المشكلة في شرائعنا The Problem of Our Lawsالباب: مقالات الكتاب
د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري كلية الحقوق – جامعة الكويت - mashael.alhajeri@ku.edu.kw |
بقلــم: فرانــز كافكــا Franz Kafka
ترجمة: د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري
حول كافكا:
فرانز كافكا 3 يوليو 1883 – 3 يونيو 1924: كاتب تشيكي كتب بالألمانية، وهو رائد الكتابة الكابوسية، فقد كانت حياته مليئة بالحزن والمعاناة. يعد كافكا أحد أفضل أدباء ألمانيا في فن الرواية والقصة القصيرة. تعلم الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في العاصمة التشيكية براغ Prague 1901، ثم عمل موظفًا في شركةٍ لتأمين حوادث العمل، حيث أمضى وقت فراغه فيها في الكتابة الأدبية التي رأى فيها هدفًا لحياته. نشر كافكا القليل من الكتابات خلال حياته، معظمها – بما في ذلك روايتي "الحكم" و"الغائب" الشهيرتين – نُشِرَ بعد موته على يد صديقه المقرّب ماكس برود، الذي – لحسن الحظ – لم يستجب لوصيّة كافكا له بأن يحرق كلّ كتاباته بعد موته.
حول هذه الترجمة:
فيما قد يذهب البعض إلى أن النص يدور حول القوانين/التشريعات، أراه – بالنظر إلى الخلفية الثقافية لكافكا وإلى مجمل كتاباته القلقة والمثقلة بموروثه الاجتماعي اليهودي – أراه ينصرف بشكل أدقّ إلى القوانين/الشرائع بدلالاتها الأوسع، مما يعني أن الأمر يتعدّى "القانون" بمعناه الفني المعاصر، إلى معناه الديني/التاريخي القديم. ولذلك، فقد اخترت أن أترجم كلمة "قوانين" في النص أدناه إلى "شرائع" (هذا، مع التنويه إلى أن في النص إسقاطاتٌ هامةٌ تتعدى الحالة اليهودية، بطبيعة الحال).
وبعد، فلما كان كاتبنا شخصية معقدّة (لم يكن الوضوح قط إحدى فضائل كافكا)، فأنا لا أملك إلا أن "أعتقد" بصحة خياري الترجميّ هذا، دون أن يكون في استطاعتي أن أؤكده.
***
شرائعنا، عمومًا، ليست معروفة، إذ تتكتّم عليها مجموعةٌ صغيرةٌ من النبلاء الذين يحكموننا.
نحن واثقون من أن هذه الشرائع القديمة تُدار بطريقةٍ دقيقة، ومع ذلك، فمن المؤلم جدًّا أن تتحكّم بالمرء شرائع لا يعرفها.
ليس ما أفكّر به هو التباينات المُحتملة التي يمكن أن تقوم نتيجة لتفسير الشريعة، ولا الأوضاع غير العادلة الناجمة عن كون حفنة قليلة من الناس – وليس الجميع – هي من لها الرأي في تفسير الشرائع؛ إذ ربما لم تكن لهذه الأمور أهميةٌ كبرى.
إن الشرائع قديمة جدًّا، وما تفسيراتها إلا نتاج عمل قرون، بحيث أن هذه التفسيرات اكتسبت هي ذاتها صفة الشريعة بدورها. ورغم أن حرية التفسير مازالت متاحة، إلا أنها صارت مقيّدة جدًّا.
أكثر من ذلك، فليس لدى النبلاء سببٌ لأن يتأثروا في تفسيراتهم بمصالحٍ شخصيةٍ معادية لنا، ذلك لأن القوانين قد وُضعت لمصلحة النبلاء منذ البداية، فهم أنفسهم يوجدون في مركزٍ فوق الشرائع، ويبدو أن هذا هو السبب في أن تلك الشرائع قد عُهدت إليهم حصرًا.
بطبيعة الحال، هناك حكمةٌ في ذلك – ومن ذا الذى يشكّ في حكمة الشرائع القديمة؟ – إلا أن في ذلك أيضًا صعوبةٌ لنا؛ ربما كان هذا أمرًا لا يمكن تجنّبه.
إن مجرد وجود هذه الشرائع، على أية حال، هو أمرٌ – في أفضل الفروض – مُفترض.
هناك تقليدٌ يقضي بأنها موجودة وبأنها لغزٌ موكلٌ إلى النبلاء، ومع ذلك فإنها ليست – ولا يمكن أن تكون – أكثر من مجرد تقليدٍ قضى به الزمن، فجوهر أي شريعةٍ قديمةٍ هو أن تظل لغزًا. وقد كان فينا من تصدّوا لدراسة تصرفات النبلاء منذ بداية الزمان بدقة، فصاروا يحوزون سجلاتٍ وُضعت من قِبَل أجدادنا – سجلاتٌ تابعنا نحن وضعُها بوعىّ – وهم يدّعون أنهم يتعرّفون – في الأعداد التي لا تُحصى من الوقائع – على صورٍ من الميل إلى السماح بهذه الصيغة التاريخية أو تلك. إلا أننا عندما نحاول أن نموضع أنفسنا في الحاضر أو المستقبل وفقًا لهذه النتائج المُمحّصة والمنطقيّة، يُضحي كل شيء عندها غير مؤكّد، فيغدو كل عملنا وكأنه مجرد لعبةٍ فكرية، إذ ربما كان الأمر هو أن هذه الشرائع التي نحاول فكّ طلاسمها لا وجود لها أصلاً.
هناك من يؤمنون بهذا الرأي فعلاً، وهم يحاولون أن يبرهنوا أنه لو كان لأي شريعةٍ وجودٌ حقًّا، فإن هذه الشريعة ستكون أيًا ما كان النبلاء يفعلونه.
هذا الفريق لا يرى إلا الأفعال التحكّمية للنبلاء، وهو يرفض التقليد الشعبي الذي – وفقًا له – لا تتمتع هذه الشرائع إلا ببعض المزايا التافهة والعرضية التي لا تعوّض نقائصها، لأنها تعطي الناس أمنًا زائفًا، خادعًا، ومفرطًا في الثقة في مواجهة الأحداث الجارية.
إن هذا أمرٌ لا يمكن إنكاره، إلا أن الغالبية العظمى من شعبنا يعتقدون بأن التقليد بعيدٌ عن الكمال وأنه يستدعى المزيد من التمحيص، وأن المادة المتاحة – مهما بدت استثنائية – ما زالت فقيرة، وأن عصورًا عدة ينبغي أن تمرّ قبل أن تكون هذا التقليد وافٍ بشكل كاف.
هذا النظر – وأن كان غير مريحٍ فيما يتعلق بالحاضر – لا يخفّف من وطأته سوى الاعتقاد بأنه سيحين بالنهاية وقت سيصل فيه كلٌ من التقليد وبحثنا فيه إلى نهايتهما معًا، ولما كان سيترتب على ذلك أنه سيكون هناك مساحةٌ للتنفّس، فإن كل شيء سيصير عندها أكثر وضوحًا، وستنتمى الشرائع إلى الناس، فيما النبلاء سيتلاشون.
إن الأمر لا يعود إلى أن لي روحًا كارهةً للنبلاء؛ إطلاقًا، ليس الأمر كذلك. إننا إلى كره أنفسنا أميل، لأننا لم نثبت لأنفسنا بعد أننا جديرون بأن تُعهد إلينا هذه الشرائع.
وهذا هو السبب الحقيقي في كون الفريق الذي لا يعتقد بوجود الشرائع قد ظل دائمًا صغيرًا في حجمه، بالرغم من كون عقيدته الفكرية جذابةٌ جدًا من نواحٍ عدّة، ذلك أنه يعترف بالنبالة وبحق من ينتمون لها في الحياة.
في الحقيقة، فإن المرء لا يمكنه أن يعبّر عن هذه الإشكالية إلا على صورة مفارقة:
أي طرفٍ يقوم بممارسة النقض – ليس في مواجهة الشرائع فقط بل في مواجهة النبالة كذلك – سيحظى بدعم جميع الناس، ومع ذلك فلا يمكن أن يوجد مثل هذا الطرف، لأن أحدًا لا يجرؤ على نقض النبالة.
إننا نعيش على حدّ الموسى هذا. لقد اختصر أحد الكتّاب الأمر بهذه الطريقة:
من بين الشرائع المفروضة علينا، وحدها النبالة هي الشريعة الأكيدة والواضحة لنا، فهل ينبغي أن نحرم أنفسنا من ذلك؟
تغريد
اكتب تعليقك