، حينها تفتح خزائن الجود ويجزل العطاء ويكتمل الإغداق.
بيد أن ما فجّر الشعر كما يجب، في ذات مطعونة بفراق الخلّ، تكابد عتمة الأقاصي ووجع المنفى، تمامًا مثلما هو بين وصريح، في عينية بن زريق، ليس التدرّج الإبداعي وتجويده في حضرة الأمير المذكور، وإنّما اللوعة والصبابة ممسوسة بنوبات الداء، حسرة وندامة على هجر الزوجة الودود المخلصة القانعة، ومن ثمّ افتقادها واشتعال الحنين إلى دفء حضورها.
تؤخذ قصيدة العمر، من تحت رأس بن زريق، الميت كمدًا واشتياقًا، وكأنما توحي بولادة صاحبها الثانية، ليخلد في برزخيته ساخرًا من عبثية هجرته تلك، وكيف أنه لم يفطن إلى أكبر وأثمن نعمة، خليلته ومُلهمته، مع أنه اللبيب الأشعر الذي ذيل حياته بعينية طافحة بمشاعر الجنائزية والاغتراب.
قصيدة لم يكتبها لذاته، فكان أن ترنّم بها الجيل الذي كفّنه ودفنه وتلطّخ بمرارة مُصابه العجائبي، قدْرًا لا يقلّ عن غرابة محياه، كما هو معلوم.
يقول مطلع عينية بن زريق:
«لا تعْذليهِ فإن العذْل يُولعهُ
قد قلتِ حقّا ولكن ليس يسمعُه».
يا لروعة وعذوبة لغة الضاد والإعجاز، ذات بن زريق "البعدي" المتنعّم بقصيدة العمر، هنا/هنالك، في برزخيته، وهو يتنفّس طقوس ولادته الثانية، ما بين عالمين ومكانين متصاديين، يهتدي إلى تيمة مغيّبة اسمها العدل، بما يصنع كامل هذا الوجع الإنساني ويقود إلى الانقراض واليباب الكوني.
ينقّط دال هذه التيمة المفقودة، فيتضوع شعره بمحسّنات البديع وتتلألأ الصور وتتناسل المعاني، مدغدغة بمثل هذا التشاكل التعبيري البلاغي في احتواء كمد المنفى وهجران الخليلة، إلى ما هو أدنى، تأليه المال الذي تصنعه الرجال لا العكس.
يتوجّه بالخطاب إلى مشوقته، ينهاها عن اللوم والعتاب، نهي ترغيب، مادام الفعل يعمّق من ولع العاشق المغترب ويحرّق عشب قلبه أكثر فأكثر.
بوصف الهجرة ونعتها بما هو أحوى وأشمل من مجرد حقيقة مرة أو عمى إبداعيًا انطلى على هذا الشاعر المقامر، وخنقه بخيوط سمّ شك الشعر في سائر ما سواه.
نقتطف له بضع أبيات، وهو كائن الغرابة سيرة وشعرًا، يوهمنا بأنه لا يسمع صوت حبيبته التي فارقها ليتسكّع ويسكر بمدح الملوك علّه يصيب من كرمهم حظوظًا، فيجعل بالتالي، من حبيبته أميرة تلعن زمن الفاقة والعوز، يقول:
«فكأنما نُوب الزمــان محـيـطـة
بي راصدات لي بكلّ طريق
هل مُستجار من فضاضة جورها
أم هل أسير صروفها بطليق
حتّى متى تنجلي عليّ خطوبها
وتغصّني فجاعتها بالرّيق».
نبوءة تتحقّق، تطفو مع تفاصيل المشهد الحياتي الأخير، ترتّله قصيدة وجود، تترعها إيقاعات الغبن والغضاضة، جراء معاندة القرينة المُلهمة.
عينية رافلة بولادة البغدادي بن زريق الثانية، بعيدًا بعيدًا، في برزخيته وعلى امتداد خارطة صعلكته النبيلة، كما يشتهي وهو المستسلم لعبثية مقامرته، وريشة أقداره، حيث لا تنمو الإيديولوجية في خبث، لتحمي سدنة الزعامة والبلاط.
كما لون أن الشعر يعلّمنا كيف سقطت الأندلس، بينما بقيت أمجادها وشموخها، متوهّجة به ألسن هؤلاء الفحول في شتّى حقول الفلسفة والأدب والفكر والثقافة والفنون.
تغريد
اكتب تعليقك