وفاة موظّف عموميالباب: مقالات الكتاب
حسام حسني بدار كاتب ومترجم من الأردن |
قصّــة: انطون تشيخوف*
ترجمة: حسام حسني بدار
ذاتَ مساءٍ رائعٍ، كان إيفان ديمتريتش تشيرفياكوف – الموظّف العمومي الذي لا يقلّ روعةً عن ذلك المساء – جالسًا في الصّف الثاني من مقاعد الصّالة، يتطلّع بمنظاره بشغفٍ إلى الأوبرا الكوميدية "أجراس كورنيفيل". كان يشعر بأنه في قمّة الابتهاج. وفجأةً.. (وكثيرًا ما تقابلنا الـ"وفجأةً" هذه في القصص. والكتّاب على حق.. فالحياة تحفل بالمفاجآت!) تقلّص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه.. وحوّل عينيه عن المنظار وانحنى و...عطس!!. والعطْس – كما تعرفون – ليس محظورًا على أحدٍ في أيّ مكان، إذ يعطس الفلاّحون ورجال الشرطة.. الجميع يعطسون. لذا لم يشعرْ تشيرفياكوف بأيّ حرج، ومسح أنفه بمنديله. وكشخصٍ مهذّبٍ نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدًا بعطْسه. وعلى الفور شعر بحرجٍ شديدٍ، فقد رأى العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفّازه بعنايةٍ ويغمغم لنفسه بشيءٍ ما. وتبيّن لتشيرفياكوف أنّ السيد العجوز هو بريزالوف، الموظف العام الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية. قال تشيرفياكوف لنفسه: "لقد أصبته برذاذ عطاسي. إنه ليس رئيسي، ومع ذلك ينبغي عليّ أن أعتذر". تنحنح تشيرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن موظف السكك الحديدية:
" عفوًا يا صاحب السعادة، لقد أصابكم رذاذ عطاسي عن غير قصدٍ منّي.."
"لا بأس، لا بأس."
"أستحلفكم بالله أنْ تعذروني.. إنني لم أكن أقصد ذلك."
"آه. إجلس من فضلك، ودعني أستمع!"
أحسّ تشيرفياكوف بالحرج، وابتسم ببلاهة، وراح ينظر إلى المسرح.. ولكن دون متعة هذه المرة. لقد بدأ القلق يعتريه. وأثناء الاستراحة اقترب من يريزالوف وسار بجواره، وتمتم – بعد أن تغلّب على خجله:
"لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. أرجو المعذرة.. إنني لم أكن أقصد أن.."
"كفى! كفى! لقد نسيتُ الأمر وأنت ما زلتَ تتحدّث عنه!" قال العجوز بنفاد صبر.
" يقول أنه نسيَ، بينما الخبث يطل من عينيه، ولا يريد أن يتحدّث بالأمر. ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب بذلك على الإطلاق.. وأنّ هذا قانون الطبيعة، وإلّا ظنّ أنني أردتُ أنْ أبصق عليه..
وإذا لم يظنّ ذلك الآن فسيظنّه فيما بعد. "قال تشيرفياكوف في سرّه وهو ينظر بشكّ إلى بريزالوف. وعندما عاد تشيرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرّف. وأدهشه أنّ زوجته نظرتْ إلى الأمر باستخفاف، وأنّها جزعتْ قليلًا فقط. ولكنها اطمأنتْ عندما علمتْ أن بريزالوف كان في دائرةٍ أخرى، وقالت:
"ومع ذلك اذهب إليه واعتذر، وإلا ظنّ أنك لا تعرف كيف تحسن التصرّف في المجتمعات."
"هذا بالضبط ما فعلته! لقد اعتذرتُ له، لكنه نظر إلى ذلك بغرابة ... ولم يقل كلمة مفهومة واحدة، ثم أنه لم يكن هناك متّسع للحديث."
1
في اليوم التالي ارتدى تشيرفياكوف حلّة جديدة، وقصّ شعره وذهب إلى الرجل لتوضيح الأمر.. وعندما أُدخل إلى غرفة الاستقبال رأى هناك كثيرًا من الزوّار، وبينهم كان يجلس بريزالوف نفسه الذي بدأ بمقابلتهم. وبعد أن انتهى من الاستماع إلى بعض أصحاب الحاجات، رفع عينيه ونظر إلى تشيرفياكوف الذي راح يشرح له:
"بالأمس في (الأركاديا)، لو تذكرون يا صاحب السعادة، عطستُ وبللتكم عن غير قصْدٍ، أعذرني.."
"يا للتّفاهات.. إنّ هذا لايُعقل.".. "ماذا بإمكاني فعله لك؟" قال بريزالوف موجّها كلامه إلى الزّائر التالي.
"إنه لن يتكلم!" فكّر تشيرفياكوف وقد أخذ وجهه بالشحوب."... "معنى هذا أنّه غاضب.. كلاّ، لا يمكن أن أدع الأمر هكذا ... سوف أشرح له."
وبعد أن انتهى السيد بريزالوف من حديثه مع آخر زائر، خطا تشيرفياكوف باتجاهه وتمتم: - "يا صاحب السعادة! إذا كان فيما أفعله إزعاج لسعادتكم فإنّما ذلك من واقع إحساسي بالنّدم!. لم أكن أقصد، كما أرجو أن تصدقوني سعادتكم ..."
اكتسى وجه بريزالوف بالبؤس، وقال وهو يدفع بزائره اللحوح إلى الخارج ويغلق الباب خلفه: "إنك ببساطةٍ تسخر مني يا سيدي الكريم!"
"أيّة سخرية تكمن هنا؟" فكّر تشيرفياكوف... "ليس هنا أيّة سخرية على الإطلاق... إنه موظف كبير، ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم! إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد الآن لهذا المتغطرس. سأكتبُ له رسالة ولكني لن أذهب إليه... بالتأكيد لن أذهب إليه!".
هكذا فكّر تشيرفياكوف وهو عائد إلى المنزل. ولكنه لم يكتب للسيد بريزالوف رسالة. وفكّر.. ثم فكّر.. ولم يستطع أن يدبج الرّسالة.. وكان عليه في اليوم التالي أنْ يذهب بنفسه لشرح الأمر.. ودمدم عندما رفع إليه بريزالوف عينين متسائلتين: "جرأتُ بالأمس على إزعاجكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضّلتم سعادتكم بالقول.. بل لكي أعتذر لأني عطست فبللتكم... ولكنه لم يدر بخَلَدي
أبدا أن أسخر من سعادتكم.. وهل أجسرُ أنا على هذا؟! إنني يا سيّدي.."
صرخ بريزالوف فجأةً وقد اربدّ وجهه وارتجف جسده بأكمله: "أخرج من هنا!"
"ماذا؟!" تسائل تشيرفياكوف هامسًا وهو يذوب رعبًا.
"أخرج من هنا!" ردّد بريزالوف قوله وهو يدقّ الأرض بقدمه.
شعر تشيرفياكوف بأنّ شيئًا ما في بطنه يتمزّق، وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئًا. وخرج إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل إلى منزله بصورةٍ آليّة، استلقى على الكنبة دون أن يخلع حلّته ... ومات.
الهوامش:
* كاتب روسيّ مبدع، وسيّدٌ من أسياد القصّة القصيرة، توفيّ عام 1904.
عنوان هذه القصّة بالإنجليزية: The Death of a Government Clerk.
وأُخِذت من موقع:
تغريد
اكتب تعليقك