السؤال الأبدي عن معنى الحياة وقيمتها

نشر بتاريخ: 2022-03-18

المحرر الثقافي:

الكتاب: "معنى الحياة وقيمتها"

المؤلف: رودولف كريستوف أويكن

المترجم: محمد المهذبي

الناشر: دار صفحة سبعة للنشر، السعوديّة

تاريخ النشر: شباط/فبراير 2022

عدد الصفحات: 150 صفحة

صدر حديثاً الترجمة العربية لكتاب "معنى الحياة وقيمتها" للمفكر الألماني "رودولف كريستوف أويكن" عن دار "صفحة سبعة" السعودية مع مقدّمة بإمضاء الكاتب والمترجم التونسي محمد المهذبي، حيث صار بإمكان القارئ العربي الاطّلاع على أفكار أويكن.

يندرج الكتاب في سياق الجدل الذي خاضه الروحانيون من المفكّرين الأوروبيّين، نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، ضدّ الأطروحات الداروينية القائلة بأسبقية البُعد الطبيعي في الحياة. دون أن ينفي أهمّية البيولوجيا في حياة البشر، يحاول أويكن لفت النظر إلى أسبقية "الحياة الروحية"، وإلى ضرورتها في ضمان مبدأ الحرّية للإنسان في وجه الحتمية الطبيعية.

هل يعرف القرّاء العرب رودولف أُويْكِن، الفيلسوف الألماني الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1908؟ من المرجّح ألاّ يكون عَدَدُهُمْ كبيراً خارج دوائر أهل الاختصاص، لأنّ اسم "أويكن"، حتّى في ألمانيا، قد خفت بريقه بعض الشيء. غير أنّ الفيلسوف رودولف أويكن ربما لا يستحقّ النسيان الذي لحقه بعد وفاته، لأنّ أعماله لا تخلو من أهميّة حتّى بعد مرور أكثر من قرن على نشرها، وقد كان هناك من يعتبره أحد "أنبياء" العصر، وحتّى أعظم مفكّريه.

المؤلف:

وُلِد رودلف كريستوف أويكن في الخامس من يناير سنة 1846 بمدينة أَوْرِيشْ الألمانية التابعة لمملكة هانوفر، مثلما كانت تُسمّى آنذاك قبل الوحدة الألمانيّة. تلقّى تعليمه بمسقط رأسه، قبل أن ينتقل إلى غوتنغن ثمّ إلى برلين لاستكمال دراسته الجامعيّة. تابع في البداية دروسا في فقه اللغة والتاريخ القديم، وحصل على الدكتوراه. غير أنّه سرعان ما اتّجه إلى الفلسفة بعد ذلك، ليتخصّص فيها ثمّ يُدَرِّسها.

انتقل أويكن سنة 1871 لتدريس الفلسفة بجامعة بازل السويسرية التي كانت تضمّ يومها أساتذة من أشهرهم فريدريش نيتشه (1844-1900) المتخصّص في فقه اللغة وياكوب بوركهارت المؤرّخ والمفكّر السويسري. وقد كان لتلك الفترة، رغم قصرها النسبي، تأثير على تطوّر تفكيره، لا سيما من خلال الحوار غير المباشر مع نيتشه الذي يشير إليه أويكن في أكثر من عمل من أعماله، وإن اختلف الاتّجاه. ويمكن القول إنّ أويكن يلتقي مع نيتشه على الأقلّ في رفض الأنساق الفلسفيّة العقلانيّة وكذلك في نقد واقع الحضارة الأوروبيّة في القرن التاسع عشر.

مَثَّل انتقال أويكن إلى جامعة يِينا الألمانيّة، قلعة كبار الفلاسفة الألمان، سنة 1874، المنعرج الأهمّ في حياته، فقد استقرّ هناك إلى حدود سنة 1920، بعد أن تجاوز السبعين من العمر. وكانت تلك الفترة شديدة الخصوبة من حيث التأليف والنشر ونسج شبكة من العلاقات الواسعة سواء ببريطانيا أو السويد التي كان عضوا في أكاديميّتها الملكيّة لفترة من الفترات، وصولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة والصين واليابان. وعمل أويكن أستاذاً زائراً بجامعتي هارفرد ثمّ نيويورك خلال سنتي 1912 و1913. وكانت دروسه وبيته في يِينا مَزَارًا لطلبة وباحثين وصحفييّن من مختلف أنحاء العالم. وتوفي أويكن في الخامس عشر من سبتمبر سنة 1926.

يقول أويكن إنّه التقى في إحدى زياراته للسويد بملك البلاد الذي عبّر له عن إعجاب والده الشديد بأعماله، وهو ما يؤكّد شهرته خارج ألمانيا. وكان إعلان حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1908 تتويجاً منطقياً لجهود امتدّت على مدى سنين. فقد تُرجمت أعماله إلى لغات كثيرة وأُعِيدَ نشرها مرّات حتّى قبل حصوله على الجائزة. غير أنّ الاحتفاء الواسع الذي حظي به أويكن في الخارج لم يقابله سوى اهتمام محدود في بلده، وهو ما أثار استغراب الفيلسوف. ولعلّ ذلك يعود إلى تراجع المذاهب المثالية في ألمانيا بتأثير النزعات الماديّة. كما يمكن أن يُفَسَّرَ بالصخب الذي أثاره زميل أويكن بجامعة يِينَا، المفكّر إرنست هِيكِل الذي ادّعى أنّ الجائزة كانت ستُمْنَحُ له، وهو ما انكشف زيفه لاحقا، بعد أن تبيّن للباحثين أنّ هِيكِل لم يكن من المرشّحين أصلا.

تزامنت سنوات دراسة أويكن الجامعيّة مع أوج ردّة الفعل على الفلسفة العقلانيّة التجريديّة التي جسّدها فلاسفة كبار مثل هيغل وكانط وفيشته. وكان شوبنهاور أكثر الفلاسفة أتباعاً. أمّا الفلسفة الوضعيّة التي ازدهرت في فرنسا وبريطانيا، بتمجيدها المفرط للعلوم وللتقنية، فلم تكن كافية لتعويض الفراغ الذي تركه انهيار الفلسفة المثاليّة وتراجع الدين. وكانت ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر تعيش أجواء تسودها الرغبة في اللحاق بالثورة الصناعيّة، وأنساها الانتشاء بالتقدّم العلمي والتكنولوجي ما خلّفه ذلك من فراغ روحي لدى الإنسان. وأصبحت الحياة تشهد تناقضاً صارخاً بين "الحياة الذاتيّة" و"الحياة الموضوعيّة"، وتذبذباً بين عمل بلا روح وشعور لدى الفرد بالعزلة. ولعلّ ذلك ما أَجَّجَ الإحساس عند أويكن بضرورة تطوير رؤية جديدة للحياة في كليّتها. ولن يقدر على ذلك، حسب رأيه، سوى الفكر الفلسفي، حتّى وإن أراد الاتّجاه السائد في عصره أن يجعل من الفلسفة إمّا مجرّد تاريخ للأفكار الفلسفيّة أو خادمة للعلوم.

ينطلق أُويْكِن من الحياة باعتبارها مركز تفكيره. وقد لاحظ أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون منطلق الحياة ومنتهاها، مثلما اعتقد بعض معاصريه تحت تأثير الطفرة العلميّة التي تحقّقت في القرن التاسع عشر، ولا سيما نظريّة داروين. ومع أنّ أويكن لم ينكر أهميّة الحياة الطبيعيّة، فهو يعتقد أنّها تشكّل مستوى أدنى من الحياة في حين تمثّل "الحياة الروحيّة" مستوى أعلى وهي تتميّز باستقلاليّتها، أي تحرّرها من الحتميّة التي تخضع لها الطبيعة. وبذلك يتحقّق التوازن، في رأيه، بين اعتبار الحياة جزء من الطبيعة، وهو ما يُفْقِدُهَا الحريّة بسبب خضوعها للحتميّة، وبين النزعة الفرديّة التي تضع الفرد وحريّته في أساس كلّ تصوّر، وتخسر الحياة بالتالي حقيقتها الموضوعيّة وثباتها. أي إنّه يقف ضد المذهبين الطبيعي والعقلاني. فكلاهما، حسب رأي أويكن، لا يعترف بالإنسان من حيث كونه شخصاً أي فرداً حرّاً. ويستند المذهب الطبيعي إلى مذاهب الفلسفة الوضعيّة والماديّة التي تلتقي في اعتبار المجتمع والطبيعة خَاضِعَيْن لنفس المبادئ الحتميّة وهو ما يعني أنّ كِلَيْهِمَا موضوع للدراسة العلميّة بنفس المنهج. ولذا فقد اعتبر أويكن مذهبه "مثاليّة جديدة" نشأت في مواجهة تحديّات مختلفة عن تلك التي ميّزت سياق ظهور المثالية الألمانية السابقة عليه لدى كانط وهيغل وفيشته على سبيل المثال. ثمّ إنّ فلسفة أويكن تقوم على ما يسمّيه الكفاح من أجل "الوجود الروحي". ولعلّ ذلك ما جعل تلميذه ماكس شيلر يعتبر أعماله واقعة " في منزلة بين البحث العلمي الفلسفي وبين الأدبيّات الفلسفيّة التعليميّة". ومن المفيد هنا أن نوضّح أنّ مفهوم الحياة الروحيّة عند أويكن يشمل الدين كما يشمل الفنّ والعلم وغيره من الأنشطة الإبداعيّة والمعرفيّة، وهو "العالم اللامرئي" في مقابل "العالم المرئي".

كتب إدموند هوسرل (1859-1938)، مؤسّس الفلسفة الفينومانولوجية وأستاذ هايدغر، مقالاً بمناسبة عيد ميلاد أويكن السبعين، سنة 1916، أشاد فيه بفلسفته، مُعْتَرِفًا بوجود "طريقين لاكتشاف الحياة الأصليّة ضمن عالم التجربة المتشكّل في كليّته، طريقين لتجاوز الانفصال بين البشر صُلْبَ الطبيعة وبين الإنسانيّة في بعدها الروحي، ولإدراك وحدة الحياة الروحيّة داخل مسار البشريّة الصاعد والعودة إلى المنابع الأصليّة". أمّا أحد هذين المنهجين فقد طرقه رودولف أويكن من خلال فلسفته للحياة الروحيّة، في حين تولّت الفلسفة الفينومانولوجية ارتياد المنهج الآخر.

غير أنّه بقدر ما كان الالتقاء مع هوسرل فلسفياً، حيث لا نجد إشارة إلى وجود علاقة شخصيّة، فإنّ العلاقة مع الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) كانت أوثق. فقد التقى الفيلسوفان بالولايات المتّحدة الأمريكيّة، استجابة لدعوة من جامعة نيويورك سنة 1912 وكانت مناسبة لحوار معمّق بينهما. وساهم أويكن في تقديم فلسفة برغسون للقرّاء الألمان، بعد أن كلّف أحد تلاميذه بترجمة كتاب الفيلسوف الفرنسي "المادة والذاكرة" إلى الألمانيّة. أمّا برغسون فتولّى كتابة مقدّمة الترجمة الفرنسيّة لكتاب أويكن "معنى الحياة وقيمتها". ويشترك الفيلسوفان في انتمائهما إلى ما يسمّى بـ"فلسفة الحياة" التي تقوم عموماً على نقض النزعات العقلانيّة والذهنيّة والعلمويّة والرؤية الماديّة للكون، حتّى وإن تعدّدت تيّاراتها وتباينت مواقفها في بعض القضايا. وهناك من يرى أنّ مفهوم "الحياة الروحيّة" عند أويكن هو "تطوّر أعلى أو من تجليات مفهوم الدافع الحيوي" لدى برغسون. غير أنّ أحد أكبر من تفاعل معهم أويكن لم يكن من معاصريه، ونجده حاضرا بوضوح في كتابه "معنى الحياة وقيمتها"، أقصد الشاعر الألماني فولفغانغ غوته، الذي يُعتبر من ملهمي تيّارات "فلسفة الحياة" على اختلافها، باحترازه الشديد من التجريد الفلسفي وتغنّيه بالحياة وثرائها الذي لا يقدر العقل على الإحاطة به.  فهو القائل في ملحمته الشهيرة "فاوست": "رماديّة، يا صديقي العزيز، هي كلّ نظريّة/ وخضراء تبقى شجرة الحياة الذهبيّة".


عدد القراء: 2153

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-