الميميتيك «Mémétique» .. هل هي نظرية تطوّر.. الأفكار؟الباب: مقالات الكتاب
محمد ياسر منصور موسكو |
هل تنتشر الأفكار والتصرفات كالفيروسات؟.. وهل تعبِّر عن نفسها بمحض المصادفة؟. وقد استوحيَ عِلم الأوبئة والفيزياء والرياضيات من بعض النماذج لشرح كيفية تطور الأفكار والثقافات. ومن دون نجاح حقيقي، وبالاغتراف من علم الوراثة والبيولوجيا التطورية، انطلق بعض الباحثين اليوم نحو مضمار جديد، مستوحى من العالم داروين.
هل نقرِّر فعلاً ما نفكِّر فيه؟.. كيف تتأصَّل الأفكار التي تمر في رؤوسنا وتخطر على بالنا؟.. لماذا تنتشر بعض السلوكيات والتصرفات أكثر من غيرها؟. إنها أسئلة عريضة، ولا سيَّما أنها تمسّ أساس الثقافة. والواقع، إذا كان العلم يحاول منذ زمن طويل تقديم الإجابات، فإن بعض الباحثين افترضوا أنه على غرار المورثات، تقوم الأفكار والتصرفات بإجراء طفرات، ثم تنتشر وتدخل في منافسة مع مثيلاتها الأخريات، والمنتصرة وحدها التي تستقر نهائياً في أدمغتنا.
والمعروف أنها تدافع عن رؤية تطورية للثقافة. رؤية كانت نظرية تحت اسم "ميميتيك = Mémétique". وهي تُشكِّل بِغَرابة القليل من حالات القرارات الفردية ـ كتفضيل الشاي على القهوة، وانتقاء كتاب من بين تشكيلة كتب...ـ لكن بالنسبة لعلماء الرياضيات، فهم يرون أن الأفكار والمعارف والتصرفات يجب أن يُنظر إليها على أنها كيانات مستقلة، ولا علاقة لها بِنيَّات من ينقلونها أو ينشرونها. ودفعة واحدة لا يرون أي فرق بين إيديولوجيات إماتة الجَسَد بِكَبْح شهواته والميول الموسيقية المسكِّنة. فذلك يعني أفعالاً ثقافية تنتشر في جسم المرء على نحو واحد، ولهذا يمكن دراستها بطريقة واحدة.
كيف يحدث ذلك ماديًا وبشكل ملموس؟. إن مثال تكتونيك هو أبلغ مثال على ذلك. فهذه الصرعة الموسيقية والتي امتدت إلى الثياب وتسريحة الشَّعر يمكن أن نستخدمها للبرهنة على موضوعنا. ففي البداية، لم تكن تلك الصرعة تتعدى مفهوم سهرة في إحدى علب الليل قوامها موسيقى إلكترونية منخفضة؛ لكنها ازدهرت خلال بضعة أشهر وامتدت إلى الملابس؛ وأصبحت تكتونيك اليوم الموضة المهيمنة لدى المراهقين، عن طريق سراويل "سليم" وقصَّات الشَّعر الأخرى التي تشبه القنفذ. ولم تتوقف الظاهرة عند هذا. فقد امتدت الابتكارات وتطورت لتشمل تكتونيك الغذاء وأنواعه وأشياء أخرى قادمة، في حين أن الصناعة ـ صناعة الألبسة، والهواتف ومحال رقص الديسك.. ـ جَنَت من الاتجار بها الأموال الكثيرة، وما زالت الدعاية تكسب من ورائها الكثير بسرعة.
استنادًا إلى هذا المثال، نقول إن أتباع الميميتيك يُركِّزون على ثلاثة خصائص أو ميِّزات لدى التصرفات البشرية، وهي أساسية في نظرهم وهي: إعادة الإنتاج، الانتشار، التطوير. وهي ثلاث ميِّزات تذكِّرنا مباشرةً بِـ ... البيولوجيا. لذا، يرى أتباع الميميتيك أن الشكل الذي انتشرت من خلاله التصرفات والأفكار بين المجموعات البشرية يوحي بآلية حيَّة، أي مستقلَّة. فلماذا أحرزت الميميتيك هذا النجاح؟. بل أيضًا، ما الذي يدفع الناس إلى ملاعب كرة القدم؟ أو أيضًا، لِمَ يتداول الناس النّكات اللغوية والفكاهات التي يُركِّز فيها الجميع أحيانًا على كلمة معيَّنة ولو استُعمِلَت في غير معناها، وهذا لم يكن الحال منذ عشر سنوات مثلاً؟. الأمر بسيط: فجميع هذه الظواهر المتباينة يجمع بينها شيء مشترك عند نقلها وانتشارها... دون أن ندري. أفكار وموضات وأدوات ومعتقدات.. تنتقل جميعًا كانتقال الصِّفات الفيزيولوجية لدى الأجناس الحيَّة التي تنقل خصوبتها وطول عمرها المتعلق بما تسديه من فضل للكائنات الحية وهذا ما أعلنه داروين. فالثقافة تتطور تبعًا لمعايير التكيف الاجتماعي، كالصفات الفيزيولوجية التي تتطور تبعًا لمعايير التكيُّف مع الوسط الطبيعي. والأفضل من ذلك، أنها قد تؤثِّر في المقابل في التكوين البيولوجي للكائنات الحيَّة المتمتعة بالثقافة.
باسكال جوكستل، رئيس الجمعية الفرنكفونية للميميتيك، مقتنع بذلك. فهذا المهندس السابق (المختص بالميكانيك) والذي أصبح مستشارًا متخصصًا في التصرفات والمشاريع يقول: "التطور الوراثي الطبيعي للإنسان قد انتهى! ومنذ آلاف السنين، كانت الثقافة هي التي تفرض قانونها. وجميع عوامل الاصطفاء الطبيعي للمورِّثات البشرية، واختيار الشريك للأعزب مرورًا بعدد الأولاد ومنع الحمل بوسائط صناعية، كلها أمور خاضعة لتأثير الرموز الثقافية".
مثال اللاَّكتوز:
ثمَّة قناعة نبعت من منعطف السبعينيات. ذلك أن لوكا كافاليـسفورزا، وهو عالم وراثة بشرية شهير، وكان يُدرِّس آنذاك لطلابه في جامعة ستانفورد أن الثقافة تُفسِّر التكاثر المرتفع للمورثات المسؤولة عن هضم اللاكتوز (سكر اللبن أو الحليب) لدى السكان الذين يُربُّون الأبقار منذ ابتكار الإنسان للزراعة. ويرى أن سبب هذا إدخال الحليب في العادات الغذائية بعد عملهم في الأرض والزراعة بعد ولادتهم، الأمر الذي يضغط على المورِّثات، ولا سيما المورثات لدى الأوروبيين في الشمال، الذين لدى 90% منهم اليوم الطفرة الوراثية التي تجعلهم يتحملون اللاكتوز بسهولة. غَير أنه في العام 2007، أراد باحثون في جامعة كوليج لندن التحقق من أن صناعة الألبان التي بدأت منذ نحو 9000 سنة، كانت قد سبقت ظهور المورثة المتحولة التي تتيح تحمل اللاكتوز. ولهذا السبب قاموا بدراسة الحمض النووي المنزوع الأكسجين (ADN) في الهياكل العظمية لسكان شمالي أوروبا والتي تبلغ أعمارها نحو 6000 سنة. فَثَبَتَ لهم بشكل جازِم: أن الطفرة الوراثية لم تكن موجودة. وهذا كما يبدو مُحافَظة على التسلسل الذَّاتي. كافالي ـ سفورزا، هو أيضًا مختص في اللسانيات، ولاحَظَ أيضًا أن الامتزاج الوراثي بين السكان الذين يتحدثون لغات مختلفة أقل وضوحًا عن مَثيله بين سكان يتكلمون اللغة نفسها. والبُرهان مجدداً أن الثقافة تُؤثِّر في البيولوجيا البشرية.
هذه الملاحظات ستوحي لعالم البيولوجيا وعالم الأنساب البريطاني ريتشارد داوكنز. فقد رأى أن الأفكار والتصرفات (السلوكيات) قد تنتشر بصورة مستقلة في المجتمعات مُستخدمةً البشر كوسائط للانتشار. وتَصوَّر رافدًا معلوماتيًا قادرًا، على صورة المورِّثة، على الرَّد وعلى إحداث طَفرة: "و"الذَّات" قد تُشِّكل كيانًا يؤدِّي إلى التكيُّف ـ أو إلى عدم التكيُّف ـ لدى حاملها مع بيئة (محيط) ثقافية خاصة وينتقل هذا الكَيَان من "دماغ إلى دماغ". وإذا كان داوكنز اختار لفظة "الذَّات = Meme فهذا تلميح لِسانيَّاتي لِلمورِّثة ولِلَفظها بالفرنسية البالغ التعبير...
نعم! إنها لَفظة معبِّرة، لكن هل يمكن لكلمة أن تُشكِّل عِلمًا؟.
كلاَّ بالتأكيد. لأنه إذا كانت الميميتيك قد ولدت على يد داوكينز، فهي لا تعدو سوى فَرَضيَّة لأن عالم البيولوجيا لم يعتمدها إلاَّ من قَبيل التماثل والتشابه. فَما هو حُكمنا على ذلك؟. يصف داوكينز الثقافة وكأنها تنتقل على غِرار المورِّثات في آنٍ معًا انتقالاً عموديًا من جيل إلى جيل (بوساطة التعليم الأُسَري) وتنتقل انتقالاً أفقيًا بشكل وَباء أو جائحة أو صَرعَة بين مجموعات الأشخاص. ثم تنتقل فيما بين الوحدات الثقافية، كما تنتقل المورِّثات بين مُستضيفيها، بشكل خلايا بيئية.
تنتقل المورِّثات عن طريق الخلايا؛ وتنتقل الميميتيك عن طريق الأدمغة؛ وعلاوةً على ذلك، فهي دائمًا كالمورِّثة يمكنها أن تصبح قاهِرة أو مُتنحِّية مَقهورة حسب المَيْل إلى التعبير عن نفسها بوجود أنواع الميميتيك الأخرى. وفي غياب الميميتيك القاهرة المسيطرة لدى سكان محدَّدين، فإن الأفكار والتصرفات أو السلوكيات المُتنحِّية تُعبِّر عن نفسها بِحريَّة. فإذا لاحظنا على سبيل المثال جهازي الاستخدام المعلوماتي المتنافسين في الحاسوب وهما "ويندوز" و"لينوكس" بِوَصفهما من الميميتيك، لَوَجدنا أن ليونكس يوضح الميميتيك المتنحية، لأنها لا تُعبِّر عن نفسها إلاَّ في المجموعات الخبيرة (المبرمجون، مهندسو الشبكة، الهواة المتنوِّرون). والأَعَمّ من ذلك، أن نَجاح الميميتيك، سواء كانت متنحِّية أو قاهِرة، فَيَقوم كما هو الحال في المورِّثة، على المَيِّزة التي يتمتَّع بها المُضيف: فكلما كانت الميميتيك ذات قيمة في السياق الثقافي لدى من يحملها، ازدادت فرص رسوخها وثَبَاتها. وإذا كان شباب اليوم يهجمون على سراويل "سليم" فَلَيس لأن السراويل الضيِّقة تُسهِّل المَشي، بل لأنها تضمن لهم اندماجًا جيدًا في طائفتهم أو جماعتهم. وقبل التكتونيك، كانت هناك حركات الديسكو وتسريحات البانكي التي تستخدم تلك السراويل. وعَودتها إلى واجهة المسرح، من ناحية الميميتيك، تُماثِل حدوث طَفرة وراثية. لأن هناك تَماثلاً جديدًا مع المورِّثات، فَالميميتيك تُحدث طفرات أيضًا، وبِتواترات مرتفعة أكثر من تَواتر المورِّثات، ولا سيَّما أن طفرة الميميتيك قد تحدث في يوم وليلة عندما يعمل دماغنا، أمَّا طفرة المورِّثة فتحتاج إلى جيل بطوله لتنتقل إلى غيره.
هذه المقارنات المثيرة للاهتمام بين الميميتيك والمورِّثات ليست من دون فائدة. فَلإرساء أُسس الميميتيك، يجب التمكُّن من إخضاعها لاختبار الملاحظة التجريبية. ومِمَّا يُؤسَف له، أن ابتكار داوكينز ظلَّ واقفاً عند نقطة معيَّنة، وظلَّت الميميتيك سرَّا من الأسرار طوال عشرين سنة. إلى أن اهتمت سوزان بلاكمور، وهي باحثة بريطانية تحمل إجازة في الفيزيولوجيا وعلم النفس وما وراء علم النفس، اهتمت بِدَور التقليد والمحاكاة في انتشار الميميتيك. وهو دَوْر سَبَق لداوكينز أن تَوقَّع بِحَدسه أن يكون دورًا أساسيًا.
القدرة على التقليد:
كيف نُفسِّر أن إنسان نياندرتال القديم جدًّا تمكَّن من صنع أدوات وأشياء مماثلة لأشياء أبناء عمومته البَعيدين من السابينيين؟. خَلف هذه الظاهرة، التي يُسمِّيها علماء الإناسة "التثاقف"، قد تختفي في الواقع قدرة النفس البشرية على التقليد. وترى سوزان بلاكمور التي تُدرِّس الميميتيك في جامعة بريستول، أن التقليد يُشكِّل الرباط الوثيق الذي يربط بين المجتمعات البشرية الأولى، قبل ظهور اللغة. وهي لا تشكّ في أنَّ: هذا السِّياق العقلي الفِطري هو الآلية المفتاحية التي تتيح لأنواع الميميتيك التجاوب بِلا عِلم الأَفراد.
وهكذا تتمتع الميميتيك اليوم بِفَرضيّة قوية ـ وهي أن الثقافة تتبع قوانين التطورـ وثمَّة تَماثُل خَصب ـ فالميميتيك تتصرَّف كالمورِّثة ـ، ودَافِعها سِيَاق يُحرِّكهاـ ألا وهو التقليد.. فَهل من هنا جاء إعلان شَرعيَّتها العِلمية؟.. ولِمَ لا! لأن العلم يتطلب القدرة على وَضع وَصف وتحديد كَمّ دقيقين للظواهر التي يلاحظها. ومن هنا يجدر بنا التأكيد على أن ما ينقصنا هو المبدأ: وهو البرهان على وجود الميميتيك. والمشكلة: هي أن تعريف الميميتيك ظلَّ مُلتَبَسًا وغير واضح. الأمر الذي دفع بالكثيرين، ومنهم كافالي ـ سفورزا وعالِم الإناسة دان سبيربر، إلى القَول بِعَدم وجود الميميتيك وإلى أن الثقافة تنتقل طوعيًا أكثر من قيامها بالرَّد آليًا. ويمضي دان سبيربر إلى أبعد من ذلك: فهو يرى أن ما ينتقل، ليس هو السلوك، وإنما فقط النيَّة المتوارية خلف السلوك. فهل هذه النيَّة التي تُدْرَك عَمدًا أو لا تُدْرَك قد تُطلِق بذلك سِياقًا إدراكيًا كان موجودًا سابقًا، مُتيحًا تحقيق السلوك (أو التصرف)، وهو التقليد ـ أي الصورة طبق الأصل = الفوتوكوبي ـ الأوتوماتيكي للسلوكيات؟. ليس بالضرورة، كما يجزم سبيربر.
وهذا الاعتقاد لم يصمد. ذلك أن سوزان بلاكمور ترى أن التصرّفات الفِطرية ليست هي الميميتيك، والتقليد نُزوع لا يُقاوَم لدى المرء، ويسيطر على النيَّة. وترى أيضًا عدم ضرورة المعرفة الدقيقة لصفات عنصر الميميتيك للاعتراف بصحة الميميتيك. وقد لُوحِظ أنه لَزِمَ مائة سنة حتى تمكَّن العِلم من تأكيد نظرية داروين عن طريق اكتشاف الحمض النووي المنزوع الأكسجين. إنها حُجَّة ضعيفة بالأحرى... ولكن هذا لا يكفي لِثَني أَنصار الميميتيك عن تعبئة جهودهم، فهم يتحدَّرون اليوم من كل صَوب: البيولوجيا، علم الاجتماع، سيكولوجية الجهاز العصبي، الروبوتات، الرياضيات، المعلوماتية... وهذا يعني تَصوُّر الثقافة المتطورة كالقوى البيولوجية التي فيها ما يُحيِّر العلوم الإنسانية ويُثير فُضولها ولا سيَّما لدى الأحياء. أَوَ َلم يَقُل داروين إنَّ علم النفس قد يصبح مَيداناً للتقصِّي للعلوم التطورية؟.
أنصار الميميتيك مناضلون شجعان، فقد عمدوا إلى تنظيم أنفسهم إذًا. وفي العام 1999، أنشؤوا في الولايات المتحدة مجلة متخصصة عنوانها "صحيفة الميميتيك" والتأم فيها شمل كل من ريتشارد داوكنز، سوزان بلاكمور، والفيلسوف دانييل دينيت. وفي العام 2000، في فرنسا، أَسَّس باسكال جوكستل الجمعية الفرنكفونية للميميتيك، التي أصبحت اليوم مصدر إلهام لأنصار ميميتيك اللغة العربية. وهذا العالم الصغير يستند إلى اكتشافات حديثة تمضي كما يَرُون في اتجاه أطروحتهم. فعلى سبيل المثال، وفي العام 1996، أوضحت أعمال عصبية أجريت على قرود الماكاك أن ثمَّة بُنى دماغية متخصصة بالتقليد: وهي الخلايا العصبية المرايا. والواقع أن هذه الخلايا اكتشفت لدى الإنسان في العام 2002، وما تختص به من الانفعال على النحو نفسه لدى المرء الذي يقوم بفعل ما أو عندما يُلاحِظ ذلك الفِعل لَدى بَني جِنسه. والشبكات العصبية التي تشكلها تلك الخلايا أكثر تعقيدًا وأكثر اتساعًا لدى الإنسان مما لدى الثدييات الأخرى. ولِكَونها نَشِطَة لدى الشبَّان الصغار، فهي تهدف أكثر إلى تأكيد الصفة الفِطرية للتقليد ودَورها في التعلُّم والتلقُّن. وهي أكثر تطورًا أيضًا في المناطق الدماغية المتخصصة في اللغة "وهي الحامل الأساسي "للميميتيك" كما يرى دينيت. فهو يرى أن الميميتيك بحاجة إلى تجسيد للبقاء. واللغة بتنوعها اللفظي ومرونتها تبدو له بذلك أكثر فاعلية من التصرفات لنشر الميميتيك.
يجب تقديم البراهين:
هل يجب البحث عن الميميتيك بين خفايا الكلمات؟ وفي نشاط الخلايا العصبية؟. لا يمكن لأحد قَوْل هذا. أو بالأحرى، إن كل واحد يبحث عنها حيث يشاء. من الصعب إذًا معالجة الميميتيك إلاَّ بقولنا: "إن عليها تقديم براهينها". لكن حتى وإن كان المدافعون عنها قد عَدَلوا عن رؤية "نظريتهم" ترتقي إلى مَصافّ الأدب العِلمي، فإنهم قد أسهموا على الأقل في إحياء مسألة مثيرة للاهتمام في التطور الثقافي. وفي المقابل، إذا كان المستقبل سيثبت صحة الميميتيك، فستطرح مسألة أخرى وهي: كيف يمكن عندئذٍ تعريف حرية الاختيار؟ وكيف نُجسِّد حرية تفكيرنا واتخاذ قراراتنا؟. وهنا يَودّ باسكار جوكستل أن يطمئننا، فهو يرى أن الميميتيك تُشكِّل بالضبط "وسيلة لعدم التكيف، وللتراجع بالنسبة إلى هيمنة أشكال الحياة المفروضة وإصلاح قدرتنا على الاختيار. وأحد ميادين تطبيق الميميتيك يمكنه بذلك تنمية الشعور بأنماط الحياة، ووسيلة للبحث عن الأرضيَّات الملائمة لبعض التصرفات والسلوكيات التي يود المرء المغامرة في تنميتها، في المدرسة، أو بشكل أَعَمّ في المجتمع. ومنعطف التطوير القابل للديمومة أحد الأمثلة الممتازة. لكن هذا يحتاج إلى وقت بالتأكيد". كما يحتاج أنصار الميميتيك إلى الوقت ليستغنوا عن التأكيد أن الأفكار والتصرفات لا تلاقي جميعًا فُرَص البَقاء نفسها لدى حَلّ رموز لغز الميميتيك. وإذا كانت نظريتهم الداروينية (نسبة إلى داروين) إلى الثقافة قد بَدَت أخيرًا أمرًا لا مناص منه، فسيمكنهم على الدوام تأكيد أن الميميتيك فكرة.. متنحية.
القدرة على التقليد: مفتاح حقيقي إلى الشخص الميميتيك:
تجمع لفظة التقليد تحت جناحيها مختلف التصرفات في عالم الحيوان المرتبطة بالقدرات الإدراكية المتميزة. فأسراب الأسماك التي تدور وكأنها كائن واحد أو الببَّغاوات التي تتكلم تتصرف وِفقَاً للميميتيك، وكما هو الحال لدى قرود الشمبانزي التي تُعيد تمثيل حركات أُمِّها في كَسْر الجَوز.
لكن هل هذه التصرفات هي "نفسها" لدى الكائنات الثقافية وتنتقل من دماغ إلى دماغ، وتخضع للاصطفاء الاجتماعي؟. إن "آن ربول" من المختبر اللغوي تريد تصديق ذلك فتقول: "لدى الحيوانات، تنتقل بعض التصرفات لدى الجماعات بين البالغين، ومن الأهل إلى الأبناء. ويبدو من الصعب أن نرى أن ذلك لا يعني التصرفات نفسها. لذا فإن الحيوانات، وربما ما عدا الدلافين، غير قادرة على ذلك عند مرحلة التقليد المتعمَّد للإنسان". فما الذي يجعل من الإنسان حيوانًا بالغ الاختلاف عن الآخرين؟. ترى الباحثة البريطانية سوزان بلاكمور، صاحبة كتاب "نظرية الميميتيك، ولماذا يُقلِّد بعضنا الآخرين" أنَّ الإجابة قد توجد في دماغنا لكونه اكتسب وظائف نوعية، انتقلت بالتقليد إلى درجة التعقيد التي لا مثيل لها لدى الأحياء، منذ نحو مليوني سنة، عندما كانت قد ابتكرت الأدوات الأولى. وترى الباحثة أن أصحاب الميميتيك آنذاك قد "سيطروا" على التطور، وربما شجَّعوا على ظهور أدمغة أكبر حجمًا، وصلت إلى حجوم الأدمغة الحالية، وثمَّة أدمغة أكثر تعقيدًا حَسَّنَت من انتشارها. وبِدقَّة أكثر، إن تعقيد الفصوص الجبهية والجدارية في الدماغ، والتي تتمركز فيها المراكز المتخصصة باللغة، قد تكون هي التي جعلت من الإنسان كائنًا ممتازًا يُمارِس الميميتيك.
بَحثًا عن الإجابة الثقافية:
ليكون أنصار الميميتيك قادرين على التطور الثقافي، فقد راهنوا خصوصًا على حساب الكلمات التي تسمح بها محركات البحث في الحاسوب: فما هي الكلمات التي تظهر والتي تتغيَّر والتي تبثّ والتي تختفي...
كما ركَّزوا أيضًا على التقدم الذي أحرزه البحث في الذكاء الاصطناعي، ولا سيما تجربة "الرؤوس المتحدثة"، والتي أجرتها شركة سوني في العام 1999، والتي كانت تهدف إلى إبراز لغة لدى الروبوتات (الرجل الآلي).
فهذه الحواسيب (الروبوتات) التي لها وجه كالإنسان، وتُلاحَظ عليه أشكال وألوان بوساطة الكاميرات الرقمية، قد "ابتكرت" لغة مَحكيَّة لتبادل المعلومات فيما بينها. وهي كلمات وقواعد في هذه اللغة "بَدَت" طبعًا البَدائل التي حفظتها في نهاية المطاف، لكونها أتاحت للروبوتات في أثناء التجارب والأخطاء، تبادل معلومات وثيقة الصلة بالأجواء المحيطة بها. إنها مُناسِبة لِلتتبُّع خطوة فَخطوة بُروز (الكلمات والقواعد اللغوية نفسها) والمهيمنة.. لدى الروبوتات.
تغريد
اكتب تعليقك