قـضـاة صـالحـونالباب: مقالات الكتاب
د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري كلية الحقوق – جامعة الكويت - mashael.alhajeri@ku.edu.kw |
أناتــول فرانــس(2)
ترجمة: د. مشاعــل عبد العزيــز الهاجــري
لقد رأيت قضاة صالحون حقًا، قال جان مارتو.
كان ذلك في لوحة. كنت قد ذهبت إلى بلجيكا هربًا من قاضي تحقيقٍ أصرّ على كوني طرفٌ في مؤامرة مع بعض الفوضويين. لم أعرف شركائي في الجريمة ولم يعرفونني. ولكن ذلك لم يشكل أية صعوبة للقاضي. لم يحرجه شيء. فرغم أنه كان يزن الأدلة باستمرار، إلا أن إحساسه بالقيم ظل متخلفًا. أرعبني إصراره. ذهبت إلى بلجيكا وتوقفت في أنتويرب(3)، حيث عملت كمساعد بقال. وفي معرضٍ للصور اختلفت إليه في يوم أحد، رأيت قضاةً صالحين في لوحة لمابوسى (Mabuse)، ينتمون إلى صنفٍ قد انقرض الآن؛ أقصد صنف القضاة المشّائين الذين اعتادوا الترحال البطيء. كان مصحوبين بجنودٍ مُشاة، مسلّحون بالرماح، إضافة إلى محاربين غير نظاميين، ملتحيين ومغطيين بالشعر.
كان هذان القاضيان - مثل الملوك في الأناجيل الفلمنكية - يرتديان أغطية رأسٍ غريبةٍ ولكن عظيمة، تذكّر، في آنٍ واحد، بقبعة النوم وبالإكليل معًا. كان رداءاهما مصنوعان من القطيفة ومزينان بصورةٍ باذخةٍ، وكان الرّب قد أنعم عليهما بسمْتٍ جادِ، رزين، ورقيق. أما حصانيهما، فكانا معتدلين وهادئين مثلهما. ومع ذلك، فإن هذين القاضيين كانا مختلفين في الشخصيات وفي الآراء. يمكنك أن تلحظ ذلك فورًا. كان أحدهما يمسك بورقةٍ في يده ويشير بأصبعه إلى النّص، فيما كان الآخر يمسك حنوّ السرج بيده اليسرى، ويرفع يمناه بإشارةٍ توحى بالسماحةٍ أكثر منها بالسلطة. ما بين الإبهام والسبابة، كان يبدو وكأنه يمسك بمسحوقٍ غير مرئيّ، أما اليد التي أخذت هذا الوضع بعناية فقد كانت تشي بذكاءٍ حَذِرٍ وخفىّ. كان الاثنان طاهرا الذيل، ومع ذلك، فقد كان واضحًا أن الأول يميل إلى الحرف، فيما الثاني إلى الروح أميل.
متكئاً على الحاجز الذي يفصلهما عن الجمهور، كنت أستمع إلى حوارهما:
قال القاضي الأول: "أنا ألتزم بالكلمة المكتوبة. إن القانون الأول ما كُتب على الحجر إلا كإشارةٍ إلى كونه سيدوم بديمومة العالم".
أجابه القاضي الآخر: "كل قانونٍ – ما أن يُكتب – حتى يكون خارج الزمن، فيد الكاتب بطيئة، فيما عقل الانسان نشط، ومصيره مجهول".
ثم استكمل هذان الشيخان الطيبان نقاشهما العميق:
القاضي الأول: "القانون ثابت".
القاضي الثاني: "القانون لا يثبت أبدًا".
القاضي الأول: "لأنه جاء من الرب، هو لا يتبدل".
القاضي الثاني: لأن القانون ينبثق عن المجتمع بشكلٍ طبيعيّ، فإنه يرتبط بالظروف المتغيرة لهذه الحياة."
القاضي الأول: "إنها إرادة الرب التي لا تتغيّر".
القاضي الثاني: "إنها إرادة الإنسان، التي تتغيّر دائمًا".
القاضي الأول: "لقد وُجد القانون قبل الإنسان، وهو أعلى منه".
القاضي الثاني: "إنه من الإنسان، زَمِنٌ مثله(4). ومثله، عصىٌّ على الكمال".
القاضي الأول: "أيها القاضي، افتح الكتاب المقدس واقرأ ما هو مكتوبٌ فيه. لقد كان الرب هو من أملاه على المؤمنين به: هكذا تحدّث إلى آبائنا، إلى إبراهيم، وإلى ذريته من بعده"(5).
القاضي الثاني: "ما كتبه الأموات سيمحيه الأحياء. إن لم يتم ذلك، فإن إرادة من ماتوا سوف تسود على إرادة من يحيون، فيكون الموتى أحياءٌ ويكون الأحياء هم الموتى".
القاضي الأول: "إن القانون المُملى من قِبَل الموتى يُلزِم الأحياء بالطاعة، فالموتى معاصرون أمام الرب. موسى(6) وقورش(7)، قيصر(8)، جستنيان(9)، وامبراطور ألمانيا ما زالوا يسودون علينا، لأننا - في نظر الرب الأبدي - معاصرون لهم".
القاضي الثاني: "الأحياء لا يدينون بالطاعة إلا للقانون المُملى من قبل الأحياء، لأنه عندما يتعلق الأمر بالتعاليم التي تقرر ما هو مسموح وما هو ممنوع، فإن زرادشت(10) ونوما بومبيليوس(11) هم أدنى مرتبةً من صانع أحذية القديسة جودولا(12)".
القاضي الأول: "لقد كُشِفت لنا القوانين الأولى بفضل الحكمة اللامتناهية. أفضل القوانين هو ما كان أقربها للمصدر".
القاضي الثاني: "ألا ترى أن هناك قوانين جديدة تُصنع في كل يوم، وأن الدساتير والتشريعات تختلف باختلاف الزمان والمكان؟"
القاضي الأول: "القوانين الجديدة تتطور من القوانين القديمة. إنها الغصون الشابة من الشجرة ذاتها التي ارتوت من النسغ نفسه".
القاضي الثاني: "من شجرة القانون العجوز يتقطّر عصيرٌ مرّ. إن الفأس يُعمل باستمرارٍ في تلك الشجرة".
القاضي الأول: "ليس من شأن القاضي أن يتساءل عما إذا كانت القوانين عادلة، لأنها يجب أن تكون كذلك بالضرورة. كل ما على القاضي هو أن يُعنى بتطبيق القوانين بصورةٍ عادلة".
القاضي الثاني: "بل علينا أن نتساءل عما إذا كان القانون المُناط بنا تطبيقه عادلٌ أم غير عادل. لأنه إذا ما اكتشفنا أنه مُجحف، صار بإمكاننا أن نُدخِل بعض التعديل من خلال ما نلتزم به من تطبيقه".
القاضي الأول: "إن انتقاد القانون لا يتماشى مع ما نلتزم به من احترامه".
القاضي الثاني: "إن لم ندرك فداحة القانون، كيف يكون بإمكاننا أن نلطّف من أثره؟"
القاضي الأول: "نحن قضاة، لسنا مشرّعين ولا فلاسفة".
القاضي الثاني: "نحن رجال".
القاضي الأول: " ليس للرجل القدرة على الحكم على الرجال. إن القاضي – عندما يتبوأ كرسي العدالة – يضع إنسانيته جانبًا. إنه يتحرّى القداسة، فلا يعود يتذوق المتعة أو الأحزان".
القاضي الثاني: "إن العدالة التي لا تداخلها عاطفة تصبح أقسى صور الظلم".
القاضي الأول: "العدالة تكون كاملة عندما تكون حرفيّة".
القاضي الثاني: "العدالة التي لا روح فيها هي عبث".
القاضي الأول: "مبادئ القانون مقدسة، والنتائج التي تترتب عليها لا تقل عنها قداسة. ولكن حتى لو لم يكن القانون قد جاء كاملاً من عند الرب، ولو كان كاملاً من عند الإنسان، فما زال ينبغي تطبيقه وفقًا للرب، لأن الربّ باقٍ، فيما الروح زائلة".
القاضي الثاني: "جاء القانون بأكمله من الإنسان. لقد وُلِد أخرقًا وقاسيًا في الالتماعات الأولى للعقل البشرى. ولكن حتى وإن كان القانون قد صُنِعَ من مادةٍ إلهية، فإن ذلك حريّ بجعله يُتبع وفقًا للروح لا للحرف، لأن الحرف ميتٌ فيما الروح حية".
ومع انتهاء حوارهم هذا، ترجّل القاضيان الصالحان من حصانيهما، ومع مرافقيهما اتجها إلى المحكمة، حيث يفترض بكلٍ منهما إعطاء كل ذي حقٍ حقه. عندها، دارت بين حصانيهما - المربوطين إلى وتدٍ تحت شجرة دردار عظيمة - هذه المحادثة.
كان حصان القاضي الأول هو من بدأ الحديث:
"عندما ترث الخيول الأرض"، قال (والأرض ستؤول إلى الخيول لا شك، لأن من الواضح أن الخيل هي الهدف الأقصى والنهائي للخليقة) "عندها ستصبح الأرض للخيول وسنصبح أحرارًا في أن نتصرف وفق إرادتنا. سوف نعيش في ظل قوانين مثل بنى البشر، وسوف نستمتع بسجن وشنق وتعذيب أمثالنا من الخيل. سوف نصبح كائناتٍ أخلاقية، كما سيثبت من السجون والمشانق والقيود التي ستنتشر في مدننا. سوف يكون هناك خيول مُشرِّعة. ما رأيك، يا روسان؟"
روسان - الذي كان جواد القاضي الثاني - أجاب بأنه يعتقد أن الحصان هو ملك الخليقة، وبأنه واثقٌ بأن مملكة الخيول ستسود إن عاجلاً أم آجلاً: "وعندما نبنى المدن، يا بلانشيه"، أضاف "علينا، كما نقول، أن ننشئ نظامًا للشرطة فيها. سوف تكون قوانيننا خيليّة، وسوف تكون موجهةً لمصلحة الخيول وللرفاه الخيلىّ".
"ما الذي تقصده بذلك ياروسان؟" سأل بلانشيه.
"اقصد المعنى الطبيعي. إنني أطالب بأن يؤمّن القانون لكل فردٍ حصّته من الذرة ومكانه في الإسطبل، وأن يحبّ كما يشاء خلال الموسم، فهناك وقتٌ لكل شيء. باختصار، أريد أن تكون قوانين الخيول متوافقةً مع الطبيعة".
"أتمنى"، أجاب بلانشيه "أن تكون أفكار مشرّعينا أكثر رقيًا من أفكارك يا روسان. سوف يصنعون قوانين طبقاً لما يوحيه الحصان السماويّ الذي خلق كل الخيول. إنه خيّرٌ لأنه قويّ؛ القوة والخير هما سجيّتاه. لقد أمر خلقه بأن يحتملوا اللجام، وشد الزمام، والنخز، والموت تحت السياط. تتحدث عن الحب، أيها الرفيق؟ لقد أمر الحصان السماويّ بأن يكون عددٌ كبيرٌ منا مخصيًا؛ إنها مشيئته. على القوانين أن تحافظ على تعاليمه المُتَعبّدة".
"ولكن هل أنت واثقٌ تمامًا يا صديقى" تساءل روسان "أن هذه الشرور مصدرها الحصان السماويّ الذى خلقنا، و ليست من الإنسان، أي خلقه الأدنى؟"
"إن البشر هم رُسل الحصان السماويّ وملائكته"، أجاب بلانشيه "إن إرادته جليةٌ في كل شيء يحدث. إرادته خيّرة، ولما كان يريد بنا سوءً، فلا بد أن في هذا السوء خيرًا. إن كان القانون سيفيدُنا فلا بد أن يجعلنا نُعانى. في إمبراطورية الخيول سوف نُقهر ونعاني بكافة الصور، من خلال القرارات، المراسيم، الأحكام والأوامر، حتى يرضى الحصان السماويّ".
"روسان"، أضاف بلانشيه، "ينبغي أن يكون لك رأس حمار فعلاً حتى لا تفهم أن الحصان إنما جاء إلى هذا العالم لكى يشقى، وإنه إذا لم يشقى فلن يحقّق قدره، لأن الحصان السماوى يشيح بوجهه عن الخيول السعيدة".
المصادر:
- 1Anatole France, Crainquebille, Putois, Riquet et plusieurs autres récits profitables.
2 - أناتول فرانس Anatole France 1844 -1924: كاتب وناقد فرنسي، تميز بالكتابة الساخرة. كان عضوًا بالأكاديمية الفرنسية، وحاصل على جائزة نوبل في الآداب.
3 - أنتويرب: Antwerp كبرى المدن الفلمنكية في بلجيكا، وعصب الحياة الاقتصادية فيها.
4 - زَمِنٌ: واهن.
“-5Sic locutus est patribus nostris, Abraham et semini ejus in saecula” (“As he spoke to our fathers, to Abraham, and to his seed forever”), Luke 1:55.
6 - موسى: نبي بني إسرائيل.
7 - قورش أو قورش الكبير Cyrus (560-529 قبل الميلاد): أول ملوك فارس.
8 - الإمبراطور يوليوس قيصر Julius Caesar (11-44 قبل الميلاد): جنرال وقائد سياسي روماني، وأعظم أباطرة الرومان قاطبة.
9 - الإمبراطور جستينيان الأول (482-565): إمبراطور روماني شرقي من بيزنطة، و قدّيس وفقاً الكنيسة الأرثوذكسية. اشتهر بإصلاحاته القانونية وبمدونته التشريعية المعروفة بـ "مدونة جستينيان" التي تعتبر أصلاً للقوانين المدنية كما نعرفها اليوم.
10 - زرادشت: مؤسس الديانة الزردشتية. عاش في مناطق أذربيجان وكردستان وفارس. انتشرت تعاليمه الدينية في مناطق واسعة من وسط آسيا حتى ظهور الإسلام.
11 - نوما بومبيليوس Numa Pompilius (753-673 قبل الميلاد): ثاني حكام روما ومن أباطرتها الاسطوريين.
12 - القديسة جودولا: قديسة كاثوليكية، عاشت في القرن الحادي عشر فيما صار يعرف ببلجيكا اليوم.
تغريد
اكتب تعليقك