ميج وجو وبيث وإمي، قصة نساء صغيرات، ولماذا لا تزال مهمة حتى الآنالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2020-01-31 22:56:52

رولا عبيد

لندن

عرض وتحليل: جوان أكوسيللا

ترجمة: رولا عبيد

بمناسبة احتفال الأوساط الأدبية الأمريكية بمرور مائة وخمسين عامًا على صدور رواية "نساء صغيرات" عام (1868) للكاتبة الأمريكية لويزا ماي ألكوت (1888-1832) صدر كتاب بعنوان (ميج وجو وبيث وإمي، قصة نساء صغيرات، ولماذا لا تزال مهمة حتى الآن) لأستاذة الأدب  الإنجليزي في جامعة نيو أورلينز "آن بويد رو" وهو عبارة عن مجموعة مباحث عن "نساء صغيرات" مثل الظروف التي دفعت لويزا إلى كتابة هذه الرواية والصعوبات التي مرت بها عائلتها التي استمدت منها الكاتبة أحداث عائلة مارتش المحبوبة.

ميج وجو وبيث وإمي، قصة نساء صغيرات، ولماذا لا تزال مهمة حتى الآن.

للكاتبة آن بويد رو

 

في اعتقادي لا توجد رواية في الأدب النسائي الأمريكي ضاهت في أهميتها رواية "نساء صغيرات" للكاتبة الأمريكية لويزا ماي ألكوت. تسرد الرواية معاناة الأخوات الأربعة لعائلة مارتش اللواتي عشن ظروفًا معيشية صعبة في ولاية ماساشوستس عام (1860) إبان الحرب الأهلية الأمريكية. الأخت الكبرى "ميج" جميلة ورقيقة وتتحلى بمشاعر الأمومة تجاه أخواتها. تبدأ الرواية وهي في السادسة عشرة من عمرها. ثم تأتي أختها "جو" التي كانت على عكسها، فتاة في الخامسة عشرة من عمرها وقارئة نهمة وصبيانية وصاخبة وثائرة. كانت جو تكتب مسرحيات تجسد فيها الفتيات كل الشخصيات حتى الرجال، فيلزقن الذقون ويحملن سيوفًا من الورق وتعرض المسرحيات في صالون المنزل. ثم تأتي "بيث" وهي في الثالثة عشرة من عمرها ومنكفئة على نفسها ولا تحيد عن سماحة الخلق ومقدر عليها الموت المبكر. تحب جمع العرائس، عرائس بالية، عرائس بدون أذرع وعرائس تخرج حشواتها منها، فتقوم بتمريضها في مشفى صنعته خصيصًا لها. وأخيرًا تأتي "إمي" وهي مغرورة وأنانية، ولأنها كانت في الثانية عشرة من عمرها، أي الطفلة المدللة في العائلة وبنفس الوقت جذابة، فقد كان الجميع يحبها بطريقة أو بأخرى. كان والدهن بعيدًا عن المنزل يؤدي خدمته ككاهن في الحرب الأهلية. أما والدتهن التي كن يلقبنها باسم "مارمي" فقد كانت معهن. وكن دومًا يجلسن بمحاذاتها  كي ينهلن من ينابيع نصائحها المحبة التي لا تنضب. وفي المنزل المجاور لهن كان يعيش عجوز ثري مع حفيده اليتيم "لوري". وكان حينما يعود من مدرسته الداخلية السويسرية يختبئ خلف الستائر ويسترق نظرة إلى ما كانت تفعله الأخوات في عائلة مارتش. وعندما ضبطته  جو وهو يتجسس عليهن قامت بينهما صداقة. وسرعان ما وقع في حبها.

الشخصيات ليست ساحرة والأحداث لم تحدث أغلبها في وقت عظيم. فنحن نشهد موتًا وهو حدث جليل، لكن فيما عدا هذا فإن الكتاب ليس أكثر من قصة قطة لديها قطيطات وشخص يذهب للتزلج على الجليد ويقع في حفرة في المياه. ورغم ذلك فإن رواية " نساء صغيرات" التي نشرت في عام (1869-1868) حققت نجاحًا ساحقًا. وقد باع جزؤها الأول في طبعته الأولى ألفي نسخة خلال أسبوعين. ثم بينما كان الناشر يسرع في إصدار نسخ جديدة منها وافقت الكاتبة ألكوت على كتابة جزء ثان مكمل لها. وقد لقى أيضًا نفس النجاح. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف طبعات رواية "نساء صغيرات" عن الصدور. ومن غير المدهش أن تلاقي إقبالًا أكثر من النساء. وذكرت الكاتبة الأمريكية سينثيا أوزيك أنها قرأت "نساء صغيرات" ألف مرة.  كما ذكرت العديد من الكاتبات كم تأثرن بالكتاب أمثال نورا وديليا إفرون وباربرا كينجسولفر وجين سمايلي وجومبا لاهيري وستيفاني ماير. وكما يتضح من القائمة فإنها أثرت في أطياف القراء على اختلاف طبقاتهم. وتخطى تأثيرها حدودنا. فقد أشادت بها كل من دوريس ليسينج ومارجريت أتوود وأ. إس. بايات.

أما القراء فلم يكن بالنسبة لهم مجرد كتاب أحبوه، بل منحهم حياة، على حد قولهم. وكانت سيمون دي بوفوار في صغرها تمثل أدوار"نساء صغيرات" عندما تلعب مع أختها. وكانت دومًا تلعب شخصية جو. وتستعيد ذكريات تلك المرحلة قائلة: " كنت قادرة على أن أقنع نفسي بأنني أيضًا مثلها. أنا أيضًا سأكون متفوقة وسأجد مكاني في العالم". وقالت سوزان زونتاج في لقاء إنه لم يكن من الممكن أن تصبح كاتبة دون تأثرها بنموذج مثل جو مارتش. وقالت الكاتبة الأمريكية أورسولا لي جوين إن شخصية (جو) للكاتبة ألكوت: "هي قريبة إليك وكأنها أختك، وبسيطة كأي مواطن عادي" كما جعلت ألكوت الكتابة شيئًا تستطيع أي فتاة أن تفعله. وقد استخدمت الكاتبات "نساء صغيرات" كي يحولن شخصياتهن إلى كُتَّاب. ففي رواية إيلينا فرانتي "صديقتي المذهلة" فإن البطلتين الطفلتين تتشاركان بنسخة من "نساء صغيرات" وفي النهاية تهترىء من فرط الاستعمال. وتصبح إحدى الفتاتين كاتبة مشهورة بعد أن تلهمها كتابة صديقة طفولتها.

قبل أن تكتب ألكوت (88-1832) "نساء صغيرات" بفترة طويلة أقسمت بألا تتزوج، وكان بلاشك قرارًا يرجع إلى مراقبتها لعلاقة والديها. فوالدها أموس برونسون ألكوت (1888-1795) كان مفكرًا أو على أية حال كانت لديه أفكار وكان عضوًا في نادي  الفلسفة المتعالية في ولاية نيو انجلاند وصديقًا لاثنين من أعضائه وهما الأديب والفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو إمرسون والمؤلف والمؤرخ والفيلسوف الأمريكي هنري ديفد ثورو. اعتبر برونسون نفسه  فيلسوفًا لكنه يُذكر بشكل رئيسي كرائد للتعليم المتقدم. كان يؤمن في التعبير عن الذات وبالتجديد أكثر من إيمانه بجداول الضرب. لكن المدارس والمجتمعات التي أسسها سرعان ما فشلت. وكان أشهر مشروع له "فروت لاندس" وهو مجتمع طوباوي أسسه مع صديق له في مدينة هارفرد في ماساشوستس عام 1843. وكان من المفترض أن تكون جنات عدن الجديدة تتجنب الآثام التي طرد بسببها الإنسان من جنات عدن القديمة. وفيها سيحرث المواطنون الأرض دون أن يستغلوا الحيوانات. ولا حاجة لهم لأكل الحيوان فهم نباتيون من نوع خاص يأكلون فقط الخضراوات التي تنبت فوق الأرض ولا يأكلون أبدًا الخضراوات التي تنبت تحتها مثل البطاطس. ولا يقتربون من المشروبات الكحولية ولا الحليب لأنه منتج بقري. ولا يستحمون إلا بالمياه الباردة فقط.

ومن الممكن أن نتفهم لماذا لم يصطف الناس للإنضمام إلى "فروت لاندس". وانفض عنها المجتمع بعد سبعة أشهر. وهذا يعد سمة لأغلب مشاريع برونسون. فقد كانت أفكاره مثيرة للاهتمام كمجرد أفكار ولكنها عند التطبيق لم تلاق نجاحًا. ولم يواته الحظ لترجمتها كتابيًا. بل إن صديقه الوفي إمرسون قال: "عندما حاول برونسون كتابة أفكاره وجد نفسه غير قادر على التعبير". وهكذا وبينما كان برونسون مايزال في الأربعينيات من عمره لم يعد باستطاعته كسب قوت عيشه. وقال: "ليس لدي الآن أي رؤية واضحة للقيام بأي عمل فوق طاقتي". وكان من حين لآخر يقدم حوارات سقراطية أو جلسة أسئلة وأجوبة أمام الجمهور وأحيانًا كان يتقاضى أجرًا عن ذلك، ولكنه فيما يخص شؤون المنزل كان يعتمد على زوجته الحيوية، آبا، وبناته الأربع وهن النماذج التي استوحت منها الكاتبة ألكوت شخصيات عائلة مارتش في "نساء صغيرات". وعاشت عائلة برونسون في فقر شديد. وفي النهاية قررت لويزا أنها ربما تستطيع أن تساعد عائلتها إذا كتبت قصصًا قصيرة للصحافة الشعبية وسرعان ما اكتشفت أن القصص التي تباع بسهولة هي في معظمها القصص البوليسية. فقط في عام (1950) عندما نشرت باحثة جريئة تدعى مادلين.ب. ستيرن أول سيرة ذاتية كاملة عن لويزا ماي ألكوت اكتشف العالم أن كاتبة "نساء صغيرات" بقططها الصغيرة ومعجناتها هي نفسها التي نشرت سابقًا عدة قصص مقابل الحصول على المال تحت اسم مستعار.

وسرعان ما لفتت نظر الناشر توماس نايلز. وهكذا اقترح نايلز على لويزا أن تكتب قصة للفتيات. وكانت تظن آنذاك أنها فكرة سخيفة. وكتبت في الجريدة التي تعمل بها "لم أحب الفتيات في حياتي ولا أعرف الكثير منهن فيما عدا أخواتي". ولكن عائلتها كانت بأشد الحاجة إلى المال ولذلك كتبت رواية عن بعض الفتيات اللواتي تعرفهن مثل أخواتها وحياتها.

لم تحد ألكوت أبدًا عن قرارها بعدم الزواج وكانت تقول "أفضل أن أبقى عانسًا حرة وأجدف مركبي وحدي". ورغم ذلك فقد اختتمت الجزء الأول من "نساء صغيرات" بخطوبة. فقد تقدم لخطبة، ميج، رجل مهذب يدعى، جون بات، وهو أستاذ لوري، وقبلت ميج عرضه. أما، جو، التي تتبنى موقف الكاتبة في مسألة الزواج ولم تتزوج أبدًا! فقد شعرت بالصدمة. فكيف استطاعت، ميج، أن ترتكب فعلًا قاسيًا وأحمق مثل هذا وتنكث بعهد عائلة مارتش؟ وقالت جو: "كنت أتمنى لو أستطيع أن أتزوج ميج وأحتفظ بها في إطار العائلة".

ويبدو الآن وكأنها تمازح قراءها وهي تعرف تمامًا أنها ستتلقى بعد وقت قصير كميات ضخمة من الرسائل تطالبها بكتابة الجزء الثاني. وهذا ما حدث على كل حال. إذ أراد كاتبو الرسائل أن يعرفوا بادئ ذي بدء شيئًا واحدًا ألا وهو من تزوجت الفتيات؟ فقد عرفوا زوج ميج. لكن ماذا عن أختيها، إمي وبيث؟ والأهم منهما، ماذا عن جو؟ فلا بد كما هو واضح أن تتزوج جو من لوري. كان جميع القراء مأخوذين بشخصيتها إلى حد الجنون، ولذلك كان عليها أن تتزوج الأفضل وهل هناك أفضل من لوري؟ فقد كان وسيمًا وثريًا ويتحدث الفرنسية ويحبها.

كانت جو تريد أن تفعل ما أرادته دومًا. وأخبرت لوري بأنها لاتستطيع أن تحبه إلا كصديق. لقد حطمت قلبه بقدر ما تستطيع. ثم وربما حتى تريح نفسها من الإحساس بالذنب تقنع نفسها بأن أختها المفضلة لديها، بيث، واقعة في حبه. كانت بيث قد أخبرت جو بأنها تخفي سرًا لا تستطيع أن تخبرها به الآن. فلابد أن هذا هو السر! أن بيث تحب لوري! وما على جو إلا إفساح المجال لهما. وهكذا تقبل بالعمل مربية لطفلين عند صديقة والدتها التي كانت تدير فندقًا صغيرًا في مدينة نيويورك.

وفي يومها الثاني هناك بينما كانت تطرز بالإبرة تسمع أحدًا يغني في الغرفة المجاورة. وعندما تسترق النظر من وراء الستارة تكتشف رجلًا اسمه، فريدريش بير، وسنعرف  فيما بعد أنه كان بروفيسورًا له مكانة مرموقة في ألمانيا بلده الأم. ولكنه بات الآن مدرسًا للغة الألمانية وفقيرًا وفي قرابة الأربعين من عمره. كان ممتلئًا وكان شعره منكوشًا في كل الاتجاهات. كما كانت ملابسه مجعدة. وأصبح هو وجو صديقين ولكن طريقهما كان متعثرًا. كانت جو على شاكلة ألكوت التي ابتدعتها تكتب قصصًا قصيرة مثيرة في الصحف لكسب المال. ويرى بير بعضًا من هذه القصص. وتكتب ألكوت "لم يقل لنفسه هذا ليس من شأني". بل تذكر أن جو كانت ماتزال شابة وفقيرة فاندفع  لمساعدتها على قدر من السرعة والطبيعية، وكأن أمرًا عاجلًا استدعاه لمد يده وانتشال  طفل من الوحل". ويخبرها أنه من الخطأ كتابة هذا الهراء. ونظرًا لأن جو تنظر إلى البروفسور بير باحترام شديد تستمع لما يريد قوله فإنها تذهب إلى غرفتها وتجمع جميع القصص التي تنوي نشرها وتحرقها.

وسرعان ما تعلم جو أن بيث مريضة وتكتشف أن ذلك هو السر الذي أخفته عنها بيث وليس حبها للوري بل بأنها ستموت.  تسرع جو للعودة إلى المنزل لتمريض أختها فيما تبقى لها من فترة قصيرة في الحياة. وتموت بيث دون ضجيج، وتقع رواية "نساء صغيرات" لفترة في سرد رتيب ممل. ويصبح عالم عائلة مارتش عالمًا رقيقًا ولطيفًا، وهادئًا وكأن لا شيء يستطيع أن يجلب مرة أخرى ساعة من السعادة الحقيقية. وهكذا تمضي الرواية في مفاجآت. إمي في أوروبا ولوري يلاحقها ثم يقع الاثنان بهدوء في الحب. ويتزوجان في باريس. وجو في المنزل مع والديها تحاول أن تكتفي بالقيام بأعمال المنزل التي كانت تقوم بها بيث ذات يوم. ليس لديها شيء آخر.

ثم تبدأ الرواية في التطور باتجاه أكثر مشاهد الحب إثارة في أدبنا. إذ يصل بروفيسور بير فجأة إلى منزل عائلة مارتش. ويخبر جو أنه تلقى عرضًا للتدريس في الغرب وأنه جاء كي يودعها. ومن الغريب أن هذا الرجل الذي كان ذات يوم فوضويًا بدا أمامها أنيقًا ببدلته الجديدة وشعره الممشط. وتقول جو لنفسها "صديقي العزيز! لم يكن ليهتم بنفسه إلا لأن شيئًا حثه على فعل ذلك". وعندئذ تدرك فجأة ما يجري. فقد استمرت زيارات بير لها يوميًا لمدة اسبوعين. ثم اختفى فجأة. ومر يوم ويومان وثلاثة. وبدأت جو تشعر بالجنون. وأخيرًا تذهب إلى المدينة للبحث عنه. ويتبين لها  أن بير ذهب إليها ليكتشف إن كانت جو ستتزوج لوري أم لا، فقد سمع شيئًا ترك لديه انطباعًا  بأنها مرتبطة بلوري. والآن يجدها في إحدى المناطق الخطرة من المدينة حيث توجد المخازن ومكاتب المحاسبة وحيث يستطيع أيضًا أن يستنتج أنها تبحث عنه. ويقول لها "أشعر أني أعرف السيدة صاحبة العزيمة القوية التي تصر على رأيها رغم أنفوف الجميع"، وفي  النهاية يتفاهمان. وتبكي جو ويبكي بير وتبكي السماء. ويهطل المطر فوقهما بكثافة شديدة.

وعلى الرغم من هذا المشهد الساحر إلا أن ألكوت أحبطت مشاعر العديد من معاصريها لأن جو لم تتزوج من لوري. كما أحبطت العديد من معاصرينا أيضًا، فلماذا كان على جو بطلتنا أن تتزوج على الإطلاق. وبعيدًا عن الزواج، لماذا تتزوج من رجل طلب منها التوقف عن الكتابة؟ والمشكلة أصبحت أسوأ عندما بدا أن ألكوت نفسها تتأرجح في رأيها. ويبدو أنه من غير المرجح أن أحدًا سيأخذ زعمها بعين الاعتبار في أنها وجدت زواجًا ملائمًا لجو كي تغيظ قراءها الذين كانوا يطالبونها بخطة زواج لجو. ولكن ربما هنا يكمن الأمر، لأنها تتأرجح في رأيها بالزواج. ففي إحدى الصفحات تخبر، مارمي، التي تمثل وجه الحكمة، ميج وجو أن أحسن شيئ يمكن أن يحدث لامرأة هو أن يحبها رجل جيد، لكن بعد عدة جمل نجد مارمي تقول: "إن العوانس السعيدات أفضل من الزوجات التعيسات". تُرى بأي الرأيين تؤمن ألكوت؟ أم أنها كانت تعبث بقرائها؟ وإذا كان هذا صحيحًا فقد أربكت العديد من النساء المؤمنات بالحركة النسائية إثر ذلك.

وتحاول، آند بويد رو، في كتابها أن تجعل كل شيء على ما يرام عندما تقول، إن كانت جو قد تزوجت فإنها على الأقل لم تتزوج زواجًا رومانسيًا من رجل مناسب لها، الزواج الذي انخدعت به النساء على مرور الزمن، وإنما اختارت رجلًا تجمع بينهما "ألفة عاطفية واحترام متبادل". أما إليزابيث لينوكس كايزر الباحثة في أدب الطفل فإنها قدمت رؤية سلبية، إذ تقول: "بما أنها لم تجد أي طريقة لإرضاء نفسها فقد تبنت سياسة المحورية الذاتية وبذلك خفضت من سقف رغباتها وأخضعت نفسها للقبول بالزواج من البروفسور بير وهو شخص في سن والدها". كلا التفسيرين يزعمان أن جو بزواجها من شخص سمين وعجوز وفوق كل ذلك أجنبي! لم تصحب معها شخصًا لطيفًا في النهاية إلى غرفتها. وأنا أعتقد أن الوضع عكس ذلك تمامًا، وأن فتاة مقموعة لا يمكن أن تركض في شوارع المدينة تحت مرأى من الجميع وراء شخص تافه. فالسموات لم تفتح عندما قالت ميج نعم لجون أو إمي للوري ولكنها انفتحت فقط عندما ارتبط  جو وبير، هذان الروحان اللذان كانا دون مال أوجمال أو حظ. 

خلف هذين المخلوقين الملائكيين يقف مخلوق آخر وهو ليس شخصية أدبية وإنما شخص حقيقي، برونسون ألكوت. من الصعب أن نحب برونسون الأب، لأنه أهمل عائلته إلى حد ما. ولمدة طويلة تبدو لويزا تزدري والدها، أو على الأقل تنظر إليه بسخرية شديدة. ذات يوم كتبت له تقول إن هدفها في عملها هو إثبات أنها تستطيع الاعتماد على نفسها في معيشتها على الرغم من كونها ابنة ألكوت. وغالبًا نجد أن كل شخص في عائلة لويزا له في الرواية شخصية مهمة تحاكيه، باستثناء شخص واحد هو برونسون. إذ يعود رب عائلة مارتش من الحرب، ويمشي باتجاه غرفته ثم يغيب عن الأحداث مكتفيًا بقراءة الكتب. أحيانًا يظهر في مسرح الحدث ليقول شيئًا ثم يخرج مرة أخرى. ونستطيع بطريقة ما أن نقول إن لويزا قد محته ربما كنوع من الثأر. وبطريقة أخرى ممكن أن يكون ذلك مجرد شطب لمشاعرها نحوه لأنها لا تريد أن تتحدث عنها.

ومع أن برونسون كان إلى حد ما شخصية موجودة في الحقيقة خارج الكتاب فإن المبادئ المثالية التي كان متمسكًا بها بشدة ماثلة في كل صفحة.

ومع الوقت يبدو أن لويزا سامحت والدها. فعندما كانت في الخامسة والخمسين من عمرها ذهبت لزيارته في دار للنقاهة حيث كان يعيش آنذاك (بلا شك على نفقتها الخاصة). وجثت عند طرف سريره قائلة: "ها هي ابنتك لوي، يا أبي . بماذا تفكر وأنت مستلق هنا بسعادة؟ وأجابها: "أنا صاعد للأعلى، تعالي معي". فلبت طلبه. إذ بعد مرور ثلاثة أيام على محادثتهما لفظ برونسون أنفاسه الأخيرة. لكن لويزا لم تعلم بذلك، فقد كانت في حالة غيبوبة على إثر جلطة وتوفيت بعده بيومين.

يقال إن بعض الروائيين لديهم فقط رواية واحدة أو رواية واحدة رائعة. ومثل هذه الروايات تتشابه فهي تعتمد على السيرة الذاتية وغالبًا ما تتميز  بالجاذبية والقدرة على التغلغل تحت الجلد والاستقرار هناك، على عكس الكتب الأخرى التي ربما تكون قد كتبت بشكل أفضل منها ولكنها تفتقر إلى ذلك الإحساس.

 

المصدر:

The New Yorker أغسطس /2018


عدد القراء: 7765

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-