فيكتور ديك وصائد الفئران: زَمَّار هامِلن في الأدب التشيكيالباب: مقالات الكتاب
بثينة عبدالحي محمد أبوبكر مصر |
الكتاب: "صائد الفئران"
المؤلف: ڤيكتور ديك
المترجم: بثينة أبوبكر
الناشر: دار هنّ للنشر والتوزيع- القاهرة
تاريخ النشر: 2020
قبل أن نستفيض في الحديث عن الرواية التشيكية القصيرة "صائد الفئران" التي صدرت عن دار نشر هنّ في القاهرة (عام 2020، ترجمة بثينة أبوبكر)، نتعرف أولًا على شخصية أدبية تشيكية ربما تكون مجهولة عند القارئ العربي، خاصةً أن هناك الكثير من الأدباء التشيكيين الذين لم يكن نصيبهم من الشهرة كنصيب كونديرا وتشابيك وغيرهما ممن اشتهرت أعمالهم عالميًا.
ڤيكتور ديك (1877-1931) شاعر تشيكي وقاص وكاتب مسرحي وناقد أدبي وصحفي وسياسي ومترجم، ترجم عن الفرنسية والألمانية. أَثَّرَ سقوط حكومة كازيمير باديني1 عام 1897 وما تلاه من انتفاضات في إنتاج ڤيكتور ديك الأدبي كثيرًا. أثرت فيه كذلك طفولته، كان وحيدًا ومنعزلًا عن زملاء الدراسة بسبب نشأته في أسرة ثرية. سافر إلى دول كثيرة مثل ألمانيا وفرنسا وبولندا ويوغوسلافيا وليتوانيا. وفي زيارته الأخيرة ليوغوسلافيا توفي إثر سكتة قلبية أثناء سباحته في البحر.
كتب فيكتور ديك كثيرًا من الأعمال الأدبية في الألوان الأدبية شتى. له في الشعر: ليالي الوهم (1917)، الموجة التاسعة (1930). وفي النثر: أغنية عن شجرة الصفصاف (1908مجموعة قصصية)، صائد الفئران (1915).أما في المسرح فله: الانتقام (1896، نُشرت باسم مستعار)، الرحيل (1901). ونُشرت له أيضًا أعمال في الأدب السياسي وأدب المذكرات.
نُشرت أجزاء الرواية القصيرة "صائد الفئران" تباعًا في مجلة "لومير" (1911-1912) بعنوان "حكاية حقيقية". صدرت لاحقًا، تحديدًا عام 1915، بالعنوان المُستخدم إلى يومنا هذا "صائد الفئران"، أي أنها صدرت في فترة نشاط حركة "المتمردين الأناركيين" التشيكية، وكان ڤيكتور ديك من أشهر ممثلي هذه الحركة، والتي كان أعضاؤها الأدباء والشعراء يتبنون شعار: "شعراء الحياة والتمرد".
استلهم ڤيكتور ديك فكرة الرواية من التراث السكسوني والألماني القديم. تتعرض مدينة هامِلن الألمانية لغزو الفئران، وتصبح الحياة فيها شبه مستحيلة، فيفكر كبار المدينة في حل لهذه المشكلة، لذا يستدعون صائد فئران؛ ليخلصهم من الجرذان. ينظف صائد الفئران المدينة بأنغام يعزفها بمزماره السحري، لكن أهل المدينة يخلفون عهدهم ولا يعطونه القطع الذهبية المتفق عليها، فيقرر صائد الفئران الانتقام من المدينة، ويختار الأطفال ليكونوا وسيلة انتقامه. وهناك أكثر من نسخة متداولة بين الناس عن انتقام عازف المزمار السحري أو كما يُقال "صائد الفئران" بالألمانية "der Rattenfänger" وباللغة التشيكية "Krysař". و"عازف المزمار السحري" أو "زَمَّار هامِلن" تسمية شائعة للحكاية في كثير من الدول، خاصة في اللغات التي لم تترجم الحكاية عن اللغة الألمانية، بل عن الإنجليزية. يُقال إن صائد الفئران أغوى الأطفال بعزفه واقتادهم إلى كهف وحبسهم فيه حتى الموت. وفي رواية أخرى يُقال إنه أعادهم إلى هامِلن بعد أن دفعوا له أجره المتفق عليه. وفي رواية أخرى اقتادهم إلى النهر وأغرقهم. كانت هذه الحكاية الشعبية من التراث الألماني البذرة التي بنى ڤيكتور ديك على أساسها تفاصيل روايته، مع اختلاف النهاية وكثير من التفاصيل الأخرى بالتأكيد.
يقال إن الحكاية الشعبية "صائد الفئران" لها جذور حقيقة، وهناك بعض الشواهد على هذه القصة.
في وسط المدينة الألمانية هامِلن توجد بناية قديمة، ترجع إلى العصور الوسطى، تُسمى منزل صائد الفئران (Rattenfängerhaus)، وعلى لوحة معلقة على هذه البناية مكتوب:
في السادس والعشرين من شهر يونيو/حزيران عام 1284 ميلاديًا، في عيد القديسين جون وبول، اقتاد صائد فئران ذو ملابس مبهرجة مائة وثلاثين طفلًا. وبعد أن عبروا تلال كوبينبيرج اختفوا إلى الأبد.
إحدى كنائس هامِلن القديمة مزينة بنافذة زجاجية ملونة تخليدًا لذكرى هؤلاء الأطفال. مرسوم عليها صائد الفئران وخلفه الأطفال، وأسفلها منقوش: مائة عام مضت على رحيل أطفالنا".
وفي شارع "Bungelosenstrasse" في هامِلن ممنوع حتى يومنا هذا عزف الموسيقى احترامًا لذكرى الأطفال الذين شوهدوا أحياء للمرة الأخيرة في هذا الشارع.
وربما لم يكن هناك أي صائد فئران وأن الحكاية تشير إلى أحداث تاريخية أخرى. وقت حدوث هذه المأساة كانت أوروبا تعاني من المجاعة والأمراض، ووصل الفقر بالآباء إلى شيوع عادة التخلص من أطفالهم تخفيفًا للأعباء، وهناك أكثر من قصة فيها إشارة لهذا العرف الدارج وقتها؛ نتيجة للفقر والجوع والمرض، مثل قصة "هانسِل وجريتل". أكد إيلك ليبز، أستاذ الأدب الألماني بجامعة بوتسدام، الفكرة السابقة في دراسة بقوله: "كثير من سجلات العصور الوسطى توضح أن الآباء كانوا يرسلون أبناءهم بعيدًا، كما هو الحال في حكاية هانسِل وجريتل. كل هذه القصص تخفي خلفية حقيقية، وهي أن الآباء كانوا سعداء بالتخلص من أطفالهم". وهناك باحثون يعتقدون أن هؤلاء الأطفال كانوا مرضى بالطاعون، فقررت المدينة طردهم تجنبًا للعدوى. وهناك باحثون آخرون يعتقدون أنهم كانوا جزءًا من حملة الأطفال الصليبية (سنة 1212). هناك عديد من النظريات عن خروج هؤلاء الأطفال؛ هناك نظرية تقول إن صائد الفئران هذا كان مجرمًا ذا ميول غلمانية، استغل عمله كمهرج وعازف لغواية الأطفال، وهناك نظرية تقول إن هؤلاء الأطفال كانوا يتامى وأطفال غير شرعيين وسعت المدينة لبيعهم عبيدًا وجواري للدولة العثمانية، ونظرية أخرى تدعم الرأي القائل: إنها كانت عملية اختطاف جماعية لأطفال مدينة هامِلن المسيحية واستخدامهم تضحية بشرية للآلهة (مثل طقوس باجان Pagan) حيث كانت بقايا الوثنية وقتها عالقة في أوروبا، والنظرية الأكثر شيوعًا تربط بين حكاية صائد الفئران وهجرة الشباب والأطفال من هامِلن برغبتهم بحثًا عن أرض وحياة جديدة.
كانت هذه الحكاية مصدر إلهام للفن والأدب في كثير من الدول: ألهمت في ألمانيا الأخوين جريم، وألهمت الشاعر الإنجليزي روبرت براونينج عام 1842 لكتابة قصيدته "The Pied Piper of Hamelin"، وفي التشيك ألهمت ڤيكتور ديك لكتابة روايته القصيرة "صائد الفئران" عام 1911، ثم ألهمت صناع السينما التشيكية لصناعة فيلم بالعنوان نفسه عام 1985، وتأثر بالرواية أيضًا المؤلف الموسيقي دانييل لاندا وكتب مسرحية موسيقية ولحنها بالعنوان نفسه عام 1996، ووالت ديزني أنتج أيضًا فيلم رسوم متحركة بعنوان "The Pied Piper" عام 1933.
الهوامش:
1 - قام كازيمير باديني (رئيس حكومة سيسليثانيا) بالعديد من الإصلاحات، وأهمها المناداة بتعديل لائحة استخدام اللغة التشيكية، حيث نادى بالمساواة بين اللغتين، التشيكية والألمانية، في استخدامهما في الإدارة الداخلية والخارجية.
تغريد
اكتب تعليقك