فَرْحة ساعةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 07:03:06

حسام حسني بدار

كاتب ومترجم من الأردن

قصّة: كيت شوبان*

ترجمة: حسام حسني بدار

بالنّظر إلى معرفة ما تُعانيه السيدة مالارد من مشاكل بالقلْب، فقد استوجِب توخّي الحذر الشديد في إيصال خبر وفاة زوجها إليها للتخفيف عنها بقدر الإمكان.

أختها جوزفين هي التي تولّتْ نقْل الخبر إليها بعبارات متقطّعة، وتلميحات مبطّنة. وكان هناك أيضًا صديق زوجها ريتشارد، الذي كان يقف بالقرب منها – وهو من كان في مكتب الصحيفة التي تلقّت خبر فاجعة القطار التي تصدّر اسم برنتلي ميلارد لائحة قتلاها. وقد أخذ بعض الوقت ليتأكد بنفسه من الخبر من خلال برقيةٍ ثانية، وبعدها هرع الى هناك ليستبق ايّ صديق أقلّ حرصًا وترفّقًا في إيصال الخبر الحزين. لم يكن سماعها لما حدث مماثلاً لما سمعَته كثيرٌ من النساء في مواقف مشابهة، إذْ بقيتْ عاجزة عن استيعاب ما جرى.. ثم انفجرت بالبكاء فجأة وارتمتْ بين ذراعيّ أختها. وعندما هدأت عاصفة الحزن انسحبتْ بمفردها إلى حجرتها، وطلبت ألاّ يلحق بها أحد.

ذهبَتْ إلى مقعدها الوثير قبالة النافذة المفتوحة وغاصت فيه من شدّة الإنهاك الذي استنزف جسدها وكاد يجثم على روحها. كان بإمكانها من خلال الفناء الممتدّ أمام منزلها أنْ ترى قمم الأشجار التي تهتز وهي تستقبل الربيع الجديد، حيث تفوح رائحة المطر المنعشة في الأرجاء. في الشارع الذي يقع إلى الأسفل كان بائعٌ متجولٌ ينادي على بضاعته بصوتٍ مرتفع.. تناهى إلى أذنيها صوتٌ خافتٌ لأنغام أغنية يُرنّمُها شخص ما من بعيد، وعددٌ لا يُحصى من عصافير الدوري يغرّد على حافة الشرفة.

كانت نافذتها من جهة الغرب تُتيح لها رؤية رقع زرقاء من السماء مبعثرة هنا وهناك عبر الغيوم المتراكمة فوق بعضها البعض. رمَتْ برأسها إلى مِسند مقعدها، ساكنة دون حراك.. باستثناء شهقةٍ خافتةٍ غصّ بها حلقها وأفاقتها كطفلٍ صغير من حلمٍ جميل.

كانت السيدة ميلارد شابّة على قدْرٍ وافرٍ من الجمال الهادئ، وكانت خطوط وجهها تنمُّ عن قمْعٍ خفيّ، مع شيءٍ من القوة. لكن الآن لا يبدو في عينيها سوى نظرٍةٍ باهتةٍ تسمَّرت على إحدى تلك الرّقع الزرقاء المتناثرة في السماء. لم تكن هذه مجرّد تأملاتٍ خاطفة، بل كانت دلالةً على توقّفها عن التفكير المتّزن.

ثَمّة شيءُ ما كان في طريقه إليها، وكانت تنتظره بخشية دون أن تعلم كنهه. إنه شيءٌ غامضٌ ومراوغ تصْعب تسميته. لكنها شعرت به ينسلُّ عبر زرْقة السماء، ويتّجه نحوها عبْر الأصوات والروائح والألوان التي ملأتْ الأجواء. أخذ صدرها يعلو ويهبط باضطرابٍ واضح، وبدأت تعي ذلك الشيء الذي يقترب منها ليستحوذ على كيانها. أخذت تحاول جاهدة ًإبعاده عنها بإرادة واهنة، تمامًا كيديها البيضاوين النحيلتين. ولمّا استسلمتْ لذلك الشعور الغريب بعْد لأي – انفرجتْ شفتاها عن همْسةٍ صغيرةٍ، ثم طفِقت تكرّرها بأنفاسٍ متقطعة مرّةً تلو الأخرى: "حرّة، حرّة، حرّة!"

زال من عيْنيها ذلك التحديق الخاوي والنّظرات الوجلة، وصارتا ثاقبتين ومشرقتين. قلبها ينْبض بسرعة، والدم الدفاق يبعث الدفء والاسترخاء في كلّ جزء من جسدها. لم تتوقّف كثيرًا لتسأل نفسها إن كان ما ساورها هو شعورٌ خبيث، فقد ساعدتها نباهتها على استبْعاد هذا الظّن لسخْفه.    

لقد كانت تعرف أنّها ستنتحب من جديد حين ترى اليدين اللطيفتين الرقيقتين وقد لفّهما رداء الموت، أو حين ترى ذلك الوجه الذي لم ينظر إليها سوى بالحبّ، هامدًا وشاحبًا وميّتًا. غيرَ أنّها استشرفت وراء تلك اللحظة المريرة أعوامًا مديدةً قادمةً ستكون ملْكها، دون أدنى شكّ.  فما كان منها إلا أن فتحَت ذراعيها على اتساعهما لهذه الأعوام، ترحيبًا بها.

لن يكون هناك من ستعيش لأجله في تلك السنوات القادمة، بل ستعيش من أجل نفسها. لن يكون في حياتها أية إرادة قويّة تعْمل على كسْر إرادتها بسببٍ من منطلق الإصرار الأعمى لدى الرجال والنساء بأنّ لهم الأحقّية بأن يفرضوا إرادتهم الخاصة على من حوْلهم. وهذا الأمر بِنَظرِها (في هذه اللحظة المشرقة) جريمة، سواءً أكان ذلك بحسْن نيّةٍ أو بسوئها.

ومع ذلك، كانت تحبّه – أحيانًا..  وليس غالبًا. ولكن، ما أهمية ذلك؟! فما الذي يمكن للحبّ، ذلك اللغز المحيّر، أن يفعل في مواجهة ما تملّكها من اعتدادٍ بنفسها.. والذي بدا لها بغتةً أنه أقوى باعثٍ لوجودها. وطفَقت تتمتم: "حرةٌ! في جسدي وفي روحي!". 

كانت جوزفين تجثو على ركبتيها عند الباب المغلق ترجوها عبْر ثقْب المفتاح أن تسمح لها بالدخول. "أتوسّل إليك يا لويز أنْ تفتحي الباب، ستؤذين نفسِك وأنت على هذه الحالة.".. "ماذا تفعلين، يا لويز؟ افتحي الباب.. بالله عليك."

"انصرفي من هنا. لنْ ألحق ضررًا بنفسي."  نعم، إنها لم تكنْ تؤذي نفسها، لكنها كانت ترشف إكسير الحياة عبر تلك النافذة المشرعة.

جمحتْ بها خيالاتها وهي تتصوّر أيامها المقبلة.. أيام الربيع وأيام الصيف، وجميع الأيام ستكون لها وحدها. تمتمت بصلاةٍ سريعة على أمل أنْ تكون حياتها طويلة. في الأمس فقط كانت فكرة الحياة الطويلة تبعث قشعريرة الخوف في جسدها.

نهضت لويز أخيرًا، وفتحت الباب استجابةً لتضرّعات شقيقتها. بدا في عينيها انتصار متوقّد، ومشت دونما وعْيٍ منها باختيالٍ كأنها آلهة النصر. أمسَكَتْ خاصرة أختها ونزلتا الدّرَج سويّة، وكان ريتشارد يقف بانتظارهما في الأسفل.

شخصٌ ما كان يفتح مِزْلاج الباب الرئيسي للبيت.. إنّه برينتلي مالارد، عليه القليل من وعْثاء السفر، ويحمل بيده مظلة وحقيبة. لقد كان بعيدًا عن مكان الحادثة الرهيبة، بل ولم يعرف حتّى بأمرها. وقف مشدوهاً أمام صراخ جوزفين الحاد، وتحرُّك ريتشارد السّريع باتجاهه ليحول بينه وبين رؤية زوجته.

...عندما وصَل الأطبّاء، قالوا أنّ لويز فارقتْ الحياة جرّاء نوبةٍ قلبيّةٍ – ناجمةٍ عن فرحةٍ عارمة!!

 

* كيت شوبان (1850 - 1904): كاتبة قصص قصيرة أمريكية، من رواد الأدب الأنثوي في القرن العشرين.


عدد القراء: 1713

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-