البكاء: تاريخ طبيعي وثقافي للدموع
المحرر الثقافي:
الكتاب: "البكاء: تاريخ طبيعي وثقافي للدموع"
المؤلف: توماس لوتز
الناشر: WW Norton & Company
تاريخ النشر: 17 يناير 2001
اللغة: الإنجليزية
عدد الصفحات: 356 صفحة
لا يُعرف على وجه التحديد متى سقطت أول دمعة من عين إنسان على خده أو على الأرض، ويحتمل أن تكون أول دمعة بشرية مرتبطة بأول إنسان، فالدموع ملازمة للإنسان منذ ميلاده وحتى الممات، وهي مع ذلك تمثل أحد أكبر الألغاز إرباكاً في جسم الإنسان، فعلى الرغم من أن بعض الأنواع الحية الأخرى تذرف الدموع نتيجة للألم أو غيره، فإن البشر هم الكائنات الوحيدة التي يمكن أن تثير مشاعرهم دموعهم.
لا يزال إلى الآن لغز الدموع والبكاء قائماً؛ وإذ تلعب الدموع لدى الأطفال دوراً واضحاً وحاسماً في جذب الانتباه وطلب الرعاية، تبدو بالنسبة للكبار أقل وضوحاً، فمن الواضح أن العواطف القوية تثيرها، لكن لماذا؟
من خلال ملاحظة أن فعل البكاء هو عمل يختص بالجنس البشري، حاولت العديد من الدراسات تناول تاريخ فعل البكاء، ومن بينها كتاب المؤلف الأمريكي توماس لوتز "البكاء: تاريخ طبيعي وثقافي للدموع" الذي قدم صورة للدموع عبر التاريخ بأسلوب مرن ومدى متنوع ومتعدد التخصصات يشمل التاريخ والأدب والفنون والعلوم الاجتماعية وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم اجتماع الدموع.
يستكشف المؤلف كيف تم تصوير البكاء وإدراكه عبر التاريخ، ويفحص فسيولوجيا الدموع ويستشهد بالمنظرين الثقافيين وعلماء الاجتماع وحتى علماء التاريخ الطبيعي ومن بينهم داروين، الذين عدّوا البكاء فعلاً جسدياً عضلياً، وهو ما يبدو محاولة لاختزال فعل البكاء وتقزيمه.
وينظر إلى الدموع بشكل أكثر شيوعاً على أنها تعبر عن "فائض من الشعور فوق التفكير" سواء بسبب الحزن أو السعادة أو الألم أو الراحة أو الكبرياء أو التعاطف أو التنفيس أو الخداع (كما هي الحال في دموع التماسيح) أو الإلهام أو الغضب أي مزيج من هذه المشاعر، ولا يسأل المؤلف فقط لماذا نبكي، ولكن يسأل أيضا لماذا نتوقف عن البكاء وكيف نتفاعل مع دموع الآخرين.
ويشمل فحص الكتاب محاولة لقراءة الصور النمطية الجنسانية والتقسيم التقليدي لـ"العمل" العاطفي في مجتمعنا، الذي بموجبه تبكي النساء، في حين أن الرجال يكبحون دموعهم أو يحاولون ذلك، وفي هذا النص وطوال تاريخ البشرية، تم اعتبار بعض الدموع جيدة، والبعض الآخر، مثل تلك التي ليست "حقيقية"، تم احتقارها، وبعض الدموع تكرم الطبيعة البشرية، والبعض الآخر يحط من قدرها.
أنواع متعددة من البكاء
هذا التمييز هو أحد الخيوط التي يتناولها التاريخ الثقافي للبكاء، والموجود أيضاً في الخرافات القديمة، والأطروحات الرهبانية في العصور الوسطى، وثقافة البلاط والحكام، والأفلام والمسلسلات، ولكن ما يشكل بكاء "جيداً" يتغير بمرور الوقت، فإذا نزلت شابة على الأرض تبكي في مطعم، وغسلت قدمي أبيها بدموعها وهي تتوسل إليه المغفرة، فقلة من الناس قد يجدونها مناسبة أو دافئة كمشهد عاطفي حقيقي في زمننا الراهن، مثلما فعل قراء الروايات في القرن الثامن عشر بوضوح، وينطبق الشيء نفسه على الأحكام الأخرى التي نتخذها بشأن البكاء، كما هي الحال عندما نعتبرها طبيعية أو مفرطة، صادقة أو متلاعبة، معبرة أو مسرحية.
وكما يعلم مؤرخو الحياة اليومية، فإن الأمور العادية لا تصلح للتوثيق التاريخي بالطريقة التي يمكن بها التأريخ للسياسة أو الدبلوماسية أو التحول التكنولوجي؛ فتفاصيل الحياة اليومية، الموثقة فقط بشكل عابر، تترك القليل من الأثر الورقي الذي يمكن الرجوع إليه.
إذ يحتاج مؤرخو الطعام، على سبيل المثال، إلى سحب أوصاف للوجبات من الروايات الصحفية والأعمال الأدبية والخيالية واليوميات والمصادر الأخرى التي تهتم بشكل أساسي بما قيل على الطاولة، كذلك مؤرخ العاطفة يعوقه أيضاً حقيقة أن الكثير من التفاعل العاطفي يعتمد على المعرفة الضمنية، وعلى قواعد الملائمة والمعنى الذي لا يفكر فيه معظم الناس أبداً، ناهيك عن التعبير عنه، ومهما كانت قوة وبلاغة اللحظة التي قد تكون عاطفية.
ويشير المؤرخ الهولندي جوهان هويزينجا (1872 – 1945)، الذي اهتم بشدة بالحياة اليومية في العصور الوسطى، إلى أن تمثيلات المشاعر معرضة أيضاً للمبالغة (أو التقليل من الأهمية)، لذلك فإن الروايات التاريخية حول الأشخاص الذين ينزلون على الأرض وهم ينتحبون قد تعني أو لا تعني أن الناس فعلوا ذلك بالفعل. أضف إلى ذلك حقيقة أنه في جميع الأماكن، وفي جميع الأوقات، يمكن تفسير أي رد فعل أو تعبير عاطفي بطرق مختلفة إلى حد كبير، حتى من قبل الأشخاص الذين يتشاركون نفس الثقافة والقيم.
ويقول المؤلف إن لحم البقر المشوي هو لحم بقري مشوي ببساطة، لكن الخط الفاصل بين البكاء والبكاء غير واضح، والبكاء ليس دائماً صادقاً، وعندما يكون صادقاً لا يكون دائماً علامة على الحزن.
وفي العصور الوسطى الأوروبية، رأى بعضهم الدموع سائلاً قوياً واستثنائياً يمكنه أن يشفي العلل ويحرر النفوس ويطهرها، وعلى الرغم من أنه كان ينظر إلى الدموع على أنها تشير إلى فائض من الفكاهة وعلامات على القداسة، فقد سفكت في الأنشطة والأغراض العاطفية وكذلك في الأعمال الروحية والدينية؛ كانوا رفقاء لتجربة البصيرة ووكلاء حجبوا الرؤية. وبالنسبة لمؤرخين من العصور الوسطى، كان ينظر إلى الدموع على أنها أداة تأديب، وعطية أو هدية من الله، وهكذا اعتبرت ثمينة واستثنائية.
"تأريخ غربي"
الكتاب -إذن- ليس تأريخاً بقدر ما هو سلسلة من الحكايات ذات الصلة، واعتمد جزئياً على المؤرخين القلائل الذين قاموا بعمل مكثف حول موضوعه، مثل دراسة فليمينغ فريس هفيدبيرغ لدموع العهد القديم، وتاريخ ساندرا ماكنتاير عن "الدموع المقدسة" في القرن الثالث حتى القرن العاشر، ودراسة مارغوري لانج لإنجلترا في القرن السابع عشر. وكما يلاحظ القارئ، المصادر والحكايات الواردة في الكتاب تبدو "غربية" تماماً ويغيب عنها تأريخ البكاء لدى الشعوب الآسيوية والأفريقية والشرق أوسطية والثقافات غير الغربية، وهو ما يبدو معتاداً في التأريخ للحياة اليومية لدى المؤرخين الغربيين المعاصرين.
ينتمي "تاريخ البكاء" إلى نوع من الكتب النفسية الشعبية التي ظهرت في السبعينيات، في أعقاب ما يسمى البنيوية وما بعد البنيوية للمنظر الفرنسي ميشيل فوكو. أخذ فوكو مفهوماً واحداً هو الجنون والسجون، وتتبعه عبر التاريخ. وسرعان ما انتقلت هذه الطريقة إلى اللاحقين المتأثرين به من علماء الاجتماع الجدد، وكان أول كتاب أمريكي كبير يمكن التفكير فيه على منوال فوكو هو "ثقافة النرجسية" للكاتب كريستوفر لاش، بحسب عرض نقدي نشر في أرشيف صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times).
ألقى المؤرخ الثقافي لاش كلمة "النرجسية" مثل المغناطيس في العالم وانتظر ليرى ما سيجمع حوله، ليس من المدهش، بالنظر إلى طريقته، أنه توصل إلى استنتاج مفاده أننا جميعاً نرجسيون جداً، وهكذا أخرج المصطلح من استخداماته الطبية والبحثية وأشاع استخدامه لدرجة أنه أصبح شائعا في نزاعات شخصية صغيرة بدلا من دلالته الأصلية المرتبطة بالاضطراب المرضي.
ما قدمه فوكو وأتباعه هو صيغة لكتابة الكتب، نوع من تعريف الثقافة، لكن تلك الصيغة أصبحت مبتذلة بشكل متزايد، وكان لدى فوكو ولاش دائما قضية يجادلون بها، ولكن على الرغم من كل الأبحاث الهائلة التي أجراها توم لوتز في "البكاء" والروايات الهائلة التي قام تجميعها، فالكتاب يحتاج إلى أكثر من مجمع للبيانات، إنه يحتاج إلى مؤلف.
تغريد
اكتب تعليقك