الانزياحُ الفنيُّ في نصِّ الشَّاعر «حسَّان عر بش» (على خطا الزهر نموذجاً)الباب: مقالات الكتاب
د. نبيل قصاب باشي الإمارات العربية المتحدة |
توطئة في مفهوم الانزياح (L’écart):
ليس غريبًا أن ندركَ ونعترفَ ـ بادئَ بدءٍ ـ بأن الانزياحَ "ظاهرة ٌ كونية"، وأن هذا "الكونَ في انزياحٍ دائم"، كما أثبتتِ الكشوفاتُ العلمية الحديثة؛ فنحن إذن في زمن ِالانزياحات الكبرى، ومنذ قوله تعالى: "كُنْ" أخذ الكونُ في الانزياح خلال أحقابِه الأربعةِ التي أشار إليها علمُ الجيولوجيا، حتى استوى الكون سماءً وأرضًا إلى هذا الجمال الأخاذ جَرَّاءِ هذه الظواهرِ الكونية المنزاحة.
وعليه فإن الانزياح في المصطلح الفنيّ هو الخروج عن المألوف والسائد والمتعارف عليه، لإضافة قيمةٍ فنية جماليّةٍ جاذبة؛ وهو لونٌ من ألوان الانحراف اللُّغوي، يكون في نوعين اثنين: أوّلهما الانزياح الدلاليّ، ويكون في الصورة البيانية بأنواعِهَا، والاستعارة بأصنافها، والمجاز بنوعيه العقليّ والمُرسل. وثانيهما الانزياح التركيبيُّ المُشترط ارتباطٌه بقوانين اللغة والنَّظم وتركيب العبارات، كالتقديم والتأخير والحذف والذكر وغيرِها من ألوان علمِ المعاني.
وقد أطلق عليه بعض الحداثيين من الغربيين والعرب (الانحراف La deviation) وهذا مصطلح معياريٌّ لغويٌّ ـ بلاغيٌّ سبق في تراثنا منذ مئة قرن حين أطلق عليه "ابن ُجني" في "خصائصه" مصطلح "الانحرافَ"، وفيه يقول: "إن العربي إذا قوي طبعه لم يُبال أن يقعَ الشذوذ في شيءٍ من كلامه، منحرفًا بذلك عن المطّرد والغالب والكثير"(2) أي منحرفًا عما هو سائدٌ ومألوف. ويشير ابنُ جني إلى مفهوم هذا المصطلح إشارة واضحة حين يقول: "فكانت الأصول وموادُ الكلم مُعرِضة لهم، وعارضة أنفسها على
تخيّرِهم، جرت لذلك مُجرى مالٍ مُلقىً بين يدَي صاحبها، فميّز بين رديئه وزائفه، فنفاه ألبتة ، كما نفوا عنه تركيبَ ما قَبُحَ تأليفه، ثم ضرب بيده إلى ما أطفَّ(3) له من عرض جيده، فتناولَه للحاجة إليه، وتركَ البعض لأنه لم يُرِدْ استيعاب جميع ما بين يديه منه"(4).
ومما يحسن ذكره أن هذا الانزياح اللغوي أو الانحراف - كما سمّاه ابنُ جنيّ ـ تطور إلى علمٍ لدى بعض الحداثيين، حين أطلقوا عليه "علم الانحرافات"؛ فجعلوه علما كائنًا بذاته، وهم العلم الرافض للغة المعيارية النمطيّة المتعارف عليها، واستبدلوه باللغة الإبداعيّة الخارجة عن المألوف، والمخالفة للنمط المعياريّ، وصولاً إلى أسلوب جديدٍ غير مألوف؛ وهذا الأسلوب لا بدّ فيه من مراعاة قواعد اللغة ونُظُمِها، وألا يكون الغرض منه تحقيق الانحراف والعُدول لذاتهما، وإنّما يكون غرض المبدع منه هو إثارة المتلقي، واستفزاز مخيّلته، وتحفيزه على استشفاف واكتشاف الجديد المدهش، وخلق لغةٍ شعريّة جديدة ممهورة ببصمته الإبداعية.
وقبل ابنِ جني يتحدث "الخطّابيُّ" عن نظرية النظم التي يشير فيها إلى الرباط الناظم، وهو شبكة العلاقات التي تربط بين الألفاظ الحوامل للمعاني [العلامات]، والنظوم التي بها يكون ائتلافُها بعضُها ببعض. أي التي تربط بين اللفظة واللفظة داخلَ البِنية اللغوية – النحوية، وبذلك يكونُ قد تحدَّث عن مصطلح [علاقات الجوار]، ومصطلح [علاقات الاختيار] كما في قوله: "فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها". ويكون قد قدَّم ما يعرّفُه المحدثون والحداثيون بالأفق التعاقبي الاستبدالي (5).
ولا قيمة للانزياح اللغوي "ما لم يكن انزياحًا دلاليًا إيمائيًا، غايتُهُ التلاعبُ باللغة في محتويات الجملة، وفي إعادة ترتيب ألفاظها المنقولة بمعانيها الأصلية سعيًا وراء إحراز الدلالة المطلوبة"(6)
وعند "ريفاتيير" أيضًا يكون الانزياح هو الخروج عن كل مألوفٍ في لغة القصيدة. ولقد نما هذا المعيارُ الأسلوبيُّ بشكل ساطع عند "بالي وسبيتزر"، وشارك في تأصيلهِ الحداثيِّ أيضًا مدارسُ كثيرةٌ أبرزها السريالية والشكلانية الروسية، حتى بلغ غايتَهُ عند "جون كُوهن" فارتبط هذا المصطلح باسمه، حين جعله في مستويين اثنين: الأول: المستوى السياقيّ (الدلالي والإيقاعي)، والثاني: المستوى الاستبدالي؛ بما يحقّقُه هذان المستويان من عنصري المفاجأة والدهشة للمتلقي الذي هو صانعٌ رئيسٌ في إنتاج النص، من حيث المشاركة في استكشاف واستشفاف ما فيه من مخبوءٍ جمالي مَرئيًّا كان أو غير مَرئيّ، مُنتظَرًا كان أو غير مُنتظَر ...
سيميائية العُنوان الانزياحية:
قبل الولوج في استنطاق النص الشعري من حيث انزياحاته الجمالية، لا بد لنا من الوقوف قليلاً عند سيميائية العنوان (على خطا الزهر) وما يُخبِّئ من إيماءات وإشاراتٍ مجازية ودلالية، تبدأ من هذه المفاجأة الفنية، وهي حذف مُتعلّق الجار والمجرور؛ والحذف أسلوب بلاغي قديم يختزل فيه الشاعر إيحاءاتِهِ الدلالية، يقول الجُرجانيُّ في بلاغة الحذف: "تركُ الذكر أفصح من الذكر، والصمتُ عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبن"(7) وأن التلميح أفصح من التصريح.
وكثيرًا ما ينجم عن هذا الحذف الانزياحيّ غموض يشف عن دلالات متعددة، يشارك في خلقها المتلقي، فيشعر بلذة الاستشفاف والاكتشاف، من خلال تحفيز ذاكرته واستفزاز ذائقته، لنبش ما سوف يختاره المتلقي من دلالات قد تختلفُ معانيها لدى مُتلّقٍ أو متذوقٍ آخر. يُضاف إلى ذلك ما سطعت به العنونة (على خطا الزهر) من صورة استعارية تذهب في النفس كل مذهب، وتُلوّح في الخاطر ولا تُصرِّح.. فما الذي يريده العنوان من الخطا على الزهر؟ هل هي الخطا الحسية أم الخطا المعنوية؟ وهل للزهر خطة ٌوخطا؟.. كلّ هذا الاستفزاز الاستفهامي هو غائية ُمصطلح الانزياح الفني، ووظيفتُه الجمالية المنشودة. ولو افترضنا أن العنوان تنمّط عند لفظ (عبير الزهر أو فوح الزهر) لكان فَقدَ شهية الانزياح والانفتاح في تعدد الدلالات وتنوعها.
صُورُ الانزياحِ الفنيِّ في نص الشاعر "عربش":
إن الغرض الرئيس لصور الانزياح بعامّةٍ هو هذه التوأمة الوشيجة بين المفردات دلاليًا، وذلك من خلال
المقاربة بين معانيها، ضمن الحقل الدلالي بنوعيه: الجزئيِّ والكليِّ؛ بمعنى أن الانزياح ـ في زعمي ـ يجمع
بين العلاقاتِ الرأسية والعلاقات الأفقية وأهمها:
ـ الانزياح من المادي إلى المعنوي.
- الانزياح من المادي إلى المادي لعلاقةٍ مكانية.
- الانزياح من المادي إلى المادي لعلاقةٍ زمانية.
- الانزياح من المادي إلى المادي لاشتراكهما في جزءٍ من المعنى.
أولاً - الانزياح من المادي إلى المعنوي:
يقول الشاعر:
وبخاطري لغةٌ من الرّيحـــــــــانِ ترسمُ وجهَكِ المتبسّما ص13
في هذه الصورة انزياحٌ في دلالة اللفظ من الدلالة المادية إلى الدلالة المعنوية؛ ففي (الريحانِ) دلالة ٌ مادية ٌ أضيفت إليها (اللغة) فانتقلت إلى دلالة معنوية، ثم راحت هذه اللغة (ترسم) فانتقلت دلالتها المادية ُالمكتسبة من الرسم إلى دلالة معنوية وهي رسم "الوجه" مجازًا؛ وكان لرسمه دلالاتٌ متعددة، يجتهد المتلقّي في اختيارها وتحديدها وفق ما تنضح به ثقافتُهُ الجمالية المتراكمة.
ثانيًا- الانزياح من المادي إلى المادي لعلاقة مكانية:
ومثاله قول الشاعر:
و"حماة" مملكة ُالبنفسـج خبّأتْ في مقلتيها موسما ص15
فحماة بلدة لها دلالتُها المادية المكانية، وحين غدت عند الشاعر مملكة َالبنفسج، انتقلت دلالتُها المادية المكانية إلى الدلالةِ على معنىً ماديٍّ آخر؛ وهو المملكة البنفسجية لوجود علاقة مكانية بين المعنيين. ونلمس انزياحًا آخر في قوله: خبأت حماة في مقلتيها موسمًا، وذلك حين جعل الشاعر العينينِ ـ أيضًا ـ مخبأ (مكانًا) حسيًّا ماديًّا انتقل إلى علاقة مكانية هي هذا المكان (المقلتان).
وهاهنا نلمس بوضوح موائمة الحقلِ الدلالي في جمع الكلمات المتصلة دلاليًا فيما بينها، لتقريب الصلات الدلالية بين المعاني المنزاحة، ضمن حقولها الدلالية المتقاربة والمتلائمة تلاؤمًا وشيجًا، يصب في إحراز الدلالة المنشودة.
وبين علاقات الجوار وعلاقات الاختيار هاهنا نقطة مرتكز الانزياح الفني التعاقبي الاستبدالي، الذي توصّل فيه الشاعر إلى اختيار الأفضل عن الأحسن من وجوه الألفاظ. وهو ما يعرِّفه المحدثون والحداثيون بالأفق التعاقبي الاستبدالي كما أشار إليه "الخطابي" في رسالته (بيان إعجاز القرآن) كما نوهنا إلى ذلك سابقًا.
ثالثاً-الانزياح من المادي إلى المادي لعلاقة زمانية:
شهداء هذي الأرض ينسابون ..
عطرًا في دم الجوريّ
في مطر الصباحِ
وفي أغاريد الكنارْ ص16
فهذا نموذج من اللفظ انتقلت دلالته من معنىً ماديٍّ (وهو مطر الصباح الحقيقي) إلى معنى مادي آخر(وهو مطر الصباح المجازي) لعلاقة زمانية بينهما، نجم عنهما من خلال علاقة المشابهة هذا المعنى المجازيُّ المنزاح؛ أي استبدال ُالشاعر مطر الصباح الحقيقي بمطر الخير والأمل المجازي، من خلال هذه العلاقة الانزياحية الاستبدالية التعاقبية التي وُفّق الشاعر في اختيارها واستبدالها الانزياحيَيْنِ.
رابعاً -الانزياح من المادي إلى المادي لاشتراكهما في جزء من المعنى:
لفّي حبيبك
كفّنيه بثوبه وبرايةِ
الوطنِ الجريحِ فإنها
أبهى دثارْ ص19
[في المعجم] دَثـُرَ الثوب: اتّسخ، والدَّثْرُ الوسخ؛ ثم توسعت دلالات اللفظ وتعددت إلى معان متشعبة ومتعددة، منها معنى: دثّر فلانٌ فلانًا: غَطَّاه بِغطاءٍ يُسْتَدْفَأُ به من البرد، ثم انتقلت إلى معنى آخر؛ وهو الثوبُ الذي يكون فوق الشِّعار. ونلحظ هنا المعنى المادي (الغطاء) انتقل في سياق الشاعر الفني إلى معنى مادي آخر وهو(الراية/أبهى دثارْ) لاشتراك دلالةِ اللفظين في جزء من المعنى وهو الثوب؛ لكنه في المعنى المعجمي ثوب ٌمادي، وفي السياق الشعري التركيبي ثوب ٌمجازي؛ وهو هذا المجدُ المرتجى الممنوح من معنى قيمة شهيد الوطن، ومنزلتهِ المقدسة عند الله وعند الناس.
من هذه الانزياحات التي تنوعت صورها، ندرك الدورَ الفني الكبير الذي أسهم في إثراء التشكيل اللغوي، من خلال اللفظ الواحد الذي اُسْتخدم في الدلالة على معنيين في نص الشاعر، ثم انزاح إلى معانٍ عديدة في حقول دلالية جديدة، نلمس من خلالها هذا الكشفَ الشفيف عن صلات المُقاربة الوشيجة بينها جميعًا، نائية كل النأي عن الانزياح الدلالي النمطي والعشوائي في آن معًا.
أنماط الانزياح ومستوياته في نص "عربش":
وللانزياح أربعة ُ أنماطٍ: مجازيةٍ وإيقاعية ولغوية ودلالية جعلها "الدكتور نعيم اليافي" في أربعة مستويات؛ الأول: سماه القريبَ الذي يستنسخ الصورة الشعرية العامة استنساخًا فوتوغرافيًا طبق الأصل، دونما تحوير أو تثوير أو تطوير؛ والثاني: الممكن والمقبول الذي اتسم بتحويرٍ طفيف في أدوات الصورة وتشكيلها الجديد؛(8) وهو ما يمثله كثيرٌ من ألوان الصورة الفنية العامة في نصوص "عربش" كقوله من نص "شك" ص77:
هل نحن من أمة سادت على الحقب ِ
أم نحن من أمة تشـــكو من الجرب ِ
(نمزمز) الأمــس أمجــــــاداً وأخيلة
وأمســنا حــــافــل بالـشـــــــــك والريب ِ
وكلما هـــــزت الأوطــــــانَ نـائـبـــــــةٌ
سرنا لها بالأماني البيض والخطب ِ
ونظيره في نص "لا عيد" ص85: ونص "المسجد الأقصى في ذاكرة القلب" ص91:
ويمثل هذا اللون من الانزياح نصُّ "أغنية إلى أمي" ص22. ونص "غزة على خارطة البطولة" ص51
ونظيرُهما في المجموعة الشعرية.
ولاجرم أن الانزياحاتِ الدلالية َواللغوية والمجازية فيما سبق من النصوص، تأطّرت في تشكيلاتها الفنية بأطر نمطية تقليدية في بعضها لا في جُلّها، (لا عيد يزهو/يغفو الردى/الحق كسيح/بالشذا يفوح/يشع نورًا / عذب مياهه طهر وطيب..)
والثالث: هو اللمّاح الناضح بشتى الدلالات والإشارات المضبَّبة والمُشفّة في آنٍ معًا؛ وهو المعوّل عليه في توخي الانزياح الدلالي واللغوي والمجازي على حدّ سواء، وبالتالي فإن هذه الانزياحات هي غائية هذا المصطلح الفني الجمالي، وهي التي تعاورها النقاد القدامى والحداثيون المعاصرون، حينما أجمعوا على أن غرض المبدع منها هو إثارة ُالمتلقي، واستفزازُ مخيّلته، وتحفيزُهُ على استشفافِ واكتشاف الجديد المدهش، وخَلْقُ المبدع للغةٍ شعريّة جديدة، ممهورةٍ ببصمته الإبداعية كما أسلفنا سابقًا في توطئة هذه العُجالة.
وأمثلته كثيرة إلى حدٍّ ما في مجموعة الشاعر "عربش" نختار منها:
ألا يا أيها المولودُ من حزن المساجدِ
والكنائسِ من صلاة الأنبياءِ
لنا من موتنا ألف انتصارٍ
للتسامح والإخاءِ
ماقتلوكَ .. ماقتلوك
في الأحداقِ في الأعماقِ
في رحم النساءِ
ستطلع من ليالي القهر
تطلع من عيون الفجرِ
مغتسلاً بآيات السماءِ
لقد اكتسب هذا النصُ الدلالة الإبداعية المخلوقة من لغة انزياحية مُشفّة، مدهشة ٍفي علائقها المجازية الجديدة؛ فما أتيح لهذا الانزياح المشف أن يكون لو صيغت عبارتُه الشعرية على هذه الشاكلة النمطية: "ألا يا أيها المولود من المساجدِ والكنائس"؛ أمّا وقد أسند الشاعر المولود لحزن المساجد والكنائس مضيفًا إلى هذا الإسناد "ومن صلاة الأنبياء"، فقد أضاف إليها معنى منزاحًا آخر أشفّ أيضًا عن معنىً متغوّرٍ في الدلالات والإيماءات المتعددة، ثم أعقبها بانزياح ثالثٍ لا يقل روعة عن سابقه في قوله:
"تطلع من عيون الفجرِ
مغتسـلاً بآيات السماءِ"
وكم كانت العبارة ُمغرقةً في نمطيتها هاهنا لو صيغت على هذه الشاكلة: (تطلع من عيون الفجر وقد تليت عليك آيات القرآن) لكنها اكتسبت انزياحيتَها الجمالية المدهشة من اغتسالها بآيات السماء!!
والرابع: هو المُعمَّى المغلق الذي تنفر منه الذائقة الفنية، وترفضه الفطرة السليمة.
ومثل هذا المستوى الانزياحيِّ لا حضور له في نصوص الشاعر "عربش"؛ بل إنّ بعض نصوصِهِ الانزياحية لمسناها في المستويين السابقين: الأول والثاني، بينما استوى عند الشاعر في كثير من نصوصه الإبداعية ـ إلى حد ما ـ المستويان السابقان الثاني والثالث بسطوع فني لا مُشَاحّة فيه ولا مماحكة، من خلال طائفةٍ من الانزياحات الجمالية الاستبدالية التي صدرت عن انفعال متغيّر ومتبدّل، واكبتْ فيه سُنّة الحياة في توخّي غرض التحوير والتغيير، من خلال خلع العباءة الكلاسيكية التي طال أمد نمطيتها المكرورة الممجوجة؛ يقول د. نعيم اليافي: "إن الأشكال البلاغية أو الصورية ترتبط بالانفعال وتصدر عنه؛ والانفعال متغيّر ومتبدّل من عصر إلى عصر؛ فلكلِّ تيارٍكما لكلِّ فترةٍ حساسياتٌ خاصة، وقيمٌ شعورية خاصة؛ ولابد أن تخضع ضروب الأشكال الصورية لهذا التغيّر أو التبدّل الذي هو سنة الحياة والكون"(9)
الانزياح الموسيقيُّ (الفونيمي) في التشكيل الإيقاعي:
حظي الإيقاعُ الموسيقي اهتمامًا ملحوظًا من قِبَلِ النّقاد العرب ـ قدامى ومحدثين ـ ونقاد الغرب، "كبودلير" الذي يرى: أن الموسيقا "أعذبُ الأصوات وأشدّها نفاذًا عن أعمق ما في القلب الإنساني وأخفاه"(10) وقد حاول "بودلير" إبرازَ الطاقة الموسيقية الإيحائية في شعره للكشف عن الجوانب الغامضة التي لم يستطع ِالتعبير عنها إلا من خلالها. إن مصدر الانزياح بين الصوت والمعنى في الشعر تحديدًا يعود في كثير من الأحيان إلى الطاقة العاطفية والفنية التي يمتلكُها المبدع؛ ولطالما ضاقتْ هذه الطاقة واضمحلت في البيت العمودي جرّاءَ تشّتتِ المعنى أو تأطيرِهِ في دائرة ضيقة؛ وعليه فقد عمد أنصار الشعر الحر إلى اختراق وحدة ِالبيت العروضي، بتوزيع تفعيلاته إلى وحدات موسيقية، لا تلتزم العددَ النمطي فيه؛ فكان أن استحدثت "نازك الملائكة" ما يعرف بالتفعيلة التامة والتفعيلة الناقصة؛... و يرى كمال أبو ديب "أن التطور الإيقاعي يستند إلى مبدأ التركيز الذي يقرر أن "تركيز الفاعلية الشعرية على نمط واحد من نمطي التشكيلات الإيقاعية هو النمط وحيد الصورة، حيث ينشأ الإيقاع من تكرار تفعيلة واحدة عددًا من المرات سيؤدي إلى حدوث تطورات جوهرية في بنية التشكيلات الإيقاعية... وخلق تنويع إيقاعي غّني"(11).
لقد اختار الشاعر لجل نصوصه الإبداعية وحدة البيت العمودي الذي يتكرر فيه صوت القافية الواحدة؛ وليس في هذا عيبٌ فنيّ مادام الحداثيون أنفسُهم تبنّوْا نظريته، وحثـُّوا على تبنّيها أمثال "جون كوهن" الذي يقول: "عليكم أن تعمدوا في حدود الإمكان إلى التقفية بكلمات جد متشابهة من جهة الصوت، وبالغة ِالاختلاف من جهة المعنى، وهذا ما تحّققه قافية المشترك الّلفظي"(12)
ويبقى "عربش" مُصرًّا على عشقه للموروث العروضي الراتب؛ فها هو في جُلَّ نصوصه عاكف على هذا العشق الطربيّ، وحينما شاء أن ينسلخ قليلاً من رتابته بقي عالقًا بأسوار حِماه لا يغادرها إلا هنيهات؛ كما في نصه (في مهب الوطن ص 16)؛ حيث تراوحت تفعيلات مجزوء البحر الكامل المرفّلة (متفاعلاتْ) من خمس تفعيلات (متفاعلن) إلى ثماني تفعيلات في المقطع الواحد، في مجمل النص الذي يحتوي عشرين مقطعًا؛ فكان ذلك انزياحًا مونيفيًا خفيفًا طفيفًا؛ لأنّ وحدة البيت العروضي مازالت مستحوذة على إحساسه الباطنيّ الطربيّ، فصعب أن ينسلخ من رتابة التفعيلات وخرقها بشكل أكثر وأوسع. إلا أن الشاعر كان حريصًا على المونيفات الصوتية الداخلية، محققًا تجانسًا صوتيًا بينها وبين صوت القافية المتكرر في نهاية كل مقطع شعري، بحيث نلمس هذا التوازيَ بين الصوت والمعنى، مما يشير إلى أن القافية "توفّر ظاهرة التجانس القائمِ على التشابه بين الدّوال مع اختلاف المدلولات، فيخرق بذلك أمر التوازي بين الصوت والمعنى الذي يوّفر للرسالة العادية سلامة سننها البلاغية"(13)، ومثاله:
تأوي إلينا الطيــر خائفة ..
وقد فقدت هناك فراخها
فديارها زيت ونارْ ص17
لفّي حبيبك
كفنيه بثوبه وبرايةِ
الوطن الجريح فإنها
أبهى دثارْ ص19
أرض تعبّ العشق
والشهداء..
والتقوى ستنبت ياسمينَ
وجلّنارْ ص21
فهاهنا نلمس التوازيَ بين الصوت والمعنى الناجمين عن القافية (زيت ونارْ) التي حققت التشابه بين الدوالّ والمدلولات، والانسجام مع معاني قافيتها، فالأمهاتُ خائفات مرعوبات من هذا القصف الوحشي لمنازلهنّ، هذا القصفُ الذي حرق أطفالهن وقتلهم، ونسف أعشاشَهم ودمّرها. ونلمس هذا التشابه وهذا الانسجام ـ أيضًا ـ في الراية المصنوعة من القماش، التي غدتِ الثوبَ الذي دثّر الشهيد. وكذا الأرض التي تَسقي عشقهَا للشهداء، تُنبت الياسمين والجلَنار.. إنه التوازي الصوتي (الدال) المشف عن (المدلول) المعنوي بكل وضوح وسطوع، متفجّرًا بالطاقة العاطفية التراجيدية التي تنزّ عن جرح عميق مُنيَ به هذا الوطن الغالي.
الغموض الانزياحي في التشكيل الفني:
لقد أصبحت ظاهرةُ الغموض الانزياحيّ في النص الإبداعيّ ظاهرة فنية، طالما بلغت حد الكمال والجلال لدى كثير من نقادنا القدامى، وتبعهم في هذا الاتجاه النقدي جمعٌ غفير من الحداثيين العرب والغربيين؛ وهذا "السجلماسي" يحدد أصناف الإشارة التي تشكل جزءًا من موضوع الكناية بالتعريض والتلويح والإبهام والتنويه والتفخيم والرمز والإيماء والتعمية والتورية(14) أو في الصياغة التي تصب جميعًا في الصناعة الشعرية؛ وبذلك يكون الغموضُ جراء التلويح الذي ينأى عن التصريح عنصرًا إبداعيًا؛ لأن سطحية الوضوح عند السجلماسي تنفي عن النص سمتَهُ الإبداعية، وجميعُ هذه الأصناف تقود المبدع إلى نوع من الغموض يتبدّى في العُدول الأسلوبي.
وبعدُ؛ فهل كان الشاعر "عربش" في تمثله لهذا العنصر الفني شاعرًا مُبرّزًا وحاذقًا ماهرًا على حد تعبير الناقدة "روز غريّب"؟
لم أعثرْ على نصٍ غارقٍ في الغموض الفني الواضح، المشفِ عن دلالاتٍ حاضرة غائبة، إلا في مقدمته النثرية الموسومة بعنوان "أنا والقصيدة"، لم تكن هذه المقدمة ـ فيما أزعم ـ مقدمة تقليدية نمطية؛ إنما كانت نصًّا إبداعيًا مترفًا فارهًا، بل بارقًا بشتى الإشارات والإيماءات الضبابية، التي تبخّ المعنى بخًّا، وترشّ خيوطه رشًّا شفيفًا طفيفًا، فلا ترَى فيها إلا رذاذًا يرشَحُ من ماء لا يُرَى قاعُه، إلا بعد مماطلة من العَوْم الجاهد، والغوْص الناصب؛ ومن ذلك هذه السجادة النثرية المخملية ص 7ـ 8:
"ألهث وراء القصيدة التي لا تجيئ
فالقصيدة غزالة تركض في
براري الوجدان"
"وحين أكون منهمراً في الهموم
توقظني القصيدة .. تعالَ
تعالَ أيها المجنون ..
هيتَ لك"
"أدخل عذرية القصيدة ويدي على قلبي
يصير بيت الشعر في دمي سنبلة
وعصفوراً من الدهشة
وسؤالاً من العشق
في زمن الضوضاء أسافر في
دروب اللغة
لعلي آتيكم بقبس من طفولتي"
طالما اخترع الشعراء على مر العصور الأدبية تعريفًا للشعر، أو انطباعًا يومئ بجوهره، فلا يتجاوزون الفهم النمطي المكرور في سَمْته وتعريفه.. بينما انحرف شاعرنا وتغوّر في الاتساع والعدول الفنيين، ليقدم لنا تعريفًا لقصيدته التي تعتلج في حسه، وتختلج صورها في مخيلته، جرّاء ما يحسّ ويتخيّل، فيرى أن "القصيدة غزالة تركض في براري الوجدان" ... إنها صورة ضبابية التشكيل اختبأتْ دلالتها السيميائية وراء هذه الغزالة السارحة في براري الوجدان، ليس من اليسر والعفوية أن ندرك معانيها المتعددة أو نحصيها.. ثم يستمر الشاعر بعدوله الفنيّ في قوله: "يصير بيت الشعر في دمي سنبلة ... وعصفورًا من الدهشة ... وسؤالاً من العشق"؟ فهل لنا هاهنا ـ أيضًا ـ أن نمسك بتلابيب هذه الحلة النثرية ونتعرف خيوط نسجها ومهارة حبكها ... أيُّ عُدولٍ في الأسلوب؟ وأيُّ انحرافٍ استعاريٍّ في الصورة؟ وأيُّ غرابةٍ في سياقة التشبيه على غير جهة التشبيه؟ ... فهاهنا كنايات مغرقة في الغموض الواضح الجاذب، لا في الغموض المغلق بالإبهام والتعمية؛ فلك أن تختار أيها المتلقي من معاني معنى المعنى ما تشتهي وتتوق إليه ذائقتك الشعرية، فإنك أمام نص صامت في غموضه، ناطق في شفافية إشاراته وإيماءاته.. إنه الاقتضاب الدلالي حقًا الذي أشار إليه السلجماسي حين عرّفه بالقول: "وذلك أن يقصد الدلالة على ذات معنى، فيترقّى عن التعبير المعتاد، وعبارةِ التأخّرِ من الجمود على مسلكٍ وأسلوبٍ واحد من أساليبِ العبارة، ونحوٍ واحدٍ من أنحاء الدلالة، فيظهر المقدرة على العبارة عن المعنى، وبُعد مرماه في التصرف في مجال القول، والتوسعة في نطاق الكلام.."(15).
الهوامش:
(1) منشورات اتحاد الكتاب العرب/سورية .. دمشق 2018م
(2) ت : النجار. محمد علي: ابن جني: الخصائص 2/392 ط. دار الكتاب العربي. بيروت 1952
(3) أطفّ: دنا وقرب.
(4) ت النجار . محمد علي: ابن جني: الخصائص 1/65. ط2 دار الهدى. بيروت دون تاريخ.
(5) محور التعاقب والاستبدال: يعني استبدال دليل لغوي بآخر لعلاقة مشابهة بينهما، وتقوم هذه العلاقة بين المفردة وبقية المفردات لتنتهي إلى التركيب الملائم.
(6) عطية. مختار: التقديم والتأخير ومباحث التراكيب بين البلاغة والأسلوبية ص 59 بتصرف يسير.
(7) الجرجاني. عبدالقاهر: دلائل الإعجاز، ص 129
(8)ـ اليافي د.نعيم: مقدمة لدراسة الصورة الفنية ص 66. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دمشق 1982م بتصرف كبير .
(9) اليافي د.نعيم: مقدمة لدراسة الصورة الفنية ص 66
(10) أبو ديب. كمال: بنية الخفاء والتجّلي، دار العلم للملايين، ط بيروت 1979م، ص 93.
(11) جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، ص 74.
(12) جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، ص 78
(13) صولة. عبدالله: فكرة العدول في البحوث الأسلوبية المعاصرة، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، ص 85.
(14) انظر: السجلماسي، أحمد بن مبارك، أبو محمد القاسم: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، ص 265 ـ 270/ت علال الغازي، مكتبة العارف، الرباط، 1980.
(15) السجلماسي: المنزع البديع، ص 262- 263 .
تغريد
اكتب تعليقك