مساوئ سياسات الهوية القبلية الجديدة وأزمة الديمقراطيةالباب: مقالات الكتاب
رولا عبيد لندن |
فرانسيس فوكوياما
ترجمة: رولا عبيد
بدأت السياسة الدولية في العقود القليلة الماضية تشهد تغيرات مثيرة. ففي وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من هذا القرن، ارتفع عدد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة من 35 إلى أكثر من 110. وطيلة هذه الفترة وصل إنتاج العالم من البضائع والخدمات إلى أربعة أضعاف ما كان عليه في السابق، وانتشر النمو إلى حد كبير في كل مكان في العالم. وانخفض عدد الناس الذين كانوا يعيشون في فقر مدقع من 42% من سكان العالم في عام 1993 إلى 18% في عام 2008.
ولكن هذه التغيرات لم تعد بالنفع على كل شخص. ففي بلاد عديدة وبالذات في الدول الديمقراطية المتقدمة، ارتفعت نسبة عدم المساواة الاقتصادية بشكل كبير حيث استفاد من النمو بشكل رئيسي الأغنياء والحاصلون على تعليم عال. كما أن الازدياد في حجم البضائع والمال وحركة الناس من مكان لآخر صاحبتها تغيرات خطيرة.
وفي نهاية المطاف فإن هذه التغيرات أبطأت الحركة باتجاه نظام عالمي يزداد انفتاحًا وحرية إلى نظام عالمي متذبذب سرعان ما انتكس. وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 8-2017. وكانت الضربات الأخيرة هي أزمة اليورو التي بدأت عام 2009. وفي كلتا الحالتين فإن السياسات التي وضعتها النخب أنتجت حالة من الركود الهائل ونسبة بطالة عالية وانخفاض في دخل الملايين من العمال البسطاء. وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي هما النموذجان اللذان يقودان الديمقراطية الحرة، فإن هذه الأزمة دمرت سمعة هذا النظام بأجمعه.
كل تلك التطورات ترتبط بشكل ما بالتحول الاقتصادي والتكنولوجي للعولمة. ولكن جذورها ترجع أيضًا لظاهرة مختلفة، وهي صعود سياسات الهوية. كانت السياسات تُحدد في الجزء الأكبر من القرن العشرين بالقضايا الاقتصادية. فقد ركزت السياسات عند التيار اليساري على العمال والنقابات العمالية وبرامج الرعاية الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة. وعلى النقيض كان اليمين مهتمًا بشكل رئيسي في تقليص حجم الحكومة وتشجيع القطاع الخاص. واليوم تُحدد السياسات بالسؤال حول الهوية أكثر من تحديدها بالاقتصاد أوالأيدلوجيات المؤثرة. وكما يركز اليسار الآن في بلاد ديمقراطية عديدة على تشجيع مصالح شريحة واسعة التنوع من المجموعات المهمشة مثل، الأقليات الإثنية والمهاجرين واللاجئين والنساء وأصحاب المثليات الجنسية، أكثر من تركيزه على إيجاد مساواة اقتصادية واسعة. كما نجد في نفس الوقت أن اليمين أعاد تحديد رسالته الجوهرية لتصبح، الحماية الوطنية للهوية التقليدية التي ترتبط بشكل صريح بالعرقية والإثنية أوالدين.
هذا التحول يقلب تقليدًا طويلًا يعود على الأقل إلى زمن كارل ماركس عندما كان يُنظر للصراع السياسي على أنه انعكاس للصراع الاقتصادي. فعلى الرغم من أهمية المصلحة الشخصية المادية إلا أن هناك دوافع محفزة أخرى للبشر أيضًا لا تقل عنها أهمية، وقادرة على تفسير الحاضر بشكل أفضل. وقد حشد القادة السياسيون حول العالم أنصارهم حول فكرة أن كرامتهم قد أهينت وعليهم استعادتها.
وبالطبع في الدول الاستبدادية باتت هذه الدعوات خدعًا قديمة. لقد تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن "مأساة" انهيار الاتحاد السوفييتي وانتقد بشدة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لانتهازهما ضعف روسيا عام 1990 وتوسيع حلف الناتو. وألمح الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى بلده بعبارة " قرن من المهانة" وهي المرحلة التي وقعت فيها تحت السيطرة الأجنبية التي بدأت عام 1839.
ولكن الاستياء بسبب إهانة الكرامة بات قوة ضاغطة في الدول الديمقراطية أيضًا. لقد انطلقت حركة "حياة السود مهمة" (وهي حركة ناشطة في المجتمع الأمريكي الإفريقي تهدف إلى التخلص من العنف ضد الأشخاص السود) من خلال النشر العلني المنظم لسلسلة من عمليات قتل الشرطة الأمريكية لأفارقة أمريكان، مما أجبر باقي العالم على الالتفات إلى ضحايا وحشية الشرطة. وثارت النساء في أحرام الجامعات والمكاتب في أنحاء الولايات المتحدة على ما بدا وكأنه وباء التحرش والاعتداء الجنسي واتفقن على أن أقرانهن من الرجال ببساطة لا ينظرون إليهن بعين المساواة. وباتت حقوق المتحولين جنسيًا، الذين لم يعترف سابقًا بشكل واسع بأنهم هدف بارز للتمييز ضدهم، قضية رأي عام. وتحسر الكثير من هؤلاء الذين صوتوا لصالح ترمب على الزمن الماضي الذي اعتقدوا أن مجتمعهم كان فيه أكثر أمنًا.
وقد أدت هذه المطالب إلى ردة فعل بين مجموعات أخرى تشعر بضياع مكانتها، وينتابها إحساس باستبعادها. إن المجتمعات الديمقراطية تنشرخ إلى أجزاء تعتمد على هويات محدودة جدًا، تهدد إمكانية المجتمع ككل لإجراء نقاش وتحرك جماعي. وهذا طريق يؤدي فقط إلى حالة انهيار وتكون نتيجته الفشل. فإذا لم تستطع هذه الديمقراطيات العودة إلى تفاهم عالمي حول مفهوم كرامة الإنسان فسوف تهلك وسيستمر الصراع في العالم.
انتصار الهوية
وهذا وضع كل مجموعة مهمشة أمام أحد خيارين: إما أن تطالب المجتمع بمعاملة أعضائها بنفس الطريقة التي يعامل بها المجموعات المهيمنة، أو أن تؤكد على هوية منفصلة لأعضائها وتطالب باحترام اختلافها عن الاتجاه السائد في المجتمع. ومع الوقت مالت الكفة نحو الانتصار للاستراتيجية الأخيرة، كما حدث في السابق عندما طالبت حركة الحقوق المدنية بزعامة مارتين لوثر كينغ الابن، المجتمع الأمريكي بمعاملة السود بنفس الطريقة التي يعامل بها البيض.
وظهر تطور مماثل داخل الحركة النسائية. فمطالب الاتجاه العام كانت مركزة على إعطاء المرأة حقها في المساواة في التوظيف والتعليم والمحاكم وإلى ما هنالك.. ولكن منذ البداية، تم اقتراح مجموعة مهمة من الأفكار النسائية تقضي بأن الوعي والتجارب الحياتية للنساء مختلفة أساسًا عن الرجال وأن هدف الحركة يجب ألا يكون مجرد مساعدة النساء في التصرف والتفكير بطريقة الرجال.
وسرعان ما استلهمت حركات أخرى أهمية التجربة المعاشة في صراعاتها. وعلى نحو متزايد طالبت المجموعات المهمشة، ليس فقط بالمساواة في القانون والمؤسسات مع المجموعات المهيمنة، وإنما في أن يعترف بها المجتمع الأوسع، بل ويثني على أصولها المختلفة التي تفصلها عنه. وبمجرد أن يشير تعبير " التعددية الثقافية" أساسًا إلى نوع من المجتمعات المتعددة- فإنه أصبح بالتالي علامة لبرنامج سياسي يقدر كل ثقافة منفصلة وكل تجربة معاشة بالمساواة، في بعض الأحيان بالالتفات بشكل خاص إلى هؤلاء الذين كانوا غير مرئيين أو غير مقدرين في الماضي. هذا النوع من التعدد الثقافي كان في البداية يشمل مجموعات ثقافية كبيرة مثل الكنديين الناطقين بالفرنسية أو المهاجرين من المسلمين أو الأمريكيين من أصول أفريقية. ولكن سرعان ما أصبح رؤية لمجتمع مجزء إلى مجموعات صغيرة لها تجارب مختلفة بالإضافة إلى مجموعات تحدد بالتقاطع لأشكال مختلفة من التمييز ضدها مثل نساء من غير البيض، حيث لا يمكن فهم حياتهن فقط من خلال منظور العرق أو الجندر.
ومع اقتراب نهاية القرن العشرين اتضحت آفاق هذه الاستراتيجية. وكان على الماركسيين مواجهة واقع أن المجتمعات اليسارية في الصين والاتحاد السوفييتي تحولت إلى مجتمعات يسارية مشوهة وديكتاتوريات استبدادية. وفي ذات الوقت أصبحت الطبقة العاملة أكثر غِنىً في معظم الديمقراطيات الصناعية وبدأت تصنف مع الطبقة الوسطى. كما سقطت الثورة اليسارية وألغيت الملكية الخاصة من الأجندة. ووصل اليسار الديمقراطي الاجتماعي إلى طريق مسدود أيضًا عندما اصطدم هدفه في توسيع دولة الرفاهية بشكل دائم بواقع فرض قيود مالية خلال أعمال الشغب في السبعينيات. وردت الحكومات بطبع النقود مما أدى إلى تضخم اقتصادي وأزمة مالية. وابتكرت برامج إعادة التوزيع محفزات خاطئة لم تشجع على العمل والادخار والمشاريع الحرة وأدت بدورها إلى انكماش اقتصادي كلي.
من اليسار إلى اليمين
إن تبني اليسار لسياسات الهوية كان أمرًا مفهومًا وضروريًا. فالتجارب المعاشة للمجموعات من ذوي الهويات المميزة تختلف، وتحتاج دومًا إلى التعاطي معها بطرق خاصة. فدومًا ما يخفق الغرباء في إدراك الأذى الناتج عن تصرفاتهم، كما لاحظ العديد من الرجال في أعقاب الحركة الإعلانية Me Too # المتعلقة بالتحرش والاعتداء الجنسي. ولذلك تهدف سياسات الهوية إلى تغيير الثقافة والسلوك بطرق تؤدي إلى فوائد حقيقية ملموسة للعديد من الناس.
وإذا قمنا بتسليط الضوء على تجارب أضيق من الظلم، فإننا نجد أن سياسات الهوية قد جاءت بتغييرات مرحب بها في الأنماط الثقافية وأنتجت سياسات جماهيرية واقعية ساعدت العديد من الناس. فحركة " حياة السود مهمة" أدت إلى جعل أقسام الشرطة في أنحاء الولايات المتحدة تتعامل بضمير أوعى مع الأقليات على الرغم من أن انتهاكات الشرطة ما زالت مستمرة. كما قامت حركة Me Too # بتوسيع التفهم الجماهيري للاعتداء الجنسي وفتحت نقاشًا مهمًا حول قصور القانون الجنائي الموجود حاليًا في التعامل معه. وربما كان من أهم نتائجه، التغيير الذي أحدثه في طريقة التفاعل بين الرجال والنساء في أماكن العمل.
وبالتالي فإن سياسات الهوية ليست خاطئة، باعتبارها ردة فعل طبيعية وحتمية ضد الظلم. ولكن جنوح سياسات الهوية باتجاه التركيز على القضايا الثقافية حولت طاقة وانتباه التقدميين من التفكير جديًا في الأسباب التي أدت إلى تغيير مسار ثلاثين عامًا في أغلب الديمقراطيات الحرة نحو تفاوتات اقتصادية -اجتماعية أكثر ضخامة.
ومع ذلك لا يخلو الاعتماد على سياسات الهوية من نقاط ضعف كاستراتيجية سياسية. فالاختلال الوظيفي والتدهور الحالي للنظام السياسي في الولايات المتحدة يرجع إلى الاستقطاب المتطرف والمستمر في النمو الذي جعل الحكم الروتيني تمرينًا على سياسة الهاوية. ويقع معظم اللوم في هذه السياسة على اليمين.
وهذا ربما يفسر إحدى السمات الاستثنائية للانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة عام 2016 التي تمثلت في شعبية ترمب ضمن مجموعة محورية من الداعمين، على الرغم من أن مثل هذا السلوك في حقبة ماضية كان سيقضي على الحملة الرئاسية. فخلال الحملة سخر ترمب من إعاقة أحد الصحفيين ووصف المكسيكيين بالمغتصبين والمجرمين. كما سُمع له تسجيل يتفاخر فيه بلمسه للنساء من أماكن حساسة. تلك التصريحات تعد أقل انتهاكًا لمبدأ الصواب السياسي من الانتهاكات التي ارتكبها تجاه خدش الأخلاق، والعديد من الذين دعموا ترمب لا يوافقون بالضرورة على تلك التصريحات أوعلى التعليقات المخزية الصادرة عنه. ولكن في وقت ما عندما اعتقد العديد من الأمريكيين أن الخطاب العام يخضع للرقابة، أعجب داعمو ترمب بعدم استجابته للضغط عليه كي يتجنب قول تصريحات مسيئة. وفي حقبة تتسم بالصواب السياسي فإن ترمب يمثل نوعًا من المصداقية التي يقدرها الكثير من الأمريكيين، فهو ربما شرير ومتعصب ولا تتسم شخصيته مع منصب الرئاسة ولكنه على الأقل يعبر عن أفكاره.
ومع ذلك فإن صعود ترمب لم يعكس رفض المحافظين لسياسة الهوية وإنما عكس في الواقع حق تبني سياسات الهوية. فالعديد من البيض المنتمين للطبقة العاملة والداعمين لترمب يشعرون بأن النخبة تتجاهلهم. ودومًا يعتقد الناس الذين يعيشون في مناطق قروية، ويُعدون القلب النابض للحركات الشعبية ليس فقط في الولايات المتحدة وإنما أيضًا في بلاد أوروبية عديدة، أن النخبة المدنية العالمية (كوزموبوليتان) تهدد قيمهم. وعلى الرغم من أنهم أعضاء من المجموعات الإثنية المهيمنة إلا أن أعضاء كُثر من البيض المنتمين للطبقة العاملة يرون بأنهم تم تهميشهم والتضحية بهم. ومهدت مثل هذه الأحاسيس الطريق لظهور سياسات الهوية في جناح يميني، أخذ الحد الأقصى في تطرفه شكل العنصرية الصريحة للقومية البيضاء.
ومن الجدير بالملاحظة هو كيفية تبني اليمين للغة وإطار سياسات الهويات عند اليسار، ففكرة أن البيض باتوا ضحايا وأن أوضاعهم ومعاناتهم غير مرئية بالنسبة إلى باقي المجتمع وأن الكيانات الاجتماعية والسياسية مسؤولة عن هذا الوضع، خاصة مؤسسات الإعلام والسياسة، تحتاج إلى سحقها.
أمة الاندماج
إن الأجندة السياسية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا التي تركز على الاندماج ستحل قضية درجات الهجرة. فالاندماج في ثقافة مهيمنة يصبح أصعب كلما ارتفع عدد المهاجرين بالنسبة للسكان الأصليين. وعندما تصل المجتمعات المهاجرة إلى مدى معين فإنها تميل بطبيعتها إلى الاكتفاء الذاتي ولا تحتاج بعد ذلك إلى التواصل مع مجموعات خارج دائرتها. وستستحوذ على الخدمات العامة وستشكل ضغطًا على القدرة الاستيعابية للمدارس والمؤسسات العامة الأخرى كي يهتموا بها. وغالبًا ما يكون للمهاجرين تأثير إيجابي على الدخل المالي العام على المدى الطويل، لكن فقط في حالة حصولهم على وظائف وأصبحوا مواطنين من دافعي الضرائب أو مواطنين شرعيين. كما أنه من الممكن أيضًا لأعداد كبيرة من الوافدين الجدد أن يحصلوا على دعم يفوق ما يقدم للسكان الأصليين المولودين في أمريكا بالنظر إلى الخدمات الاجتماعية السخية التي تقدم لهم وهو واقع يؤخذ بعين الاعتبار في مناقشات الهجرة في كل من الولايات المتحدة وأوربا.
لقد استفادت الديمقراطيات الحرة من الهجرة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي بشكل كبير. ولكن حقها أيضًا في السيطرة على حدودها أمر غير قابل للنقاش. فما يحتاجه الاتحاد الأوروبي هو التمكن من السيطرة على حدوده الخارجية بشكل أفضل مما يفعل الآن، وهذا يعني عمليًا، منح دول مثل اليونان وإيطاليا مزيدًا من التمويل وسلطة قانونية أقوى لتنظيم عملية تدفق المهاجرين.
أما في الولايات المتحدة فإن المشكلة الأساسية تكمن في التناقض في إنفاذ قوانين الهجرة. فعمل القليل لمنع ملايين الناس من الدخول والبقاء في الدولة بطريقة غير شرعية ومن ثم توريطهم في ترحيل على فترات متقطعة يبدو في ظاهره تعسفيًا- كما اتسمت الفترة الرئاسية لأوباما – ويعد سياسة يصعب الاستمرار فيها على المدى الطويل. ومع ذلك فإن إعلان ترمب عن "بناء جدار" على الحدود المكسيكية هو أقل بكثير من أن يحمي مصالح المواطنين، لأن ذلك معناه دخول أعداد هائلة من الوافدين غير الشرعيين إلى الولايات المتحدة بطريقة شرعية والبقاء ببساطة في الدولة بعد انتهاء الفيزا. إن ما يلزم هو نظام أفضل لمحاسبة الشركات والأشخاص الذين يقومون بتوظيف مهاجرين غير شرعيين وهذا يتطلب نظام البطاقات الشخصية الوطنية التي تساعد أصحاب العمل على تقرير من يحق له العمل لديهم. ولم ينشأ مثل هذا النظام لأن العديد من أصحاب العمل يستفيدون من الأيدي العاملة الرخيصة التي يوفرها المهاجرون غير الشرعيين. بالإضافة إلى أن الكثيرين من جماعات اليسار واليمين يعارضون نظام الهويات الشخصية الوطنية لاعتقادهم بأنها فوق طاقة الحكومة.
وبإمكان السياسات العامة التي تركز على الادماج الناجح للأجانب أن تساعد في التخلص من هذا العائق بالعمل على تغيير الاتجاه العام الشعبي المتزايد حاليًا في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. فالمجموعات التي تعارض الهجرة بصوت عال هي تكتل من الناس له مخاوف مختلفة. فأصحاب مذهب الأهلانية المتشددون تدفعهم العنصرية والتعصب الأعمى ولا يمكن تغيير فكرهم ولو قليلًا. ولكن هناك آخرين لديهم مخاوف أكثر شرعية تتعلق بسرعة التغير الاجتماعي بسبب الهجرة الهائلة ويساورهم القلق حول القدرة الاستيعابية للمؤسسات الموجودة لاحتواء هذا التغيير. فبإمكان السياسة التي تركز على الادماج أن تقلل من قلقهم وتبعدهم عن المتعصبين.
تزدهر سياسات الهوية عندما يغفل أبناء الوطن المهمشين والفقراء. فالاستياء الناتج عن حالة القلق يبدأ من ضائقة اقتصادية حقيقية وإحدى الطرق لإسكات الاستياء هي تهدئة المخاوف بشأن الوظائف، والدخول، والأمن. فمنذ عدة عقود مضت توقفت أغلب التيارات اليسارية في الولايات المتحدة عن التفكير في سياسات اجتماعية طموحة بإمكانها المساعدة في إصلاح الأوضاع الاقتصادية التحتية للفقراء. فالحديث عن الاحترام والكرامة الإنسانية أسهل من وضع خطط مكلفة ربما تكون قادرة على أن تخفف بشكل ملموس من التباين الاقتصادي. ولذلك يعد قانون أوباما للرعاية الصحية " أوباما كير" استثناء نوعيًا وإنجازًا بارزًا على صعيد السياسة الاجتماعية في الولايات المتحدة. وقد حاول معارضو قانون الرعاية الصحية تأطيره في قضية الهوية وألمحو إلى أن رئيسًا أسود وضع سياسة مصممة لمساعدة السود الذين انتخبوه. ولكن قانون الرعاية الصحية كان في الواقع سياسة وطنية وضعت لمساعدة الأمريكان المحتاجين بغض النظر عن عرقهم أو هويتهم.
لقد جعلت سياسات الهوية وضع مثل هذه السياسات الطموحة أكثر صعوبة. فعلى الرغم من أن القتال حول سياسة اقتصادية أنتجت انقسامات حادة في وقت مبكر من القرن العشرين، إلا أن عدة ديمقراطيات وجدت أن هؤلا الذين لديهم رؤية اقتصادية معارضة يستطيعون دومًا فصل الاختلاف وتقديم التنازلات، على النقيض من هؤلاء الذين تتعلق قضاياهم بالهوية حيث يكون التوفيق فيها أصعب، فإما أن تعترف بي أو لا. إن الاستياء من الكرامة المهدورة أو التجاهل لهما دومًا جذور اقتصادية، لكن القتال حول الهوية يشغل دومًا الانتباه عن الأفكار السياسية التي يمكنها المساعدة. ونتيجة لذلك أصبح من الأصعب خلق ائتلاف واسع للنضال من أجل إعادة توزيع الثروة، فالأعضاء من الطبقة العاملة الذين ينتمون أيضًا إلى مجموعات لها هويات ذات مكانة أعلى (مثل البيض في الولايات المتحدة) تميل إلى مقاومة أن تكون لها قضية مشتركة مع هؤلاء الذين يعتبرونهم أقل منهم والعكس.
ولدى الحزب الديمقراطي بالتحديد خيار هائل ليتبعه. فهو يستطيع الاستمرار في محاولته للفوز بالانتخابات بمضاعفة جهوده في تحريك المجموعات من ذوي الهويات التي تزود اليوم أغلب ناشطيها المتحمسين، الأفارقة الأمريكان و الهيسبانو والنساء العاملات ومجتمع المثليين وإلى ما هنالك. أو أن يحاول الحزب أن يسترجع بعضًا من المصوتين من الطبقة العاملة البيضاء الذين يشكلون جزءًا مهمًا من الائتلاف الديمقراطي من برنامج " الصفقة الجديدة" إلى " المجتمع العظيم" لكنهم انشقوا وانضموا إلى الحزب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة. وربما تسمح له الاستراتيجية السابقة بالفوز في الانتخابات ولكنها تركيبة ضعيفة لإدارة البلاد. فلقد أصبح الحزب الجمهوري حزب البيض والحزب الديمقراطي حزب الأقليات. وإذا استمرت هذه العملية على هذا المنوال فستحل الهوية محل الأيدلوجية الاقتصادية تمامًا وتصبح مركز انشقاق في سياسة الولايات المتحدة، وستكون نتيجتها غير صحية في الديمقراطية الأمريكية.
نبذة عن الكاتب
ولد الفيلسوف فرانسيس فوكوياما عام 1952 واشتهر بكتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الصادر عام 1992. ويعمل في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بجامعة ستانفورد منذ 2010.
مصدر الترجمة:
مجلة السياسة الخارجية Foreign Affairs عدد سبتمبر/أكتوبر 2018.
تغريد
اكتب تعليقك