مجلة فكر الثقافية في بَيت (تولستوي).. صاحب «الحرب والسَّلام»الباب: مقالات الكتاب
محمد ياسر منصور موسكو |
ياسنايا ـ بوليانا Yasnaya Polyanaa... لمن يُريد لقاء روسيا القديمة، تلك التي عَرَفت اضطرابات 1917 .. روسيا الموجيك (الفلاَّحين الروس) وكبار المُلكيَّات الضائعة وَسط خَشب السَّنْدَر، والمفرطة في كِبَرها مثلما في جَمالها وروعتها... ذاكَ هو المكان الذي ينبغي قَصده، حيث هناك في تلك الضيعة الصغيرة "ياسنايا بوليانا" الواقعة على بُعد (200) كم جنوب موسكو، بالقرب من مدينة (تولا) (Toula)، والتي تمتلكها عائلته الأرستقراطية وُلِدَ "ليون نيكوليفيتش تولستوي" Leon NikolaieviTch Tolstoi سنة 1828، وأمضى فيها أكبر فترة من حياته.. سنوات طويلة من السعادة والعمل.. "حرب وسلام" Guerre et Paix و"آنا كارنين" Anna Karenine - قمّة إبداعاته الروائية - كَتَبهما هناك. سنوات عائلية في السرَّاء والضرَّاء، رِفقة زوجته "صوفي" Sophie وجُملة أطفالهما.. من ذلك الحين لم يطرأ أي تغيير على المكان (القصر المنيف الفاخر) الواقع جنوب موسكو، بالقرب من "تولا" Toula.. مُحتَفِظًا بِهندسته الأولى. وقد أصبح الآن متحفًا ومَزارًا لكل من يريد أن يتعرَّف على تولستوي وعلى حياته الطويلة الحافلة.. ولكل من يريد أن يعيش لحظات قُدَّت من الماضي.. شهادات رائعة.. حيث نستطيع مشاهدة مجموعة مُنتَخَبة من الصور المأخوذة من طَرَف "صوفي" لتولستوي شخصيًا.. صور للعبقري في حياته اليومية.. صور لكل الأيام. وللزمن الذَّاهِب المنقضي...
إننا لا نستطيع المقاومة أمام مَنظر هذا المَمَرّ المُحاط بأشجار رائعة الجَمال. هكذا يكون الدخول إلى مجال "ياسنايا ـ بوليانا" Yasnaya Polyana. هذه الزاوية من الأرض الروسية، الواقعة على بُعد مائتي كيلومتر جنوب موسكو، بالقرب من مدينة "تولا" Toula شَهِدَت ميلاد "ليون تولستوي" Leon Tolstoi سنة 1828، وفيها أمضى عمليًّا كل حياته.. ثمَّة يرقد الآن مَلفوفًا بِفرجة غابة تحت رَبوة مُعشَوشِبة. إن العادة الشائعة منذ زمن قريب، هي أن يقوم الأزواج الجُدد في المنطقةـ بعد أن يضعوا الزهور عند أقدام تمثال "لينين"، ثم أمام الصَّرح التذكاري لِحُماة مدينة "تولا" في الحرب العالمية الثانية - بالتجمُّع فوق قبر تولستوي.. نَاثرين عليه الزهور بِدَوره. إذـ في الوقت الحاضر - أضحت تلك الأرض المَلَكيِّة الواسعة، والتي هي في الأصل مُلْك عائلة الأمراء الفولكونسكيين Volkonski، وهي العائلة التي تنحدر منها أُمّ تولستوي، أضحت عبارة عن متحف مُهيَّأ ومحفوظ بعناية، وهو يحمل اسم "ياسنايا ـ بوليانا" Yasnaya Polyana والذي نستطيع ترجمته عن الروسية بـ "فُرجة الغابة المضيئة" Clairiere Lumineuse.
إن الروضة التي تمتد حتى تصل إلى جَدْوَل موسوش، هي سلسلة متوالية من الأخشاب الصغيرة المفصولة عن بعضها بأحواض صغيرة. على الجوانب تتشابك وتنتظم - في بعض الأحيان - أشجار السَّنْدَر "Bouleaux"، والزَّان، والمغث "Aulne"، والصنوبر الأسود الفارع. نُزهة طويلة والتي على مدى فترة الزيارة، تُعَدّ رحلة ممتعة إلى الزمن الماضي حيث ترك هذا الأخيرـ آثاره وبصماته في كل مكان. إن الممرَّات الكبيرة تقود إلى قَلب المَقْصَد: المنزل، حيث عاش ليون تولستوي، وحيث لم يبق من ذكريات ميلاده سوى حجر تذكاري.
كان تولستوي الولد الخامس لأسرة أرستقراطية ألمانية الأصل هاجرت إلى روسيا في عهد القيصر بطرس الأكبر. تُوفي والداه الكونت "نيكولاي تولستوي" والأميرة "ماري" وهو طفل صغير، فَتولَّت خالاته تربيته حيث تلقَّى تعليمه الأوَّلي على يد مدرِّسين خصوصيين أجانب.. وقضى - على حَدّ قَوله - "طفولة رقيقة وادعة شاعرية غامضة مليئة بالحب". ثم تَلقَّى دروسه الابتدائية والثانوية في مدينة موسكو حتى عام 1846، وانتسب الى كلية اللغات الشرقية بجامعة (كازان) Kazan عام 1843، وفي عام 1851 تطوَّع في الجيش الروسي، العامل في منطقة القوقاز واشترك في حرب القرم، في الفترة ما بين عامي 1853 و1856، واشترك في الدفاع عن مدينة "سيباستبول" Sepastopol، وهناك كتب قصص (الطفولة) و(المراهقة) و(الشباب) و(قطع الغابة).
يتيم وأَصغر إخوته الخمسة. لقد وَرِثَه (المنزل) باعتباره آخر العنقود في الأسرة، وقد كان هذا من عادات العائلات الأرستقراطية الروسية. وبعد تقاعده من الخدمة العسكرية في عام 1854، سافر تولستوي في عدة رحلات إلى غرب أوروبا، عَكف فيها على تعلُّم أساليب التدريس وطرق التربية. ثم عاد إلى قريته "ياسنايا بوليانا" ليستقر فيها كسيِّد وَقور يرعى شؤون أرضه وفلاَّحيه، بعد أن نال حصَّته من ميراث أبيه (3000 فدَّان، 300 فلاَّح على الأرض، وقدر لا بأس به من الدَّواب والماشية). وقَبِلَ تولستوي منصبًا قضائيًا أُنشئ بمقتضى قانون تحرير الرقيق، وافتتح مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين، كما أَصدر مجلة تربوية أسماها باسم مسقط رأسه "ياسنايا بوليانا" لشرح أفكاره التربوية بين الناس، وعاش مع الفلاحين حياة البساطة والتقشُّف. وكان يأمل في حياة عائلية هادئة يسودها الاستقرار والسعادة.. مُفكرًا حتى في الزواج بواحدة من بنات القرية الجميلات.. ولِمَ لا اِبنَةُ موجيك (الفلاَّح الروسي).
في 7 سبتمبر 1862 كتب إلى عَمَّته: "لقد حدث لي أمر مُؤلم أو سعيد.. إنِّي عاشِق". وكانت المُختارَة هي صوفي بيرس "صونيا".. فتاة شابَّة في الثامنة عشر من العمر والتي يعمل أبوها طبيبًا في القصر المَلَكي بموسكو.
التقى تولستوي "صونيا".. صونيا بجمالها الرائع الساحر.. فَنسيَ كل شيء، واستولت عليه رغبة جامحة في الزواج منها. وفي يوم جميل من أيام الصيف زارَت عائلة "بيرس" Bers وأطفالها الأربعة "ياسنايا ـ بوليانا"، ولأوَّل مرَّة يقع نَظَر "صونيا" على المنزل الأبيض، الذي صار منزلها بعد ذلك لأكثر من خمسين سنة. كان مدخله الإغريقي، وشُرفته المُغطَّاة تعترش بها نَبتة "الستارية" La glycine. هذا المنزل كان على الأرجح مثلما نستطيع مُشاهدته اليوم، وكأنه ينتمي إلى عصر أو زمن آخر، فَترتيب الغرف والأثاث والصور الفوتوغرافية، كل ذلك، أُعيد تشكيله على الهيئة التي كان عليها عند وَفاة ليون تولستوي.
فوق درجات السلَّم يتواصل الماضي بالحاضر، حيث نجد ساعة حائطية إنجليزية تعود إلى القرن الثامن عشر. في الغُرَف السفليِّة نزور "الغرفة تحت القُبّة". هنا كُتِبَت رواية "الحرب والسلام" Guerre et Paix عام 1863، في خمسة آلاف ورقة مخطوطة، استغرقت سبع سنوات من العمل. وكانت صونيا في صالون صغير بالطابق الأول تُعيد نسخ الصفحات المَطليَّة بالتصحيحات والتدوينات التي لا حصر لها. وفيما بعد خَصَّص ليون تولستوي غرفة مجاورة مكانًا للعمل. نُضيء الغرفة فنجد نافذة كبيرة على الطراز الإيطالي تطلّ على شُرفة فوق المكتب، حيث كان يكتب بين الحين والآخر روايته "آنا كارنين" Anna Karenine في عام 1877، ثم نجد بعض الأشياء التذكارية داخل لوح زجاجي مَنحوت، وثَقَّالة ورق كبيرة مُرسَلَة من طَرَف عمَّال "دياتكوف" Diatkov كَعلامة تضامن عندما كان في نِزاع مع القيصر والكنيسة الأرثوذكسية، ونستطيع أن نَقرأ بها: "الروسيُّون سيكونون دائِمي الافتخار، مُعتَبِرين فيكم الشَّخص الغالي عليهم والعظيم المحبوب".
على الأريكة الواسعة المصنوعة من الجلد، وضعتهُ أُمه بهذا العالم.. صونيا ـ بدورهاـ أَنجبت له أطفاله على نَفْس الأريكة، وكانوا في المجموع ثلاثة عشر طفلاً، بقي ثمانية منهم حتى سنّ الرُّشد، وكانوا وهم صغارًا يلجؤون إليه وهو على هذه الأريكة غَارِقًا في مطالعة القصص الرائعة. وفي الفترات السعيدة كان هذا المنزل يضجّ بِصَوت الذَّاهبين والآتين من الأصدقاء، والخدم، والزائرين، والأطفال. في الخارج توجد الكلاب والأَحصنة المُحبَّبة إليه. عند حلول الخريف كان يصطاد الأرانب بواسطة السلوقيَّات على طول سبع أو ثمان ساعات من التسابق، والمنطقة أفضل مدرسة للفروسية.
في الشتاء رياضيُّوا التزلُّج يستعدُّون ويتهيَّأون للقيام بسباقات مَرِحة والتزحلق على الثلج. عند المساء تجتمع العائلة في "الغرفة الكبيرة"، حيث يتم استقبال الزوَّار، الذين هُم في الغَالِب من الضيوف ذَوي الهَيبة والنُّفوذ.
فيما يتعلَّق بالموسيقى، فهي تستأثر بمكانة هامة عند العائلة، وقد كانت صونيا تستضيف فتى شاب من "كونسرفاتوار موسكو" كي يُعطي دروسًا لأطفالها. بعد وجبة الغذاء يُرجى منه أن يتقدَّم إلى البيانوـ البيانو الكبير ذِي الذَّيل البارزـ والذي ما زالَ يقبع في مكانه، وهناك يقوم بِعَزف "سوناتا لي كروتسر"، وهي قطعة موسيقية مُثيرة، والتي بشكل ما ستطبع بعد ذلك عند تولستوي جَوّ انهيار حياته الزوجية المشتركة.
وبَدأَت السُّنون القاتمة بالنسبة للزوجين. أَمَّا هوَ فقد وَجدَ مَلاذه في العمل، بحيث لم تتوقَّف شُهرته عن التوسُّع مع مرور السِّنين، وذلك عن طريق أعماله الإبداعية وتَمسُّكه بالمواقف الإنسانية التي لا تُعجِب دائمًا سياسة القَياصرة.
هكذا هو الرجل المثقَّف، وبِهَدف التكفير عن خَطيئته كأرستقراطي أرادَ تَثمين العمل اليدوي وإعطائه قيمة. لقد أَخَذ من ثمَّة يحصد ويحرث المَزارِع بصحبة الموجيك (الفلاَّحين الروس)، ويُقال حتى أن الدرابزين الأنيق لِلشُّرفة هو من صَميم عمله اليَدوي.
إبَّان هذه الفترة كانت صونيا تَكدّ باستماتة في عملها من أجل قيادة الأُسرة المهمَّة، ورعاية الأرض المَلَكية، والإجابة على العدد الضخم من الرسائل.
في "مكتب السكرتيرات" يتصدَّر المجلس "آلة كاتبة" وهي مُعجزة العَصر إِبَّان تلك المرحلة، وتُعَدّ من المخلَّفات القديمة في الوقت الحاضر، وبِها كانت تُكتَب المقالات الممنوعة من طَرَف الرقابة القَيصرية. عَمَّا قَريب يختار الزوجان، كل واحد منهما، غُرفَته الخاصة، وفي تلك المُخصَّصة للزوجة الكونتيسة بَكَت فيها كثيرًا على زوجها الذي عادَ لا يُعطي انتباهه للمال، وكيفَ سَيؤُول مصير أطفاله؟.. لقد أَصرَّ "تولستوي" على كَنْس غرفته بنفسه وإفراغ الفَضلات أيضًا، زيادةً على ذلك، وعِوَضًا عن مواصلة كتابته للروايات التي تعود عليه بالكثير من الروبلات، أَخذَ يعمل في كتابة المنشورات والمقالات الهجائية الأكثر خُطورة مُخفِيًا في ذلك الوقت مُذكَّراته اليومية الخاصة. وبالرغم من ذلك يوجد في هذه الغرفة شيء جَلَب لصونيا أُلهِيَة كبيرة تُبعِدها عن أفكارها السوداء، وهي عبارة عن آلة تصوير شمسي رائعة. فعندما كانت تبلغ من العمر سِتَّ عشرة سنة في عام 1860 كان أحد أصدقاء أبيها واسمه "كوكولي" Kukuli قد عَلَّمها مبادئ هذا الفنّ المَولود حديثًا في ذلك الحين، والذي تمَّ إدماجه ليتكيَّف مع الحياة. وقد كانت صوفي مُنشَغِلة جدًا في العشرين سنة الأولى من حياتها الزوجية. ارتبطت بهذا الفنّ في الحين الذي كان المنزل يفرغ شيئًا فشيئًا من الأولاد الأَبكار (جمع بكر).
ها هِيَ جُدران غُرفتها مُغطَّاة بالصور التي تُبرِز الحياة اليومية لـ"ياسنايا - بوليانا"، وصُوَر الأولاد، وصُوَرها أيضًا ضمن مجموعات عائلية حيث مالَت بنفسها بعد أن استوضحت اللقطة جيدًا، مع حِساب زَمن العَرض، وفي تلك الأثناء تضغط يَد لَيِّنَة على زِرّ التصوير. إنه لَمِنَ المُدهِش حقًّا رؤية ليون تولستوي في صُوَر، وهو الرجل البالغ السبعينيَّات من العُمر، على المَزالِج أو فوق درَّاجة، أو يلعب بالتنس، ولا سيَّما وهو على جَواده الأسود "ديلير" Delire العظيم، فارِس ومُرَوِّض رائع. لكن عمَّا قريب يدخل المنزل مُصوِّر هاوي آخر فلاديمير تشيرتكوف"Vladimir Tchertkov وهو ابن عائلة غنيِّة جدًا ومثقَّفة، وقد وَجد في أفكار تولستوي أجوبة على استفهاماته الروحية، والذي شيئًا فَشيئًا صار مُريده، ومُترجمه، ونَاشره، وحارس أعماله الإبداعية، وهذا ما أَثار عند صونيا غِيرَة كبيرة. وبالفِعل، فَهُروبًا من صونيا، بِهَدف إعداد وَصيَّة حيث يمنح المؤلِّف فيها مُوافقته على النشر المجَّاني لأعماله الإبداعية، تشيرتكوف وتولستوي يتواعدان على اللقاء في الغابة. تولستوي بِتَمكُّنه من الركوب على "ديلير"ـ رَغم اقترابه الرابعة والثمانين من العمرـ تَرَك لنفسه العنان في القيام بنزهات طويلة على الجَواد المذكور، مَصحوبًا في بعض الأحيان بـ "ساشا" Sacha ابنته المقرَّبة إليه وخافِيَة أسراره. ولكن كثيرًا ما يأخذ النِّزاع بينهما مَأخَذه.
نستطيع أن نفترض مُقدَّمًا، عندما نَدلُف داخل غرفة تولستوي وأَمام فَاقَتِه وإملاقه، أنه جاء إلى تلك الغرفة بَحثًا عن "الرَّفض" بالنَّظَر إلى روحه المَكلومة، وهو القائل: "حين يكون آلاف البَشَر مُعرَّضين للجوع، لِلبَرد، للاحتقار، ما الذي بإمكاننا القيام به؟". إن هيئة الغرفة تُوحي بالرهبانيَّة. من النافذة نرى بستان الزهور، والتموُّج الشفَّاف لِلرِّيف.. لِباسه المعتاد مُعلَّقاً على الجدار، وهو رداء الموجيك الذي كثيرًا ما أُخذت له صُوَرًا به. هناك ثَقَّالات أيضًا مخصَّصة للرياضة، وقَصبة صَيْد.. رفيقته الحَميمة إبَّان نزهاته على القَدَمين. على الطاولة بجانب السرير شَمعدان، جَرَس، قارورة دواء.. أشياؤه اليومية المتواضعة. بالقرب من سريره الجلدي الضيِّق أَريكة كثيرًا ما ظلَّ جالسًا عليها لمدة ساعات، وآثار الضَّعف والوَهن تزداد حِدَّة.. كل ذلك وهو مُستسلِم لأفكاره المتداعية، أفكار قادَتهُ في إحدى الأُمسيات - عَشيَّة العشرين من أكتوبر 1910ـ للهروب. فَحينَ كانت العائلة مجتمعة أراد أن يطرح فكرة الانفصال التي رَفَضَتها "صونيا"، رَغم أنها خَلاصيَّة لِكلا الزوجين العجوزين. حينها وَجَد أن الهروب هو مُنقِذَه الوحيد. كان قد بلغَ الثانية والثمانين من عمره. ولم يعد يحتمل الشَّقاء الذي هو فيه. وكان ناقِمًا على ضَعفه وجُبنه. وقضى بقية يومه على كرسيه في الحديقة، وكان يدَّعي أنه بِصَدد كتابة رواية جديدة، ولكنه في واقع الأمر كان يكتب مسوَّدة الرسالة التي سيتركها لزوجته قبل أن يُنفِّذ قراره بمغادرة (ياسنايا بوليانا). وحين عاد إلى مكتبه في المساء، جلس يخطّ الرسالة التي زَعَم أنها رواية جديدة. وكَتَب: "حبيبتي صونيا. أعلم أنك ستتألمين كثيرًا لرحيلي، وإنه لَيُحزنني ذلك أشدّ الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تُدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سِواه لِتَلافي مأساة قد تكون مُفجعة. لقد غَدا وَضعي في هذا البيت غير مُحتَمَل يا صوفي. لم أَعد قادرًا على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تُحيط بي، وباتَ الثَّراء يخنقني! وقد طالَ صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصَّبر. يَقيني شَرّ اليأس من عَالَمٍ تَشهَّيته كثيرًا، كما يتشهَّاه كل عجوز بَلغَ السِّن التي بَلَغت! وما أنشده هو عالَمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثَّراء، ووحشية الرغبة في التملُّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام". وممَّا كَتَبه أيضًا: "أرجوك يا صونيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى ياسنايا بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحدًا شيئًا، بل سيزيد تعاستنا جميعًا، كما أنه لن يُغيِّر من عَزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر عل الثمانية والأربعين عامًا من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدتني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقّك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين! وأنصحك ياحبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سَماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي! وألاَّ تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردتِ أن تعرفي شيئًا عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلاَّ بعد أن أصل إليه، فستجدين بُغيتك عند ابنتنا العزيزة (ساشا) Sacha، فهي وحدها التي سأخصُّها بِذِكر مكان حياتي الجديدة، وقد وَعَدَتني بألاَّ تذكر لكِ أو لسواكِ مكاني". ووضع الرسالة مطوية فوق مكتبه ليعطيها لساشا قبل رحيله، ثم ذهب إلى مَخدعه، ونامَ نومًا متقطعًا، إلى أن حانَت ساعة الرحيل لتبدأ محنة الكاتب العظيم ليون تولستوي!. قال لطبيبه الخاص: "دكتور ماكوفتسكي لن نحمل معنا أشياء لا ضرورة لها". لكن طبيبه وصديقه يقول له: هل فكرتَ ياليون جيِّدًا في العواقب المترتبة على هذه الرحلة؟! أعني صحتك! أنت لم تعد ذلك الرجل الذي كان يقضي الساعات في قطع الأخشاب في الغابة؟! وإنك مُعرَّض لنوبات قلبية قد تصل إلى حدّ الخطورة؟!. بعد أن استمع تولستوي لصديقه وطبيبه قال وكأنه لم يسمع جديدًا: حَسَنًا، لِنستعدّ في غضون نصف ساعة! ساشا أَعدَّت كل شيء، وسوف أرتدي ثيابي ونرحل في هدوء. اقتربَ من غرفة ابنته، التي كانت في انتظاره وكان واضحًا، أنها لم تنم ليلتها تلك حيث بَدَت إمارات الإرهاق على ملامحها. وما إن اقتربَ منها حتى بادَرَته بالقول: "أَبَتي.. ألا زلتَ مُصرًّا عل ضرورة ما أنتَ مُقدِم عليه؟!". ساشا.. لن نناقش هذا من جديد، يجب أن نُسرِع قبل أن تشعر أُمك بما يحدث، تعالي ساعديني في حَزم الأمتعة. حاولَ طبيبه، ثانيةً، أن يُثنيه عن عَزمه، لكنه عادَ ورافَقه، وكذلك ابنته "ساشا" Sacha.. إلى أي مكان؟.. إلى أَبعد ما يُمكن الوصول إليه.. حيث الصَّفاء الروحي، والعَيش في البَساطة المتناهية. غادَروا المنزل في الثالثة صباحًا. كان عليهم الانتظار ساعتين على رصيف محطة القطار المعرَّض لتيارات الريح الشديدة. وكان تولستوي على مَوعد مع قطار الموت. فانطفأ مصباح حياته في غرفة آمر محطة السكة الحديدية الصغيرة لـ"داستابوفو" Dastapovo، على الخط الحديدي المتَّجه إلى القفقاس، في 7 نوفمبر 1910.. قبل أن يشهد سقوط النظام السياسي الذي كان يكرهه، مع شعوره بأن روسيا على شَفة اضطراب عظيم.
تُوفيت "صونيا" بـ "ياسنايا ـ بوليانا سنة 1919، حيث رَعَتها الحكومة بتخصيصها نَفقة مَعاش لها. في عام 1921 تحوَّل المنزل إلى متحف وملكية للدولة. أثناء الحرب أُفرِغَ (المنزل) من أثاثه ومُرفقاته، فقد استُغِلَّ من طَرَف الجيش الألماني، ثم رُمِّمَ واستعادته الدولة ثانيةً، وصارَ يستقبل كل عام آلاف الزوَّار والسيَّاح.
قَبلَ مغادرة ذلك المكان.. بيت تولستوي.. قُمنا ببضعة خُطوات على الطريق الذي يقع على طول "ياسنايا ـ بوليانا".. القرية التي تُشكِّل جزءًا من الأرض المَلَكية التي ما تزال قائمة دائمًا. الشمس تُرسل آخر أشعَّتها على المساكن الفلاَّحية الخَشبية المتراصفة والمُتَخفِّية في احتشام خَلفَ السِّياج القائم على شجر "المشمش" Groseille. إنها منازل صغيرة جدًا مصبوغة في عناية وبألوان تَشَرَّبها الخشب المصنوعة منه وانعكسَ عليها حَلاوةً ولُطف. أمام الأبواب أطفال يلعبون ويمرحون، هؤلاء الفلاحون الموجيك الآكلون لحبوب عبَّاد الشمس (الزهرة المعروفة) والتي كان تولستوي يُحبُّها جدًا.
المُحادَثة خَجولة، تبدأ مع عابري السَّبيل مِثلنا. "الحياة ليست سهلة الآن.. نحنُ لِحُسن الحظّ لا نحتاج إلى شيء.. وعلى كل حال ستُشاهِدون ذلك بِأَنفسكم".
تنهض العجوز التي كانت تجلس على مَقعد، ثم تَغيب لتعود حامِلَةً بين يَديها مشروبات وتفاح أخضر اللون صغير. "استمتِعوا. لَدينا أشياء لذيذة هنا". وكأنَّ الأرض رغمَ آلام الماضي ومَخاوِف المستقبل، تلك الطيِّبة والغالية جدًا على قلوبهم، تنقل إليهم رسالةً وَدُودَةً مُطَمئِنَة. ومن بَعيد نَظَرتُ إلى الوراء.. حيث الطبيعة الجميلة الساحرة.. وأَلقيتُ نَظرة الوداع الأخيرة على بيت تولستوي.. أَحد أعظم عمالقة الروائيين الرُّوس، وأبرز أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.. ولَوَّحتُ بيدي تحية الشكر والامتنان للموظفين المشرفين عليه ولعناصر الأمن المكلَّفين توفير الأمن والأمان والسَّلامة.
تغريد
اكتب تعليقك