العزلة من أجل الإبداع أن تكون وحيدًا
مجلة فكر الثقافية
لا أنكرُ أنّ العزلة جميلة.. ولكن لابد لي معها من رفيقٍ لأقول له من وقت إلى آخر أن العزلة جميلة!
أمين الريحاني
قدمت العزلة للعالم روائع أدبية فريدة، حفظها التاريخ على مرّ الأجيال، على اختلاف مسبباتها، اختيارية كانت أم إجبارية، كتلك العزلة التي عاشها العالم، إثر جائحة "كورونا"، التي أوجدت أزمات على المستويات كافة، ويواجهها المبدعون بنصوصهم ويومياتهم من داخل معتزلهم.
كتّاب كثر، وأدباء وفلاسفة آثروا الوحدة من أجل البقاء وجهًا لوجه أمام بناتِ أفكارهم، وآخرون عايشوا الأوبئة والطواعين وفُرِض عليهم الحجر الصحي، لكنّهم لم يستسلموا وأخرجوا للعالم كتبًا وإبداعاتٍ عالمية. أعمالٌ تبيّن أنّ الإبداع يستطيع أن يبقى لصيقَ الإنسان حتى في أحلك أيّام الوحدة والعزلة والموت.
ويبدو أنّ العزلة باتت شبه مستحيلة! تحت ضغط مُنتجات الحضارة الرأسمالية، وما تبتكره كل يوم من فنون الإلهاء والتسلية الرقمية والتشتيت الذهني والنفسي الذي يتوسل بفنون التسويق، بل وعلوم الأعصاب السريرية والاجتماعية.
إدمان العزلة
يفرق الأدباء والمثقفون بين مصطلحي الوحدة والعزلة، فالفيلسوف الألماني بول تيليش يرى، أن اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف، «ألم أن تكون وحيدًا»، وابتكرت كلمة العزلة لتصف، «شرف أن تكون وحيدًا». في الوقت الذي يعدد فيه المبدعون فوائد لا تحصى للعزلة، منها التحليق بعيدًا واكتشاف المجهول، والاستراحة من أعباء الحياة، والتعبير عما يخالج النفس والتجارب الحياتية بالكتابة.
العلاقة بين العزلة والحريّة علاقة جدلية، فالحريّة «هي امتلاك إمكانيّة العزلة» كما يقول الفيلسوف البرتغالي بيسوا، إن امتلاك حريّة العزلة هو أسمى معاني الحرية، وهذا ما يلفت نظرنا إلى واقع الإنسان المعاصر المكبل بالالتزامات الكثيرة، فيمضي سنوات عمره سريعًا، ليحظى أخيرًا بقدرته على امتلاك حرية العزلة في سن التقاعد، فينعم بها ليدرك حقائق وجودية يتمنى لو أدركها في بداية حياته وليس في نهايتها، هذا إذا لم يداهمه الزهايمر أو يصاب بأمراض تعيق عزلته.
يرى عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل أن العزلة كالحرية، كلاهما حقائق اجتماعية، فالعزلة لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود مجتمع نعتزله، وكذلك الحرية لا يمكن أن تكون حرًا إلا ضمن قوانين مجتمع تقاس حريتك وفقًا لها، فلا معنى للعزلة أن لم يوجد ما نعتزله وكذلك لا معنى للحرية أن لم يكن هناك نظام اجتماعي نقيس حريتنا من خلاله.
وإذا ما ذكرت فوائد العزلة، لا عجب أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أدمنها، ففي أحد حواراته كشف أنه أدمن العزلة، في حين يشكو كثير من الناس منها، ويقول عنها، «ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها، فالعزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك، وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي».
كما كتب في يومياته (أثر الفراشة): «في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه.. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي.. تجلس وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن.. العزلة مصفاة لا مرآة ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغير شيء في حركة الانتقال من اللافكرة إلى اللامعنى، لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنت وحدي؟ العزلة هي اختيار المترف بالممكنات، هي اختيار الحر، فحين تجف بك نفسك، تقول: «لو كنت غيري لانصرفت عن الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى، لعله ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون، لكن تنقصني الخبرة والقسوة الميتافيزيقية وتقول: لو كنت غيري».
وتعد العزلة أرضًا للإبداع كما يرى جلّ المفكرين والأدباء، فالألماني نيتشه يقول: «إن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشد عزائمها»، حيث اعتزل "نيتشه" الناس وعاش وحيدًا في نهاية حياته حتى مات، وفي تلك الفترة كتب (هكذا تكلم زرادشت) الذي يعد من أهم كتبه، والروائي كافكا أكد على أن العزلة طريقة للتعرف على أنفسنا.
وقد كتب المفكر علي عزت بيجوفيتش من محبسه «الإنسان ليس حيوانًا اجتماعيًا؛ بل كلما زادت إنسانيته زادت فرديته، وسعيه نحو العزلة. والإنسان العادي ليس اجتماعيًا بسبب حبه للآخرين؛ ولكن لأنه غير مكتف بذاته، إنه هروب من الخواء والرتابة والحياة الخاصة، والعكس صحيح؛ فالإنسان الروحاني حقًا؛ الناسك والزاهد، يمكن أن يقضي حياته كلها وحيدًا».
وربط الشاعر والفيلسوف البرتغالي بيسوا بين الحرية والعزلة، حينما قال: «الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة»، أما وصفة جبران خليل جبران لمن ملّ عزلته فكانت، «إذا شعرت بالحاجة إلى يد دافئة فامسك بيدك الأخرى، فلن يهزم شخص يؤمن بنفسه».
ووصفت الكاتبة الأمريكية سوزان كين أهمية العزلة «العزلة مهمة ولبعض الناس هي الهواء الذي يتنفسونه». لكن غاستون باشلار ينقلنا إلى الإحساس الفيزيقي الذي ينقله الأديب عن عزلته لتصير انعكاسًا عن عزلة القارئ أيضًا. يقول هذا الفيلسوف السابر للأغوار: «يعتقد الإنسان المنعزل، أنه يعيش مجد وجوده وحيدًا، وأن بمقدوره أن يعبر عن ماهية العزلة، ولكن لكل واحد عزلته. والحالم بالعزلة لا يمكنه أن يمنحنا سوى بضع صفحات من هذا الألبوم المضيء والغامض للعزلات الإنسانية. بالنسبة لي، التواصل مع الصور التي ينقلها إليّ الشعراء المنعزلون، تدفعني إلى التواصل بعزلة الآخرين، وهذا يمنحني إحساسًا بعزلتي داخل عزلة الآخرين...».
بداية الحكمة
توصف العزلة بأنها بداية الحكمة، ووصفها آخرون ببداية الجنون، ومنها بالطبع خرجت الروائع الأدبية نثرًا وشعرًا، لتذكر بأهم عزلة شهدتها البشرية، وكانت خلوة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، حينما كان ينفرد بذاته، يتفكر ويتأمل. العزلة حملت في داخلها عطايا للكاتب والمفكر مصطفى محمود، والمتتبع لسيرته يعلم أن محمود أصابه مرض في الصدر خلال عامه الدراسي الثالث في كلية الطب، ما اضطره لعزل نفسه في غرفة لثلاثة أعوام، أتاحت له قراءة الأدب العالمي والقصة والمسرح، وجعلت منه هذه العزلة مفكرًا وكاتبًا ومثقفًا.
وفي مغارة جزائرية، تقع في مدينة فرندة غربي العاصمة، ولدت مقدمة ابن خلدون، ومن دمشق، أرسل الإمام ابن تيمية رسائله، من عزلته بجانب أسوار المسجد الأموي.
كما درجت العادة منذ العصر الجاهلي أن يختار الشعراء العزلة لكتابة قصائدهم، ونظموا أجمل الأبيات فيها، حتى وصفها الشاعر العربي صفي الدين الحلي ببيته الشهير:
وأطيب أوقاتي من الدهر خلوة
يقر بها قلبي ويصفو بها ذهني
وفي العزلة يقول الشاعر السوري أنور العطار:
يقول في رباعية (الوحدة):
عَلَّمَتني الحَياةُ أَنَّ مِن الوَحْــدَةِ
أُنْسُـًا يُغْني غَنَاءَ الصِّحَابِ
في حِمَاهـا البَهِيِّ يَزْدَهِر الفِكْرُ
ويَأتي بالرَّائعِ المُسْـتَـطَـابِ
مِن نَدَاهَـا سِحْـرُ البَيانِ المُوَشَّى
بِفريدٍ مِنَ الَمَعَاني عُجَابِ
هيَ للعارفـينَ عَـالَــمُ إبــداعٍ
وللجـاهلينَ دارُ اغْــتِرَابِ
أما العزلة لدى أبي القاسم الشابي فهي السعادة، إذ يقول:
وإنْ أَردتَ قـضـاءَ العـيشِ في دَعَـةٍ
شعريَّةٍ لا يُغَشِّي صَفْوَهـا نَدَمُ
فاتركْ إلى النَّاسِ دُنياهُمْ وضَجَّتَهُمْ
وما بنوا لنِظامِ العيشِ أَو رَسَموا
واجعـلْ حياتَكَ دوحًـا مُزْهـرًا نَضًِرا
في عُزْلَةِ الغابِ ينمو ثمَّ ينعدمُ
واجـعـلْ ليالـيكَ أَحـلامـاً مُـغَـرِّدَةً
إنَّ الحَـيَاةَ ومـا تدوي به حُـلُمُ
المفكر اللبناني ميخائيل نعيمة في سيرته (سبعون)، وصف عزلته بأشد الأوصاف وقعًا حين قال: «حريص كل الحرص على عزلتي، فالعزلة حاجة في نفسي مثلما الخبز والماء والهواء حاجة في جسدي، ولا بد لي من ساعات أعتزل فيها الناس لأهضم الساعات التي صرفتها في مخالطة الناس».
ويتفق معه الشاعر العراقي عبدالعظيم فنجان، الذي قال: «لا تسألني كيف وجدت العزلة؟ اسأل العزلة: كيف وجدتني؟».
أما الروائي الروسي دوستويفسكي، فوصف العزلة بأنها نضج، وكتب «مشكلتنا يا صديقي.. كلما نضج العقل فضلنا الانعزال والوحدة»، وكتب في سياق آخر، أن العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله.
تلك العزلة الموحشة في بعض الأحيان، لم تمنع الروائي الأمريكي إرنست همينجوي من وصفها بأنها وطن للأرواح المتعبة، والفكرة ذاتها جسدها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي حينما كتب «أنت في وحدتك بلد مزدحم».
أدباء في العزلة
فرجينيا وولف
من لا يعرف (غرفة فرجينيا وولف)، هذه الكاتبة التي أسست للكتابة النسوية، وكانت واحدة من أهمّ الكاتبات في العالم اللواتي طرحن أسئلةً ورؤى تتعلّق بالنساء والإبداع؟
(غرفةٌ تخصّ المرء وحده).. كِتابُ وولف الذي اعتبره كثيرون "مانيفستو الكتابة النسوية"، يحمِل في تعبيرٍ صريح معاني العزلة والوحدة كطريقٍ أساسيّ للإبداع. وإذا كانت الكاتبة البريطانية قد اعتبرت في وقتٍ سابق أنّ الاستقلالية الاقتصادية واحدة من مقوّمات الكتابة الإبداعية عند المرأة، فإنّ امتلاكَ غرفةٍ خاصّة شرطٌ أساسي لهذا الإبداع. أن يُغلق الإنسان باب غرفته الخاصّة، ويبقى وحيدًا مع أفكاره وكلِماته، بعيدًا عن ضجيج العالم.
تقول في نهاية الكِتاب نفسِه: «إذا أرادت المرأة أن تكتب الأدب، فيجب أن تكون لها غرفة تخصّها وبعض المال».
فيكتور هوغو.. العزلة هربًا من بطش السلطة
عُرِف الكاتب الفرنسي بمواقفه السياسية الجريئة والتي تمظهرت بشكلٍ جليّ في أعماله الروائية والشعرية، وإن كانت هذه الأخيرة تحمل طابعًا اجتماعيًا ورومانسيًا، لكنّها انتقدت السلطة وحكم نابوليون الثالث آنذاك، ممّا جعل الكاتب عُرضةً للبطش والتهديد، فاختار أن يبتعد ويتنقّل بين المنافي بحثًا عن الأمان طيلةَ أكثر من عشرين عامًا.
كانت فترة المنفى الطافحة بالاغتراب والعزلة لم تكن بالنسبة إلى هوغو سوى فرصةٍ للانكباب على الكتابة والإنتاج الغزير، فأبدَع رائعته (البؤساء) التي كانت تأريخًا لفرنسا بعد الثورة (1789ـ1799)، وتحوّلت إلى واحد من أهمّ الأعمال الأدبية في أوروبا والعالم.
فريدا كالو.. وجهًا لوجه مع الوجع
عام 1925، تعرّضت فريدا كالو لحادث باص كان يقلّها إلى منزلها، واضطرّت معه إلى البقاء مستلقيةً على ظهرها لمدّةِ سنةٍ كاملة.
وطيلة هذه السّنة، كانت الفنّانة التشكيلية معزولةً وحدها في الغرفة تُحدّق في نفسِها في مرآةٍ معلّقةٍ في السّقف. كانت تلك البذرة الأولى لإبداعها الذي وصَل إلى العالمية.
في انعكاس وجهها في المرآة، رأت فريدا كلّ آلامها وأوجاعها وقلقها، فطلبت ريشةً وألوانًا وأوراقًا، ثمّ بدأت في رسمِ هذا الألم الذي تمثّل في لوحاتٍ كثيرة، منها: (الغزالة المجروحة)، (شجرة الأمل)، (جذور) و(التفكير في الموت).
شكسبير.. الطاعون والموتُ صورًا للحبّ
عندما ضرب الطاعون مدينة لندن عام 1592، وأُغلِقت المسارح، لم يستسلم الكاتب المسرحي الأشهر في العالم ويليام شكسبير، وانكبّ على كتابة المسرحيات بالإضافة إلى الشعر خلال فترة الحجر، ليُخرج للعالم أفضل أعماله مثل (كوميديا الأخطاء) و(ترويض الشرسة) و(خاب سعي العشاق) وغيرها.
وقد أتاح انتشار الوباء لشكسبير فرصةً لاستعمال صورٍ شعريةٍ عديدة ما كان ليراها لولا الطاعون، فالموتُ والخوف والتقرّحات على أجسادِ المصابين تظهرُ جليًا في كثيرٍ من أعماله مثلَ (فينوس وأدونيس)، (أنطونيو وكليوباترا) و(ماكبث).
لم يتوقّف تأثير الطاعون في أعمال شكسبير على الصور الشعرية، بل ألهم الكثير من قصص مسرحياته أيضًا، وبخاصّة مسرحيته الأشهر (روميو وجولييت) التي ذُكِر فيها (الطاعون) و(الحجر الصحي) وتنزّ منها رائحةُ الموت.
يُذكَر أنّ الوباء الذي ضرب لندن في أواخر القرن السادس عشر قتلَ أشقّاء شكسبير الأكبر منه سنًّا، بالإضافة إلى ابنه الوحيد هاملت.
أورهان باموك.. العزلةُ شرطٌ للإبداع
في الكلمة التي ألقاها أورهان باموك أمام لجنة جائزة نوبل عام 2006، تطرّق الكاتب التركي إلى مسألةٍ هامّة في حياة كلّ كاتب يريد أن يعطي شيئًا جديدًا للعالم، وهي العزلة.
قول باموك إنّ التعفّف عن نداء العالم القويّ: الحياة والأصدقاء والنساء والتلفزيون والسينما، واللجوء بدل ذلك إلى حياة العزلة هو الشرطُ الأول لأيّ كاتب يريد أن يُبدِع، فمن دون عزلِ الذات والانكباب على العمل بدأب وباستمرار لا يمكن إنجاز شيءٍ حقيقيّ.
وعندما نتحدّث عن باموك، لا يمكننا إلّا أن نتذكّر الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي ألهمه في حياته الأدبية. بروست الذي عزَل نفسه في غرفةٍ مبطّنة بالفلين العازل حتى لا يسمع أيّ ضجيج قادمٍ من العالم الخارجي وهو يكتب رائعته (البحثُ عن الزمن الضائع).
كافكا.. هل هذه حياةٌ ممكنة؟
عاش الكاتب التشيكي فرانز كافكا حياتَه القصيرة معزولاً عن العالم. يستيقظُ عند الثامنة صباحًا، يتناول شيئًا ما بسرعة، يتنزّه قليلاً، ثم يبدأ في الكتابة حتى الليل.
«هل ستتحمّلين كلّ هذا؟ من الرجل الذي لن تعرفي عنه سوى أنه يجلس في غرفته ويكتب؟ ويقضي الخريف والشتاء على هذا المنوال؟ هل هذه حياةٌ ممكنة؟» يتساءل كافكا في رسالته إلى حبيبته فيليس باور.
لم يكن كافكا ليصل إلى ذلك العمق في الفكر لولا العزلة، ولم يكن ليحصل على الإلهام ليكتب روايته الرائعة (المسخ) لولا العزلة. لقد وضعته العزلة وجهًا لوجه أمام تفاهة العالم أحيانًا، ووحشيته أحيانًا أخرى، وعبثيته في بعض الأحايين، وجعلت منه مبدعًا لم يكرّره العالم.
أبو حامد الغزالي.. الانعزال للتأمّل في الذات والوجود
قضى الفيلسوف والعالم المسلم أبو حامد الغزالي حياته منعزلاً، ومنحَ العالم تجربةً ملهمة في الاعتزال. كانت العزلة بالنسبة له فرصةً للتأمّل في الذات والحياة والوجود. فعبَر الفيافي وحيدًا، هائمًا على وجهه، باحثًا عن معنى الوجود، وعن الخلاص من الفِتن والشرور.
وبفضلِ العزلة، أخرج الغزالي موسوعته الضخمة (إحياء علوم الدين) التي حازت شهرةً وانتشارًا واسعَين، وأصبحت نُسَخه متوفّرة في كلّ مكتبات العالم.
جيروم د. سالينجر
الكثيرون كانوا يعرفون مكان اختفاء الكاتب الأمريكي جيروم د. سالينجر فهو اختار مكانًا ما على شاطئ مدينة صغيرة تدعى «هامشير الجديدة»، إذ استقر منذ عام 1953، أي عامين بعد صدور روايته الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان»، اعتزل سالينجر بعدها بطريقة مفاجئة وغريبة الناس والأدب وعاش متخفيًا كلص تلاحقه الشرطة.
يمكن أن نجد صدى هذه العزلة لدى بطل روايته «هولدن غولفيد» المتمرد على الأوضاع والراغب في الانعتاق والهروب من كل شيء من الذات والجسد والواقع وربما من الحياة نفسها. كان يحلم طوال الوقت بمغادرة نيويورك نهائيًا والكف عن محاورة ومجاورة عالمه الفيزيقي والسيكولوجي. قد نعتقد أن العزلة هي انقطاع أيضًا عن الكتابة والإبداع بل على العكس فهي محرك وعش للأفكار.
في أحد الحوارات النادرة التي أجريت مع سالينجر يتحدث قائلاً: «هناك سلام رائع في التوقف عن النشر، نوع من السكينة والصمت. يعتبر النشر اجتياحًا لحياتي الشخصية. أحب الكتابة، لكني لا أكتب إلا لنفسي ولمتعتي الشخصية».
تشيسلاف ميلوش
ربما العزلة الأكثر ثراءً وعمقًا هي عزلة الشاعر البولندي من أصل أمريكي تشيسلاف ميلوش، كتب شاعر العزلات السبع في رائعته (سيمفونيا شتنبر): «من أعماق الممر المظلم وجليد الأزمان. مرحبًا بك أيتها العزلة يا أمي...»، بينما العزلة الأكثر رعبًا والأكثر هلاكًا وغير الممكن إصلاحها هي العزلة التي رسمها.
العزلة لدى المبدعين
ليس غريبًا أن أغلب الأفكار الإبداعية التي أحدثت فارقًا في التطور البشري، تبلورت من خلال التركيز العالي لمبدعين في لحظات عزلتهم، فسقوط تفاحة نيوتن لن يكون له معنى لولا تركيز نيوتن عليها، فاستنتج قانون الجاذبية من خلال حدث عادي يتكرر آلاف المرات قبل نيوتن، فعزلة نيوتن وتأملاته العميقة في الكون كانت سببًا لوصوله للعديد من القوانين، كقوانين الحركة والضوء وحتى حركة الكواكب ضمن النظام الشمسي والنسبية.
كما أعلن بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت أنه يعزل نفسه في كوخ، لأسبوع كامل ويكرر ذلك مرتين في العام، يقضيها بالقراءة والاطلاع والتأمل والتفكير بمستقبل شركته مبتعدًا عن كل وسائل الاتصال بك أشكالها، ما يفعله بيل غيتس هو بالضبط ما قاله توماس إديسون إن «أفضل التفكير يكون في العزلة، وأسوأ ما يكون في الزحام».
حَفَل التراث العربي والإسلامي بالعديد من النصوص التي جمعت أقوالاً كثيفة الدَّلالة في مديح العُزلة، منها: (العزلة والانفراد) لابن أبي الدنيا، و(العزلة) للخطابي، وفي كتاب الغزالي، و(إحياء علوم الدين) باب في آداب العزلة، ومثله في (صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكذا (الأمر بالعزلة في آخر الزمان) لمحمد بن إبراهيم الوزير.
وفي التراث الـغربي الحديث كذلك نصوص في مديح العزلة، بعضها ظهر على هيئة تنظير فلسفي واجتماعي للعزلة مثل (العزلة والمجتمع) لنيقولاي برديائيف، والآخر على هيئة نصوص إبداعية أدبية كرواية ماركيز (مائة عام من العزلة) والتي هي سردٌ مَلْحَمي لأجيالٍ من عائلةٍ عاشت منعزلة عن محيطها.
المصادر:
- «أدب العزلة» إبداع ينبجس من «عمق الأزمة»، عفراء عبدالعزيز الخطابي، صحيفة الرياض، 23 مارس 2020م
http://www.alriyadh.com/1812027
- أدب العزلة.. شرف أن تكون وحيدًا، صحيفة الاقتصادية، 26 مارس 2020.
https://www.aleqt.com/2020/03/26/article_1790006.html
- مبدعون عالميون اعتبروا «العزلة» عش الأفكار، سعيد بوكرامي، جريدة عكاظ، الاحد 06 مايو 2018
https://www.okaz.com.sa/culture/na/1638656
- هل العزلة ممكنة؟، أحمد الحمدي، موقع إثارة، 13 يوليو 2023
تغريد
اكتب تعليقك