منهجية التوثيق من مواقع الانترنتالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-09-29 11:31:55

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

يلفت الانتباه في الآونة الأخيرة، ظهور إشكالية التوثيق من مواقع الشبكة العنكبوتية المعروفة باسم "الإنترنت"، حيث استفسر أحد الأصدقاء في حوار معي عن جدوى وضع روابط لمواقع "إنترنت" في هوامش بعض الكتب أو في قوائم المصادر والمراجع في نهايتها، والتي غالبًا لن تزيد عن كونها صفحات زائدة في الكتاب لا فائدة منها، ولا توضح آلية توظيف مؤلف الكتاب لمواقع "الإنترنت" في دراسته؛ بل إن الكثير منها يظل مجهولاً للقارئ، ولا يدري هل هي مواقع موثوق بها وبما ورد فيها من معلومات، أم أنها مجرد منتديات ومواقع للتواصل الاجتماعي يكتب فيها من يريد ما يريد.

بداءة؛ قبل الحديث عن الطريقة التي أرى أنها الأنسب؛ بل والأكثر صحة، للتوثيق من مواقع "الإنترنت"، دعوني أدعوكم أولًا للرجوع إلى المواقع الموثوقة، فليس كل ما ورد في مواقع الانترنت قابل للتصديق والقبول كحقيقة مسلّم بها من دون مناقشتها واخضاعها لمناهج النقد التاريخي الظاهري والباطي، أو ما يُعرف عند المسلمين بالجرح والتعديل، وذلك للتحقق من صدق مصدر الخبر عن الحدث التاريخي، والتأكد من مطابقته للواقع المعاش، فمواقع المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي لا تصلح لأن تكون مصدرًا لمعلومة تاريخية، أو حتى غير تاريخية، ذات موثوقية، وذلك لأنها غالبًا ما تكون مجهولة المصدر، ومجهولة الكاتب، كما أنها مؤدلجة وموجهة، ومن ثم ستنظر للحدث من زاوية واحدة، وبعين ناشرها، وهدفه من نشرها، ولهذا يُفضل دائمًا الرجوع للمواقع التي تمثل مصادر موثوقة للتوثيق والاستفادة، وخاصة في البحوث والدراسات الأكاديمية.

أرى أن طريقة التوثيق من مواقع "الإنترنت" تتشابه مع طريقة توثيق المقال في مجلة أو صحيفة أو دورية علمية محكمة، فيجب دائمًا أن يبدأ التهميش بذكر اسم كاتب المقال سواء أكان اسم مؤلف أو كاتب صحفي أو شخصية اعتبارية كوكالة أنباء مثلاً، ولهذا فإنني أنصح دائمًا بالابتعاد عن المقالات مجهولة المؤلف، وإذا كان الخبر منقول من جريدة أو موقع انترنت، فيفضل البدء باسم كاتب الخبر من المراسلين الصحافيين، أو إذا كان منقولاً عن إحدى وكالات الأنباء أن نذكر اسم هذه الوكالة، وذكر اسم المؤلف أو المراسل الصحفي أو وكالة الأنباء مصدر الخبر مهم للباحث، إذ إنه يبين درجة الموثوقية في الخبر أو المقال، ومن ثم ما يحتويه من معلومات، كما أنه يجعل الباحث يبحث عن المؤلف أو الصحفي أو وكالة الأنباء ليتعرف على أيديولوجيتها، ومن ثم يُخضع ما يقرأ للنقد، وأن يكون حذرًا في التعامل مع ما يقرأ.

ويلي ذلك عنوان المقال أو الخبر بين علامتي "تنصيص"،  ثم يذكر اسم الموقع أو الصحيفة أو المدونة على أن تكون بولد، وأخيرًا يأتي تاريخ النشر بين (قوسين هلاليين)، إذا ما كان الخبر أو المقال يتضمن تاريخ نشر، وإلا فليذكر الباحث تاريخ زيارته للموقع. مثلاً: دانييل لو: "مأساة الخليج العربي، وفاة وتَرِكة جون جوردون لوريمر"، مقال منشور على موقع مكتبة قطر الرقمية، (تمت الزيارة بتاريخ 10 يونيو 2015). وإذا كان مصدر المعلومة خبر صحفي، فأفضل طريقة لتوثيق تكون كالتالي: ريم حنيني: "أجمل المساجد في العالم تجتمع في الشارقة"، صحيفة الشرق الأوسط، العدد 105360، (3 أكتوبر 2007)، أو  عارف إسماعيل: "افتتاح الدورة الثانية لفعاليات الملتقى الدولي لفن الخط العربي"، وكالة أنباء الإمارات، ( 12 أبريل 2006). أما إذا كان الخبر لم يذكر اسم كاتب المقال أو وكالة الأنباء، فإن طريقة التوثيق تكون على النحو التالي: "حاكم الشارقة يأمر بإجراء استفتاء حول الجهر بصلاة الفجر "، صحيفة الأنباء الكويتية، (11 أغسطس 2012).

والتوثيق بهذه الطريقة أكثر فائدة للقارئ سواءً في الكتاب الإليكتروني أو المطبوع، وخاصة في الكتاب المطبوع ورقيًا، إذ بإمكانه مثلاً أن يذهب عبر محرك البحث "جوجل" إلى موقع الصحيفة أو المكتبة أو وكالة الأنباء أو المدونة، ويبحث بالمؤلف أو العنوان المذكور في التوثيق ويصل للمقال، خاصة أن بعض المواقع التي تنقل الأخبار بشكل دوري، تقوم بتحديث أخبارها بأخبار جديدة، وتحذف الأقدم، ومن ثم فإن وضع الروابط بعد فترة زمنية قد تطول وقد تقصر، لن يصبح ذي جدوى أو فائدة، إذ إن بعض المواقع، وخاصة الخبرية، تعمد إلى حذف الأقدم، لإيجاد مساحة للأحدث، وهكذا.

يقودنا ذلك إلى التأكيد على تغير شكل الوثيقة التاريخية، ففي السابقة كانت الوثيقة مخطوطة ثم أصبحت مطبوعة، ثم مسموعة وأخيرًا مرئية، إلا أن شبكة "الإنترنت"، أوجدت ما يُعرف بالوثيقة الإليكترونية. ويستشعر بعض الباحثين أن محاولة إيجاد تعريف للوثيقة الإليكترونية أمرًا صعبًا، إلا أننا لو أمعنا الفكر قليلاً، لوجدنا أنها ليست إلا شكل من أشكال الكتابة، لكنها بدلاً من أن تأخذ الشكل الورقي المطبوع، تأخذ صورة إليكترونية حديثة، إذ إن البشرية منذ دخولها حقبة العولمة والحداثة والعدمية، تغيرت الكثير من المفاهيم القديمة، وأخذت بُعدًا جديدًا، ومن هذه المفاهيم مفهوم الوثيقة، التي يمكن الاستناد إليها كمصدر تاريخي، ولو تدبرنا المصطلح قليلاً، سنجد أن التطور الشكلي للوثيقة لم يؤثر على مفومها الوظيفي، فالوثيقة الإليكترونية ليست إلا شكلٍ جديدٍ للكتابة، فإذا كانت الوثيقة تعني بالدرجة الأولى السند الورقي المادي الذي يشتمل على أحرف يمكن قراءتها، فإن تطور التكنولوجيا الرقمية، واختراع الحاسب الآلي، وشبكات الإنترنت، والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتطور مفهوم الكتابة، قلل من استعمال السند الورقي كوسيلة مادية لتجسيد المعلومة، وذلك بميلاد مجموعة من الوثائق الجديدة، التي تلائم التطور، وتتميز بصبغتها اللامادية، أو بمعنى آخر الإليكترونية، ولم تعد تقتصر على الكتابة الورقية؛ بل أصبح المفهوم يشمل حوامل جديدة تحتوي على معلومات ومعطيات، كمقاطع الفيديو المصورة، والوثائق الإليكترونية، التي لم تعد تقتصر على نصوص مدونة على سند ورقي، إذ باتت العقود والمواثيق والاتفاقيات المتبادلة بواسطة الإيميلات والبرقيات أو غيرها من وسائل الاتصال الحديثة وثائق تاريخية تمثل سندًا للمؤرخ عندما يتصدى للكتابة عن الموضوعات التي تتضمن معلومات عنها.

ولا تختلف مادة الوثيقة الإليكترونية عن الوثيقة التقليدية من حيث النوعية ومدد الحفظ، ولكن الاختلاف يقع في إجراءات ومكان حفظ هذه الوثائق، فمثلاً الوثيقة التي تحمل طلبًا لخدمة ما من إدارة حكومية معينة تحفظ مدة محددة في الدائرة المختصة، ومن ثم في أرشيف الوزارة التي تتبعها الدائرة، وإذا ما اقتضت الضرورة فإنها تحول إلى الأرشيف الدائم، أو الذاكرة القومية للدولة أو الأمة، وذلك سواء كانت هذه الوثيقة ورقية أم إليكترونية، الفارق هو أن الوثيقة الإليكترونية تحفظ في ذاكرة رقمية، ولا تلمس وقد لا تُرى في انتقالها من مكان حفظ إلى آخر، ويمكن استرجاعها بسهولة، وعن بُعد، أما الوثيقة الورقية فإنها تنقل ماديًا من حيز إلى حيز آخر في أماكن الحفظ المختلفة.

وقد أدى تطور وسائل الحفظ غير الورقي للوثائق من التصوير الميكروفيلمي إلى التصوير الضوئي والحفظ الرقمي إلى التحسين النوعي في عملية تصوير الوثائق، وتنقية الصور، وإمكانية التحكم الضوئي في صورة الوثيقة، وسهولة ترتيب وحفظ واسترجاع صور الوثائق الإليكترونية مقارنة بالورقية والميكروفيلمية، وإمكانية الاحتفاظ بأكثر من نسخة من صور هذه الوثائق احتياطًا لأي طارئ، وتقليل مساحة الحفظ التي تشغلها هذه الوثائق مقارنة بالوثائق الورقية والشرائح الميكروفيلمية، وإمكانية استخدام وتبادل الوثيقة الإليكترونية عبر  شبكات الاتصال الافتراضية، وهذا ما جعل الكثير من الأرشيفات حول العالم قوم بتحويل محتوياتها إلى أرشيفات إليكترونية، تتاح عبر العالم الافتراضي لشبكة الإنترنت للتصفح والقراءة، وأحيانًا الحفظ، مع الحفاظ على الترقيم التوثيقي لها، وذلك بنقل صورة ضوئية عبر الماسح الإليكتروني من السجل أو المحفظة أو الدفتر أو حتى الوثيقة المفردة، وقد سهل ذلك على الباحثين الإطلاع عليها عن بعد، وأوجد تدفق معلوماتي، جعل الباحثين أمام مأزق منهجي في كيفية التعامل مع التدفق المعلوماتي الغزير، عبر شبكة الإنترنت.

يقودنا ذلك إلى إشكالية جديدة، وهي كيفية توثيق الوثيقة الإليكترونية في هوامش الدراسات والبحوث، والتي أرى أنها لن تختلف عن طريقة توثيق الوثيقة المادية، وذلك بأن نبدأ بذكر مكان الحفظ، كالأرشيف البريطاني أو دار الوثائق القومية بالقاهرة مثلاً، ثم وحدة الحفظ الموجودة بها الوثيقة، سواء أكانت محفظة أو مضبطة أو سجل، كأن تكون مثلاً محافظ الحجاز أو IOR. R15، ثم يلي ذلك رقم المحفظة أو السجل، ورقم الوثيقة أو الصفحة، ثم نذكر المرسل والمرسل إليه، إذا ما كانت مراسلة متبادلة بين جهتين، وإلا فلنكتفي بما نصت عليه الوثيقة في ديباجتها، كأن تكون اتفاقية أو عقد بيع أو حكم قضائي أو غير ذلك، وأخيرًا نختم بتاريخ الوثيقة، إذا كانت مؤرخة، أو نذكر من دون تاريخ إذ ما كانت لا تحمل تاريخًا، وبهذا نكون قد استوفينا كافة المعلومات المطلوبة لتوثيق الوثيقة سواء إليكترونية أم مادية.


عدد القراء: 2663

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-