رجلان يصلان إلى قريةالباب: مقالات الكتاب
رولا عبيد لندن |
قصة قصيرة للكاتبة البريطانية زادي سميث
ترجمة: رولا عبيد
أحيانًا على ظهر حصان وأحيانًا أخرى مشيًا على الأقدام أو في سيارة أو على دراجة نارية، وأحيانًا في دبابة، إذا ضلا الطريق بعيدًا عن كتيبتهم الرئيسية، وأحيانًا أخرى يهبطان من الأعلى بالمروحيات. ولكن لو تمعنا في الصورة الأعم والأكثر احتمالًا على مر الزمن فعلينا أن نقر أنهما يأتيان غالبًا مشيًا على الأقدام وبناء على ذلك نكون قد اخترنا مثالًا يعد على أقل تقدير نموذجيًا، بل هو في الواقع نموذج ممتاز لحكاية رمزية ذات مغزى أخلاقي.
يصل رجلان إلى قرية مشيًا على الأقدام، ودائمًا إلى قرية وليس إلى مدينة. وإذا وصل رجلان إلى مدينة سيكونان بطبيعة الحال مصحوبين بعدد أكبر من الرجال وبإمدادات أعظم كثيرًا، حسب التفكير السليم. ولكن عندما يصل رجلان إلى قرية فإن معداتهما الوحيدة ستكون الشر أو الاحتيال، حسب الظروف، وغالبًا سيكون معهما نوع ما من الآلات الحادة، على سبيل المثال حربة أوسيف طويل أوخنجر أومطواة زنبركية أوساطور أومجرد شفرات حلاقة قديمة وصدأة. وأحيانًا بندقية. هكذا كان الحال وسيظل يعتمد على الظروف. ما يمكن قوله يقينًا هو إننا رصدنا هذين الرجلين حال وصولهما إلى القرية في نقطة عند خط الأفق حيث يلتقي الطريق الطويل المؤدي إلى القرية المجاورة بغروب الشمس. وفهمنا مغزى اختيارهما لهذا التوقيت. فعلى مر التاريخ يعد غروب الشمس وقتًا جيدًا للرجلين من حيثما أتيا لأننا أثناء الغروب نكون ما نزال مجتمعين: النساء قد عدن للتو من الصحراء أو المزارع أو من مكاتب المدينة أو من الجبال الجليدية والأطفال يلعبون في التراب بالقرب من الدجاج أو في الحديقة العامة خارج البرج السكني والصبية يتمددون تحت ظلال أشجار الكاجو( اللوز) هربًا من شدة الحرارة، إذا يكونوا في مدينة باردة ونائية، يخطون الجانب السفلي من سكة حديدية برسوم الغرافيتي، وربما يكون السبب الأهم هو وجود الفتيات المراهقات خارج منازلهن وأكواخهن وهن يرتدين الجينز أو الساري أو الحجاب أو تنورة قصيرة جدًا من القماش المطاطي ويقمن بالتنظيف أو طهي الطعام أو فرم اللحمة أو الكتابة على الموبايل. كيفما يتفق. ويكون الرجال من ذوي البنية القوية لم يعودوا بعد من حيثما كانوا.
لليل مزاياه أيضًا ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الرجلين وصلا في منتصف الليل على ظهر حصان أو حافيي القدمين أو يتعلقان ببعضهما البعض على دراجة نارية سوزوكي أو يركبان سيارة عسكرية مستولى عليها من الحكومة، مستغلين بذلك عنصر المفاجأة.
ولكن للظلام عيوبه أيضًا ولأن الرجلين يصلان دومًا إلى قرى وليس إلى مدن، فإذا أتيا في الليل فسيواجهان في الغالب الأعم ظلامًا دامسًا وإذا قابلتهما فلا يهم من أي مكان في العالم أتيا أوماهي خلفيتهما. ففي ظلام مثل هذا الظلام الدامس لن تكون متأكدًا تمامًا بكاحل من تمسك: عجوز أو امرأة متزوجة أو فتاة في مرحلة مبكرة من شبابها.
ومن الواضح أن أحدهما طويل القامة ووسيم بعض الشيء، ولو بطريقة سوقية، وغبي وشرير إلى حد ما، أما الآخر فهو أقصر منه وماكر ونحيل وحاد الملامح كحيوان (ابن عرس). وهذا الرجل القصير المكار المتكئ على لوحة إعلان كوكا كولا التي تُعلم مدخل القرية رفع يدًا محييًا بها بلطف، بينما أخرج الرجل الآخر من فمه عصا صغيرة كان يمضغها ورماها على الأرض وابتسم. كان بإمكانهما أن يكونا متكئين على عامود كهرباء ويمضغان اللبان ورائحة حساء الشمندر تفوح في الهواء، لكن في قريتنا لا نتناول حساء الشمندر، وإنما الكسكس والسمك الأبيض، وكانت رائحة الهواء تفوح بالسمك الأبيض وما زلنا إلى يومنا هذا لا نستطيع تحمل هذه الرائحة إلا بصعوبة بالغة لأنها تذكرنا باليوم الذي وصل فيه هذان الرجلان إلى القرية.
رفع الرجل الطويل يده محييًا بلطف. وفي هذه اللحظة لم يكن أمام ابنة خال زوجة رئيس القرية التي كانت تعبر الشارع الطويل المؤدي إلى القرية المجاورة من خيار إلا التوقف أمام الرجل الطويل الذي يبرق ساطوره تحت أشعة الشمس ورفع يدها المرتعشة لرد التحية.
يحب الرجلان الظهور بهيئة مسالمة إلى حد ما وهذا يذكرنا بحقيقة مفادها أن كل البشر بغض النظر عن أفعالهم يسعون في المقام الأول إلى كسب حب الآخرين حتى ولو لم يدم هذا الحب إلا لساعة من الزمن فقط أو ما يقارب هذا، قبل أن يبثوا الخوف أو الكراهية في نفوس البشر، أو ربما من الأفضل أن نقول إنهم يحبون تعزيز الخوف الذي يزرعونه في النفوس مع أشياء أخرى مثل الرغبة والفضول، ومهما ذهبنا في تحليلنا فإن أقصى ما يسعون إليه في النهاية دومًا هو بث الرعب في النفوس. يطهى الطعام لهما. نعرض عليهما طهي الطعام وإلا سيقومان بالسؤال عنه، حسبما يتفق. وفي أحيان أخرى في الدور الرابع عشر في شقة من عمارة مهملة مغطاة بالثلج، في قرية يعيش الناس فيها في أبراج سكنية، سينحشر الرجلان في أريكة العائلة أمام التلفزيون وهما يتابعان آخر أخبار الحكومة، الحكومة الجديدة التي شكلوها مؤخرًا بعد الانقلاب، وسيضحك الرجلان على زعيمهما الجديد وهو يسير بنظام ذهابًا وإيابًا في ساحة العرض العسكري مرتديًا قبعته السخيفة. وأثناء القهقهة سيمسكان بكتفي الابنة الكبرى وهي تتابع التلفزيون بطريقة من المفترض أن تكون ودودة، لكنهما يضغطان على كتفيها بعض الشيء فيما هي تبكي. فيسألها الرجل الطويل الغبي "ألسنا أصدقاء؟". "ألسنا جميعًا أصدقاء هنا؟".
هذه طريقة من طرق وصولهما، على الرغم من أن وصولهما إلى هنا كان مختلفًا، فليس لدينا تلفزيون ولا ثلج ولا نعيش في منازل ترتفع عن مستوى الأرض. ومع ذلك فإن الأثر واحد: السكون المريع والترقب. فتاة أخرى تكبرها تحضر أطباق الطعام للرجلين أو كما اعتدنا في قريتنا الأكل من نفس السلطانية. قال الرجل الوسيم الطويل الغبي "طعام لذيذ!" وهو يمسك بأصابعه القذرة قطعة من السمك الأبيض ويرفعها إلى فمه أما الرجل القصير المكار الذي له وجه كوجه جرذ فقال "كانت أمي تطهيه بنفس الطريقة فرحمة الله على روحها القذرة!" وأثناء تناولهما الطعام كان كل منهما يهزهز إحدى الفتاتين على حجره بينما جلست السيدات الأكبر سنًا بمحاذاة سور المجمع السكني يبكين.
بعد أن أكلا وشربا، كما لو كانا في قرية يسمح فيها بتقديم المشروب، سيقوم الرجلان بجولة في القرية لاستكشافها. فهذا هو الوقت المناسب للسرقة. وسيقوم الرجلان دومًا بسرقة الأشياء مع أنهما لسبب ما لا يحبذان استخدام هذه الكلمة، وبينما يقومان بسرقة ساعتك أو علبة سجائرك أو محفظتك أو موبايلك أو ابنتك سيقول الرجل القصير بالتحديد أشياء وقورة مثل "شكرًا على الهدية" أو "نحن نقدر تضحيتك بها" مما سيثير ضحك الرجل الطويل ويجعله يدمر أي انطباع جليل كان يحاول الرجل القصير أن يتركه على ضحيته. وعند نقطة معينة وهما يتنقلان من منزل إلى منزل ويستوليان على كل ما يعجبهما سيقفز صبي شجاع من وراء تنورة والدته ويحاول السيطرة على الرجل القصير المكار. فقد اعتدنا في قريتنا أن نطلق على هذا الولد الذي بلغ الرابعة عشرة من عمره الملك الضفدع ويعود سبب هذه التسمية إلى أنه عندما كان في الخامسة أو الرابعة من عمره سأله أحدهم من هو الأقوى في قريتنا فأشار إلى ضفدع كبير وقبيح موجود في الحديقة وقال "هو الملك الضفدع" وعندما سئل عن السبب قال "لأنه يخيف الجميع حتى والدي!" وفي سن الرابعة عشرة كان شجاعًا ولكن متهورًا وهذا ما جعل والدته ذات الوركين العريضين تحشره وراء تنانيرها كأنه طفل رضيع. ولكن جيوب القرية الصغيرة لم تخل من وجود شيء من المقاومة والشجاعة الجسدية الحقيقية هنا وهناك وفي كل مكان والتي يصعب شرحها على الرغم من أنها كانت غالبًا بلا فائدة، لكنها تبقى شيئًا بمجرد أن تراه لا تستطيع أن تنساه بسهولة، مثل وجه جميل جدًا أو سلسلة من الجبال العملاقة تهز ثقتك بنفسك إلى درجة ما، وربما اعترى الرجل الطويل الغبي هذا الشعور فرفع ساطوره اللامع وجز رأس الصبي عن جسده بحركة انسيابية سهلة وكأنه يفصل رأس وردة عن ساقها.
وبمجرد أن تراق الدماء خاصة هذا الكم من الدماء حتى يحل على الفور نوع من العنف والفوضى الدامية محل كل اللفتات الرسمية من ترحيب وطعام وتهديد. وبشكل عام عند هذه النقطة سيتناول الرجال مزيدًا من المشروب والغريب أن الرجال من كبار السن في القرية، على الرغم من أنهم لم يعودوا يمتلكون القدرة على الدفاع، فإنهم دومًا يمسكون بزجاجات المشروب ويشربون حتى الثمالة وهم يبكون، فكما يحتاج ارتكاب فوضى دامية إلى الشجاعة فإن مشاهدتها وأنت تقف مكتوف الأيدي يحتاج أيضًا إلى الشجاعة. ولكن ماذا عن النساء! كم نفخر بهن عندما نستعيد الماضي، ماضي نسائنا اللواتي شبكن سواعدهن على شكل دائرة تحيط بفتياتنا عندما اهتاج الرجل الغبي وبصق على الأرض وقال "ما خطب هاتي الكلبات؟ فوقت الانتظار قد انتهى. وأي تأخير سأكون قد شربت حتى الثمالة!" ثم سدد الرجل القصير المكار ضربة على وجه ابنة خالة زوجة رئيس القرية، (أثناء وجود زوجة الرئيس في القرية المجاورة في زيارة للعائلة) وتحدث بنبرة منخفضة تآمرية عن أطفال الثورة المستقبليين. وقد فهمنا أن النساء وقفن مثل هذه الوقفة في الأزمنة الغابرة إلى جانب الحجر الأبيض والبحار الزرقاء ومؤخرًا في قرى غانيشا (مخلوق برأس فيل من الأساطير الهندية القديمة) وفي أماكن أخرى قديمة وجديدة. ويبقى هناك شيىء مؤثر في شجاعة نسائنا على الرغم من أنها لم تأت بأي فائدة في هذه اللحظة ولم تستطع منع وصول الرجلين إلى القرية وارتكاب أبشع الجرائم فيها، ولم يحدث هذا ولن يحدث أبدًا، ومع ذلك مرت على الرجل الطويل الغبي لحظة شعر فيها بالإذعان والتهديد، وكأن المرأة التي تبصق عليه الآن هي والدته، ولكن هذه اللحظة لم تدم طويلًا بعد أن سدد الرجل القصير المكار ضربة لها في أعلى فخذها وانهارت الرسميات وعمت الفوضى الدامية دون عقبات كما كان مخططًا لهاعادة.
وفي اليوم التالي أعيد تداول ما حدث بصيغة مجزأة ومقطعة وكانت تتغير حسب نوع السائل: جندي أو زوج أو امرأة تحمل حافظة أوراق أو زائر من القرية المجاورة مصاب بمرض الفضول أو زوجة رئيس القرية التي عادت من زيارة لأخت زوجها في المجمع. وسيشدد أغلبهم على أسئلة محددة، "أين كانا؟" و"من هذان الرجلان؟" و"وما اسماهما؟" و"بأي لغة كانا يتحدثان؟" و"ما العلامات الفارقة التي ميزت أيديهما ووجهيهما؟"، لكن في قريتنا نحن محظوظون جدًا لعدم وجود بيروقراطية متعنتة وإنما لدينا زوجة الرئيس التي تكون بعد أن يقال ويفعل كل شيء بمثابة رئيس لنا أكثر مما كان عليه الرئيس طيلة حياته. كانت طويلة القامة ووسيمة ومكارة وشجاعة. وتؤمن بالهارمتان وهي الرياح التي تهب هنا حارة وهنا باردة، حسبما يتفق، والتي يتنفسها الجميع، ولا تستطيع إلا أن تتنفسها، ومع ذلك فإن بعضهم فقط سيزفرها عند تفشي الفوضى الدامية. وبالنسبة لها فإن مثل هؤلاء البشر ليسوا إلا الهارمتان، يفقدون أنفسهم وأسماءهم ووجوههم ولا يستطيعون بعد ذلك مجرد الادعاء بجلب العواصف لأنهم العواصف ذاتها. بالطبع هذا تعبير مجازي. ولكنها تعيش على هذا المعتقد. ذهبت مباشرة إلى الفتيات وطلبت منهن أن يخبرنها قصصهن، وتشجعت إحداهن وأخذت تسرد قصتها بالكامل مدفوعة بالعاطفة التي أبدتها زوجة الرئيس تجاههن وكانت نهاية قصتها هي أغرب ما فيها، فالرجل القصير المكار اعتقد أنه وقع في الحب أخيرًا وأخذ يخبر الفتاة وهو يضع رأسه المتصبب عرقًا على صدرها بأنه أيضًا نشأ يتيمًا، على الرغم من أن قول ذلك كان أقسى عليه لأنه كان يتيمًا لسنوات وليس لمجرد ساعات، وأخبرها أن له اسمًا وحياة وبأنه ليس مجرد وحش وإنما صبي عانى كما يعاني كل الرجال ورأى في حياته أشياء مرعبة وكل ما يريده الآن أن ينجب أطفال من هذه الفتاة من قريتنا، عدة أطفال من الذكور بصحة قوية وشكل جميل وإناث أيضًا، نعم إناث ولما لا! وأن يعيشا بعيدًا عن كل القرى والمدن محاطين ومحميين بهذا الجيش من الأطفال طيلة حياتهما. وقالت الفتاة باندهاش "كان يريدني أن أعرف اسمه! ثم أضافت وهي ماتزال مندهشة بالفكرة" لم يكن خجولًا مما فعله! وقال إنه لا يريد التفكير في أنه مرّ من قريتي ومن جسدي دون أن يهتم أحد بمعرفة اسمه. وربما هذا ليس اسمه الحقيقي ولكنه قال إن اسمه كان-".
لكن زوجة رئيسنا وقفت فجأة وتركت الغرفة وخرجت إلى الحديقة.
نشرت القصة في مجلة The New Yorker
https://www.newyorker.com/magazine/2016/06/06/two-men-arrive-in-a-village-by-zadie-smith
تغريد
اكتب تعليقك