المعادل الموضوعي في نصّ أبي فراس الحمويالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 14:01:09

د. نبيل قصاب باشي

الإمارات العربية المتحدة

• توطئة في مفهوم معيار المعادل الموضوعي (Objective correlativ):

عُرف المعادل الموضوعي في النقد الغربي مع (توماس إليوت  T.S. Eliot.)  الشاعرِ ـ الناقدِ، حين جعله "الطريقة َالوحيدة للتعبير عن الانفعال، والصيغة َالفنيّة َالتي تُوضَعُ فيها تلك العاطفة. حتى إذا أُعطيتِ الوقائعَ الخارجية َالتي لابدَّ أن تنتهيَ خلال التجربة الحسّية"(1) اسْتُثيرَتِ العاطفة على التوّ.

إن المشاعرَ هي المَعينُ الأساسُ الذي يلتقط منها الشاعرُ أفكارَهُ؛ والشاعر المبدع يعرف كيف يتخذ لعناصر ذاته العاطفية والفكرية معادلًا من عناصر الأحداث والأشياء. ومن هذه العناصر الخارجية يتخذ الشاعر البارع معادلًا لمشاعره وأفكاره. ويذكر "ماتيسن" في هذا المجال قول الشاعر الفرنسي فاليري: "مركز القيمة قائم في الأنموذج الذي نصنعه من مشاعرنا وليس في مشاعرنا نفسها"(2).

المعادل الموضوعي في نص أبي فراس الحموي:

اخترت هذا الديوان المعنون بـ"مقامات أبي فراس الحمويِّ" من بين الإصدارات الحديثة للشاعر "محمد عدنان قيطاز"؛ لأنه الأقربُ إلى الاسترسال العاطفي العفوي، وألصقُ بالفيوضات الفطرية التي يصدق فيها نقلُ العواطف والأفكار والانفعالاتِ الذاتية والموضوعية، نقلًا تكون فيه الحالة ُالشعورية أصدق قدحًا وانفجارًا للمشاعر والاختلاجات، وأعمق َ تدفّقًا للانطباعات والمعاني المختزلةِ في اللاوعي الحدسي للشاعر "قيطاز"؛ وبذلك يسطع "المعادلُ الموضوعي" لنص شاعرِنا سطوعًا قويًا جليًا، نلمسُه في علائقهِ الشعورية الناجمةِ عما أدركه وأحس به على حد تعبير"ت. س. إليوت". وهذه المقاماتُ ستكون الميدان َ التطبيقي الذي سنجرّبُ عليه «المعادلَ الموضوعي».

•المعادل الموضوعي في مدائح أبي فراسٍ الحموي:

إن ظاهرة التنوع في المكان المتمثّلِ في الوطن والأمة، وفي الإنسانِ المتمثّل بممدوحي أبي فراسٍ الذين ينتمون إلى طبقاتٍ متنوعة، برزتْ في فئات متعددةٍ من العلماء والشعراء والأصدقاء والقادة الأعلام، ومعهم أيضًا الإنسانُ المطلق.

هذا التنوعُ في الطبقات الممدوحة ساق الشاعرَ إلى تجسيد أفكاره، ليصوغَها من خلال عواطفهِ الإنسانية المتعددةِ والمتنوعة؛ وبذلك يكون ممدوحو الشاعر من عناصر هذا المعادل المتعددةِ والمتنوعة على حدّ سواء أيضًا.

إنّ نص أبي فراسٍ يكشفُ عما يسميه "إليوت" وبعضُ نقادِ الأدب الإنكليزي: "المشكلة َ أمام الفنان المعاصر، والإحساسَ بالعصر، والقدرةَ على التطور في عالَمٍ مختلف"(3) ويمكن ردُّ هذا الإحساس بالعصر في نص أبي فراس إلى عالمين اثنين هما: الواقعُ والمثالُ. والمثال بدوره مثالان: مثالٌ فردي، وآخرُ جمعي.(4) .

فمدينةُ حماةَ ـ مثلًا ـ في وجدان الشاعر أبي فراس الحموي هي الوطنُ الصغير الذي تنفّسه قلبُه، والملاذ ُالوثير الذي حضن مشاعرَه، ولطالما خصَّ منها ضفافَ العاصي التي استروح منها زفيرَه وشهيقه، فكانتْ مراحَهُ الذي حضنَ أفراحَه وأتراحه على حدٍّ سواء، وكانت الواقعَ والمثالَ الفرديَّ على حدٍّ سواء أيضًا. ويروقُ لنا أن نقتبس بعضَ الأبيات مما قاله في دارتهِ "حماة":

    كلُّ حرفٍ  من  اســمــهــا  نغمٌ حُلْوٌ

    فــحـــرفٌ  "رَصْــدٌ"  وحـــرفٌ  "بَيَاتُ"

    قلت:  هذي  "حماة"  أم  النواعــير

    ومــــن   نُعــمــــيـاتـــهــــــا  أقــــتــــــــــــاتُ

    قيل لي:  ما اسمها؟  وقد  تقــــصرُ

    الأسماءُ عنها  وقد  تضيقُ  اللغاتُ

    إنها  دارتي  ومــــســـــرحُ أحــــــلامـــــــي

    ومــاءُ  "العــاصــي" شـــرابي الفــــراتُ

فحماةُ ـ إذن ـ هي المعادلُ الموضوعيُّ لعاطفة الشاعر نحو المكان الذي كان موطن ولادته وموئلَ صباهُ وأهلهِ وذكرياتِه وتربيته وقيمهِ المثلى،  فكانت بلدةُ حماة إذن هي المحطة التي حطّ الشاعر ركبَ مشاعره في عشقها وهواها.

وإذا كانت "حماةُ" الوطن ُالصغيرُ للشاعر هي مُقامَ المعادلِ الموضوعيِّ لكينونة مشاعره الخاصة؛ فإنّ الوطن َالكبير الذي تنوعت أقطارُه في طائفةٍ من نصوص (مُقام الورد) وجُلِّ نصوص (مقامِ الأرجوان) هو المثال الجمعيُ، وهو المعادلُ الموضوعي أيضًا لهذا الوطن الأرحب والأكبر من جهة أخرى، ابتداءً من تحيته لشعراءِ الأردن والبحرين ونشيدِ الشباب الكويتيِّ إلى القدسِ وبغدادَ وعدن؛ وبذلك يكون المعادلُ الموضوعي العام هاهنا وليدَ عواطفَ متنوعةٍ ومتعددة، اختزلها الشاعرُ في مثاله النموذجي الذي يعادله، فبدتْ هذه العواطفُ متوحدة في شخصه، من حيث كونُها كاشفة كينونتَه الوطنية َالصادقة، فاضحةً  ـ في الوقت نفسه ـ كينونتَهُ الداخلية َالنقية التي اندغمتْ مع المُحرِّض الخارجي (الوطن) في وحدة شعورية، تجلت أكثرَ ما تجلت في نصوص "مقام الأرجوان".

ففي نصوص هذا المُقام يمكننا أن "نتلمّس الخصبَ والدقة في الانطباعات العاطفية"(5) التي تدفقت تدفقًا جياشًا، وانساحت انسياح الغدير في الواحات الخصبة؛ ثم "إن نظم الشعر لا ينبعث إلّا عن إحساس ولا يصدر إلّا عن عاطفة ووجدان"(6)، وإن القصيدة ليست  شعرًا إذا لم تسدها عاطفة قوية"(7).

لقد تمحورت مشاعرُ الشاعر في وحدةٍ كلية تشمل (وحدةَ الوطنين: الصغير -"حماة" والكبير ِ"سورية") ووحدة ِالوطن الأكبر وهو الوطن العربي المثال؛ وهذه الوحدة الكلية سطعت قويةً جلية من خلال معيار ما اصْطُلح عليه بالمعادل الموضوعي الذي يقرر "إليوت" بأن: "الطريقة َالوحيدة للتعبير عن العاطفة هو إيجاد معادل موضوعي لها". ولقد تكشّف لنا أن هذا الوطن الأكبرَ المثالَ كان هو الصيغة َالتي تموضعت فيها انفعالاتُ الشاعر وانطباعاتُه العاطفية في وحدةٍ اتجهت نحو الغاية المنشودة؛ كما يرى "إليوت وماتيسن".

ويرى "اليوت وباوند" ـ أيضًا ـ أن القصيدة يجب أن يكونَ "غايتُها إحداثَ أثرٍ كلي وذلك بوحدتها"؛ واتفق كلاهما أيضًا "على ضرورة" الإيجاز في الأثر الفني"(8) كما يرى "ماتيسين".

• المعادل الموضوعي الإنساني في نص المقامات:

يسطع المعادلُ الموضوعي الإنساني سطوعًا قويًا في مقامين اثنين هما: "مقام المودة ومقام المسرة" من خلال العاطفة الأبوية في المقام الأول، ومن خلال العاطفة الأخوية في المقام الثاني؛ ولا جرم أن هاتين العاطفتين وليدتا تكوينِه التربوي وقيمِه المثلى؛ فالشاعر مشهود له بأنه رائدٌ تربوي، وعلَمٌ من أعلام القيم المثلى، فقد سلخ شطرًا طويلًا من عمره في تعليم الأجيال وتربيتهم، وكان النموذجَ الأمثل للوفاء والخلِّة الإخائية، لجميع أصدقائه وأحبابه ومحبّيه ممن تعرَّفهم وتعرَّفوه؛ ومن خلال هذا المحيط الخارجي الذي اكتنفَ شاعرَنا وقرَ في حسه الداخلي شعورٌ نضح معادلُهُ الموضوعيُّ بما تمخض عنه توأما هذين المحيطين (الخارجيِّ والداخلي).

يقول "إزرا باوند" الذي سبق "إليوت" إلى طرح معيار المعادل الموضوعي فسماه"المعادلة": "إن الشعرَ نوعٌ من الرياضيات المتلقاة إلهامًا، ويعطينا معادلاتٍ لا للأرقام المجردة والمثلثات والكرويات وما أشبه ذلك؛ بل للانفعالات الإنسانية"(9) "وينبغي أن يكونُ التعادلُ بين الشيء الماديِّ أو الرمزِ وبين الانفعالِ الذي يثيره تامًّا"(10).

• المعادل الموضوعي للعاطفة الروحية والعاطفة الفلسفية الذاتية:

تنسّم الشاعر رحيقَ تقواه من عالَمِهِ الخارجيِّ المُتمثلِ في بيئته الدينية التربوية الخاصة، وفي بيئته التربوية ِالعامة التي لقف ثقافتهَا الدينية من مشاهير علماءِ حماة َوروادِ حضارتها، في أواسط الثلث الثاني من القرن العشرين، فتشبّعت روحُه وعواطفه بأريج هاتين البيئتين. يؤكد ت. س. إليوت أنّ" الحتمية الفنية تكمن في ملائمة الجو الخارجي التامة ِللعاطفة". وقريب من هذا التعريف ساقه الإمام "عبدُالقاهرِ الجُرجانيُّ" في كتابه "دلائل الإعجاز" وحدّهُ في معيارٍ فنيّ حين أطلق عليه مصطلح "التجسيد"، وعليه فإن التعويضَ النفسي الروحي لهذه الحالةِ الشعورية أو "ذلكِ الرامزِ الكاشفِ عن المنحى النفسي للمُنجِز المُبتدِع والمُنجَز المُبتدَع معًا من خلال الرمز والمرموز، وفي إطارٍ من جَدَل العلاقة وجَدْلها بين عالَمَيْ المُبدِع: الداخلي الخارجي على حدّ سواء"(11) يشير بقوة إلى المعادل الموضوعي الديني لعواطفِ الشاعر واختلاجاتِها الشعوريةِ كما لمسنا ذلك في تعزيتِهِ لكبير علماء القراءات القرآنية "شيخِ القرّاء سعيد العبدالله" ص24، وفي نصه "ابتهال" ص9  يقول مناجيًا ربه متوسلًا إليه:

 يـــــــاربِّ   إني   لائـــــذٌ    بحــمــــاكا

                  فالطفْ   بعبدك   إنه   ناجاكا

سبحانَكَ  اللهم  أنت  خلقتني

               وجعلتني فوق  السماك  سماكا

ومنحتني مالستُ أجحد فضله    

               صـــورَ  البيان  فما  أجـــــلَّ عطاكا

وأنا الضعيفُ المستكين وأنت لي

               نعمُ  المعينُ  فلا عدمت حماكا

يامـــن  إذا  نوديتَ  يــــاربّــــاهُ ..  يـــا        

              غــوثــاهُ.. لا  بشرى  سوى  بشراكا

ولما كان الشاعرُ وليدَ بيئة تصارعتْ فيها الأفكارُ والمذاهبُ الفكرية والإيديولوجيةُ من قَبْل ِ ستينات القرن ِالعشرين، فقد تمخّض عنها صراعٌ داخلي في عاطفته، فكادت نفسُه أن تتيه، وعقلُه أن يُسلَب، فراح يستفزّ إنسانَه المخبوءَ في أعماق ذاته ورغباته المكبوتة فيها، يستشعر العجزَ والتقصيرَ أمام ما ينبغي عليه أن يكون؛ شأنُهُ في التكوين شأنُ جميعِ الخلْقِ شكلًا ومزايا، فهو ليس ملاكًا طاهرًا، ولا هو بالمتورع عن اقتراف الآثام والخطايا، كما أشار إلى ذلك في نصه "من الأعماق" ص41:

عندما  يستيقظ  الإنسان  في أعماق  ذاتي          

عندما  تولد   في  نفسي  ألوف  الرغــبــــاتِ

عندما  أشــعــر  بالقوة   في  وجـه  الطــغاةِ

أجـــد  اللــذات ِ والآلاَم َ في دنيـــــــا حـــيــاتــــي     

                      ******

أنا في التكويـن مثلُ الخلـــق  شــكلًا  ومزايـا

لم أكـــنْ يومًا مــلاكًا  طاهــــــرًا  بين   البرايــــا

لي   أضــــاميمُ   عباداتٍ  وأشــــلاءُ   خطايــــا

ومن  الآثام  في  قلبي   وفي  روحــي  بقايا        

هذه الحالة ُالشعورية التي هزهزتْ كيانَهُ النفسيَّ والعقلي، دفعته لمناجاةِ الخالق مبتهلًا إليه أن يتحرَّى أسرارَ وجوده، وأبعادَ فنائه وخلوده، وأن يعبَّ من خمر المعاني السُّكْريّة ـ وهي الخمرةُ الصوفية ـ التي ينتشي الشاعرُ بنشوتها، ليتجلى له في سناها الخالقُ البارئ، فيتملّى رَوْحَ ذاته، وينهلَ من راحه وتجلياته، فتسكَنَ بلابلُه، وتستريحَ وساوسُه، وتقرَّ جوارحُه ونوازغُه .. إنه العاجزُ الذي لا يقوى على دفع هواجسِه العاطفية القلقة التائهة، وإنه المُستسلم لضعف هذا الإنسان الذي يمور في ذاته:

آه  لـــو  تعكــس  لي  المرآة ُ  أســـرارَ  وجــــودي

لو  ترى  عــيـنـاي   أبعـــادَ  فــنــائــي   وخــلـــودي

فأرود  العالم   المجهول  في  أقسى  الحدود

وأزيح  النجم من دربي  وأمـضي في  صعودي

                            *******

يــا نديمي   يــا نديــم  الــراح  لا  تُهــرِقْ   دنانــي

إن في كأسيَ خمــرًا هــي من خمــر المــعــانـــــي

ليَ  منها  يـــا نديمــي  نــشــوة ٌ  بــل  نــشــوتـــان

يتـجـلّـى  في  ســـناهـــا خالـقـي محـضَ العـــيان

ثم ينتهي في رباعيته الأخيرة إلى القول:

  أنــا إنســانٌ ضـعــيــفٌ    صيغ  من طينٍ وماء   

إن هذه العواطفَ الروحية والذاتية التي اختلجت في نفس الشاعر، والأفكارَ المتصارعة التي مخرَتْ عقله، وهزّت وجدانَهُ الإنسانيَّ الفلسفي، طفَتْ إشاراتُها على سطح النص، بعد أن تململتْ هواجسُها المكنونة ُفي عمق النفس، لتتكشفَ مراياها ساطعةً من خلال المعادل الموضوعي الذي جزم "إليوت" على نعته بأنّ "الطريقة َالوحيدة للتعبير عن العواطف بشكل فنيٍّ تكمن في إيجادِ معادل موضوعي لها"؛ وعليه فإن العاطفة هاهنا اُسْتثِيرتْ مباشرة ، فورَ أن أُعطِيتْ هذه الحقائق َ الخارجية على حد قول "إليوت"، والتي جسّدتها الكينونة الشاعرية على حد مفهوم الجرجاني كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذه القراءة التحليلية.

• التشكيلُ الفنيُّ ـ الجماليُّ للمعادل الموضوعي

أولًا ـ التشكيل الفنيّ التخييليّ:

 يستعير د. "محمد مختار جمعة" مفهومَ المعادل الموضوعي من مخترعيه الحداثيين " إزارا وإليوت" قائلًا: "إن المعادل الموضوعي هو هذه الطريقة (التي) إذا تضمَّنت رمزًا أو قناعًا أو خَلْقَ موقفٍ أو سلسلةٍ من المواقف تُعادل العواطفَ والمشاعر والأفكار، فإننا يمكن أن نطلقَ عليها مصطلحَ المعادل الموضوعي؛ ويرى أن كلَّ معادلٍ موضوعي هو معادلٌ تعبيريٌّ ولا عكس، وأن كلَّ معادلٍ لغوي هو معادلٌ تعبيري ـ أيضًا ـ ولا عكس. وإذا قُصِدَ به المشاكلة َ بين الجملة والعبارة، وما تعبّرُ عنه من عواطفَ ومشاعرَ وأفكارٍ؛ فإننا يمكن أن نطلق َعليه مصطلحَ المعادلِ الأسلوبي"(13).

وإذا استقرأنا عُنوانات النصوص الشعرية في المقامات الحموية استقراءً فنيًا سيميائيًا سريعًا؛ فإننا سنجدها تشكل أيضًا معادلًا موضوعيًا في إطارٍ من الكينونة الفطرية التي جُبل عليها عشقُ الشاعر للموروث الكلاسيكي، إذ تعدم في كثير من المواضع دلالاتِها الهيرمنيوطيقية التي تشفُّ أكثر ما تشف من الرمز والمرموز اللذين لم نجدْ لهما سطوعًا في السيميائية البِنيوية لهذه العُنوانات؛ وهذه نماذجُ منها (ابتهال/بكته حماة الشام/لست أنساه/داري/حماة/تحية إلى شعراء الأردن والبحرين/سوف تبقى بغداد/عدن/ شهيد/ ياقوم يا قوم/معركة الكرامة/قصيدة التكريم/أنا والشعر/ولك المجد/ولدي/ نشيد الكويت .... إلخ)

ولما كان الشاعرُ من عشاق التراث، والمسبّحين َبحمدِ أمجاده وسجايا رواده، من قادةٍ وعلماءَ وشعراء، فقد كان لهؤلاء الروادِ ـ غابرِهم ومُعاصرِهم ـ مساحة ً شاسعة في مكنون عواطفِه التي لمسناها في مديح بني أيوب: أمثالَ تقيِّ الدين عمرَ بنِ شاهنشاه وصلاحِ الدين الأيوبي وابنِ قسيم ٍ وابنِ مليك الحمويين في القرن السادس الهجري، وابن ِ حجّة الحموي في القرن التاسع الهجري ممن غبروا، وأما نماذجُه الكلاسيكية في العصر الحديث فأمثالُ: الشيخ الهلاليِّ وبدرِ الدين الحامد وعمرَ يحيى ووجيهٍ البارودي وغيرِهم في القرنين التاسعَ عشرَ والعشرين الميلاديين.

إنَّ الصورة َالمعنوية ـ المثالية لهؤلاء الرواد ذاتُ مدلولٍ تاريخي وإنساني وثقافي على حد سواء، انعكستْ مزاياها ومراياها في حسِّ الشاعر وعقلِه، فكانتْ ترجمة ًناطقة بارقة لعواطفِهِ الرعدية ـ جسَّدها معادلُه الموضوعيُّ أنصع َ تجسيد، في إطارٍ من الوحدة والتنوع.

إنها الصورة ُالفوتوغرافية الفنية التي رسمت معادَلَهُ الموضوعيَّ المعياريَّ للتشكيل الفني، فنضح جَرّاءه شعرُهُ بديباجته الكلاسيكية، التي تصاقبتْ مع هذا المُعادل، الذي ترجمَها موروثُهُ البلاغيُّ من خلال مفرداتِ علمِ البيان، في التشبيه بأنواعه والصورِ الاستعارية بأنواعِها، والمجازِ المرسل بتفريعاته البلاغية أيضًا؛ وهذه نماذجُ منها:

(يا زهر الربيع/أنت كنز الأريحيات/وأنت راية/وكان لي منارة/سجاياه من عطر وشهد/مصابيح دجنة/ كالروض عاطرًا ص 21) و(أضاء حوالكي/عفّ الخطا/كالليث في بيدائه/آياته من عسجد/ إلخ ...  ص 93).

ولعل طغيان َعشقِهِ للتراث الأدبي بما فيه من مُعطياتٍ بلاغية ـ مجازية، صرفه عن اختيار التشكيل الفني الحداثي، بما فيه من معاييرَ جماليةٍ، تتيح للشاعر تحديثَ الصورة الفنية، وتطويرَ شكلِهَا من خلال تثويرِ قوالبها الرتيبة، وتحويرِ أنماطها المكرورة. ولا جرم أن عشقَ الشاعر للموروث الشعري دليلٌ ساطع وبرهان مانع على مدى تمثّله للصورة الكلاسيكية، وتصريفِها في مُجمل نصوصه الشعرية التي لمسناها بتفريعاتها البيانية، ومجازِها العقليِّ الإسنادي، ومجازِها المرسل بكل تفريعاته البلاغية، وما يُحقّقه هذا المجاز من إيجازٍ ومبالغة وتحفيزٍ للخيال وتنويعٍ في الأسلوب، كـ[السببية والمسببية والكلية والجزئية واعتبار ما كان واعتبار ما سيكون والمحليّة والحاليّة].

إن انكبابَ الشاعر في مسيرة حياته الأدبية على قراءة الموروثِ الشعري، نجم عنه هذه التشكيلاتُ التخييلية، والديباجاتُ التركيبية التي سكنت خيالَهُ، وعشَّشَتْ في حدسه، فتمخض عن ذلك كله هذا المعادلُ الموضوعي: الأسلوبيُّ والتعبيري واللغوي على حدٍّ سواء؛ وقد نعذر الشاعرَ في أنَّ إلحاحَ الصورة ِالتعبيرية الموروثة بوجه عام، واستدعائِهَا في مخيلته بشكل دائب، هو الذي أفضى به إلى الأَسْر المحتّم في حِمَاها الفاتن، وإلى إحكامها الأغلالَ حول أسواره وجدرانه، بحيث لم يستطعِ الفكاك من هيمنتها الشعورية، فبقي حبيسَ تلك الأغلال الطاغية، والأسوار المحكمة العاتية.

لقد أجاد الشاعرُ استدعاءَ الصورة الفنية الكلاسيكية بقدرة فائقة، تمثلت روح عماليق الشعر التراثي أمثال: البحتري وأبي تمام والمتنبي والحلّي وغيرهم، فهو لم يعدم استحواذَ كثيرٍ من المحسنات البديعية الموروثة، كحسن التقسيم والترصيع والتصريع والتجنيس بنوعيه: التام والناقص، فضلًا عن التورية والتشكيلات الكنائية، وغيرِ ذلك من أصناف البديع وألوانه، وانصهارِها جميعًا في بوتقته الديباجيةِ الرشيقة، وفي توشيحاتِه اللفظية الأنيقة، محققًا وظائفَها الفنية َ الجمالية على أتم وجهٍ وأكملِهِ.

هذا، ولم تعدمْ نصوصُه ـ أيضًا ـ جُلّ التفريعات البلاغية لعلم المعاني كالقصر والفصل والوصل والإيجاز والإطناب والمساواة. وبذلك تكونُ علومُ البيانِ والبديع والمعاني صدىً صارخًا لمعادلِهِ الموضوعيِّ البلاغي، فقد تناثرت تفريعاتُ هذه العلومِ من لاوعي الشاعرِ في جُلّ تضاعيفِ نصوصِه الشعرية في مقاماته الحموية.

ولا يسعنا هنا تقييمَ سيميائية هذا الموروثِ وتحليله، ونبشِ ما فيه من جمالياتٍ فنية حداثية؛ لأن غرضَ البحث هاهنا هو فقط استنطاقُ المعادل الموضوعي، لجميع المُعادلات المعيارية المتنوعة التي تضمنّت عواطفَ الشاعر المتعددة، ونضحتْ بها أفكارُه المتناثرة في شتى المقامات. ثم إن هذا الموروثَ الفني ينأى بنا عن استشفاف واكتشاف كثيرٍ من المعايير الحداثية، وعلى رأسِها معيارُ الانزياح بأنماطه الأربعة: المجازيةِ والإيقاعية واللغوية والدلالية التي جعلها "الدكتور نعيم اليافي" في أربعة مستويات؛ الأول: سماه القريبَ الذي يستنسخ الصورة َالشعرية العامة استنساخًا فوتوغرافيًا طبقَ الأصل، دونما تحويرٍ أو تثوير أو تطوير؛ والثاني: الممكنُ والمقبولُ الذي اتسم بتحويرٍ طفيفٍ في أدوات الصورة وتشكيلِها الجديد؛ وهو ما تمثله بعضُ ألوانِ الصورة الفنية العامة في نصوص المقامات كقوله: (أنت كنز الأريحيات ص21) و(أورق الجرح/شهوة الكفاح/الميادين أقفرت/خمر النضال/وتري ظامئ ص71).

والثالث: هو الناضحُ بشتّى الدلالات والإشارات المضببة والمُشفّة في آنٍ معًا؛ والرابع: هو المُعمَّى المغلقُ الذي تنفر منه الذائقةُ الفنية، وترفضُه الفطرةُ السليمة. فليس من الممكن هاهنا ـ كما أسلفنا ـ استنطاقَ مثلِ هذه الانزياحات، لأنّ طبيعة النصِّ الكلاسيكيَ النمطيّ، لا تُسعفُ الناقد في استدعائها، ونبشِ معظم أنماطِهَا، ومستوياتِها الفنية التي أشرنا إليها لاحقًا؛ وما يقال في الانزياح يقال أيضًا في شتى المعايير الحداثية الجمالية الأخرى، التي لا نرى من الضرورة سردَهَا والإشارة إليها. يقول د. نعيم اليافي: "إن الأشكالَ البلاغية أو الصُّوَرِية ترتبط بالانفعال وتصدرُ عنه؛ والانفعالُ متغيّرٌ ومتبدّل من عصرٍ إلى عصر؛ فلكلِّ تيارٍ كما لكلِّ فترةٍ حساسياتٌ خاصة، وقِيَمٌ شعورية ٌخاصة؛ ولابد أن تخضعَ ضُروب الأشكالِ الصُّوَرية لهذا التغيّر أو التبدّل الذي هو سنة الحياة والكون"(14) و"من هذه المصطلحاتِ الفنية الجديدة العربية والغربية مصطلحا: [التعاقب والاستبدال] اللذان يقاربُهما في المصطلح العربيّ مصطلحا: [الجوار ِ والاختيار] أو [الضم والتأليف] ، ومنها مصطلحُ [التجسيد] الذي يقاربُه في النقد الغربي مصطلحُ: [المُعادل الموضوعي] أو مصطلح: [الانحراف] الذي يعوّلُ على كسر السياق، وهو الذي أشار إليه ابنُ جني في خصائصه؛ والذي ينتهي عند الحداثيين إلى ما يُعرَف بالنص المغلق، أو اعتباطية ِالإشارة، التي تبناها السيميولوجيون، أو لا نهائية ِالدلالةِ التي تبناها التفكيكيون، أو ما يُعرَفُ: [بالمسكوت عنه] الذي أجاد "الخطابيّ" التنظيرَ فيه، والتمثيلَ له. إلى غير ذلك من المصطلحات التي انطوت عليها تنظيراتُ البلاغيين العرب وتحليلاتُهم البلاغية، منذ أكثر من ألف عام"(15).  

ومما لا شك فيه ـ في زعمي ـ أن النصَّ التقليديَّ النمطي، يخضعُ في جميع قوالبِه الفنية للتفسير التوضيحي لا للتأويل (الهيرمنيوطيقا)؛ بمعنى أن النصَّ الإبداعي إن لم يخضعْ للتأويل فهو نصٌّ ناءٍ نأيًا مُحتّمًا عن المعايير الجمالية التي نظّر لها الحداثيون الغربيون الذين تَنَاصَّوْا مع حداثيينا التراثيين؛ وقد يُصدَم القارئ من قولنا (حداثيينا التراثيين) فنقول: إن الحداثة لا تتأطّرُ في أي زمكان، فهي حدَثٌ ديناميكيٌّ يرفضُ جميعَ أشكالِ المألوفِ والسائدِ والنمطيِّ المكرورِ في كل العصورِ والحضارات، سواء أكانت هذه العصورُ وتلك الحضاراتُ غابرة، أم كانت معاصرة، أم ستكونُ في مستقبلِ الأجيال القادمة؟. 

ويرى "د. اليافي" ـ أيضًا ـ أنه ينبغي على "أولئك الذين يحاربون كلَّ تعبيرٍ جديد بحجة السلامة اللغوية أن يعرفوا الفرقَ الواضحَ بين سلامة اللغة وسلامةِ التعبير، بين طبيعةِ المنطق وطبيعة الفن، بين التقليدِ الأعمى الميّت والخَلْقِ الواعي الحيّ؛ وإذ ذاك فقط يجدون أنفسَهم مضطرين للخروجِ من أفقها الضيقِ إلى الأفق ِالأوسع والأرحب الذي يمتلئ بالعلاقاتِ الجديدة، وأشكالِ التعبير الجديدة؛ لأنه أفقٌ يعجُّ بالحياة والنضارة، إنه أفُقُ عبقريةِ الإنسان، مُبدعِ الفن وخالقِ الصورة.."(16)

ويرى "د. اليافي" ـ أيضًا ـ أن هذه الأشكالَ التقليدية باتتْ: ".. أبنية ًمُهدَّمة ً طالَ عليها الزمان، وأشكالًا استنفدتْ طاقاتِها، وخَلَقَتْ جِدّتُها، وران َعليها الموت"(17). ويتهمُ الدراساتِ البلاغية التقليدية بمعالجة هذه الأشكالِ معالجة ًسطحية، باعتبارها محسناتٍ لفظية، وتزييناتٍ توشيحية، مُرتئيًا أن للشعر وظيفتَهُ وجوهرَهُ وطبيعتَه، وداعيًا إلى أنَّ الصورة هي مرتكزُهُ الأساسُ، شرطَ أن يتحققَ فيها التوازنُ بين الجانبِ الجمالي، والجانبِ الميتافيزيقيّ والغيبيّ، في إطارٍ من الوحدة التكاملية الشاملة.

ثانيًا ـ المعيارُ الفونولوجيُّ(3) Phonology للمعادل الموضوعي:

إنّ لاوعيَ الشاعرِ الذي تمخّضَ عنه الوعيُ الفنيُّ في المُعادلِ الموضوعيِّ لنصوص المقامات، هو انصياعُ الشاعر مُجبرًا لا مُختارًا للفونولوج الموسيقيِّ الكلاسيكي، بفعلِ عشقِه للتراث الغابرِ المتمثلِ في مديح بني أيوبَ ذوي الأمجادِ التليدةِ والمناقبِ الحميدة، وبفعلِ عشقه لرجالاتِ القرنِ التاسعَ عشرَ والعشرين؛ وهؤلاء جميعًا نموذجٌ للكلاسيكية الحديثة أيضًا. لهذا كله كانت هذه الحقائق على حدِّ رؤية "إليوت" ردَّ الفعلِ الساطعِ في اختيار الشاعرِ نصوصَهُ مموسقةً بالإيقاع ِالموسيقي التراثيِّ المبنيِّ على الوحدات الموسيقية ِالمتناظرة، التي لمسناها في جُلّ نصوص "قيطازٍ" الشعرية، وفي المحسناتِ البديعية واللفظية في بعض تراكيبِ أبياتها على مستوى وحدة البيت، التي  تموسقتْ جميعُها من خلال (البحرِ الطويل والكامل والوافر والخفيف والرمل والبسيط)؛ وتمثلُ هذه البحورُ السُّلَّمَ الموسيقيَّ الأظهرَ والأشهرَ في سيمفونية الخليل ِبن ِأحمدَ العروضيّة.

 

الهوامش:

(1) انظر: المعادل الموضوعي في مدائح أبي تمام الطائي − د. فوزية علي زوباري ص 481.

(2) انظر ماتيسن، إليوت الشاعر الناقد ص 132.

(3) انظر ماتيسن إليوت الشاعر الناقد / ص 89

(4) انظر: (مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق – المجلد (87) ج 2/ ص 492        

(5) انظر: ماتيسن: إليوت الشاعر الناقد / ص 13

(6) انظر: بكار، يوسف حسين: القصيدة العربية / ص 81 / دار الثقافة القاهرة 1980)

(7) انظر: ماتيسن: إليوت الشاعر الناقد / ص 98 و99)

(8) انظر المصدر السابق / ص 99

(9) ستانلي هايمن. كتاب النقد الأدبي ومدارسه الحديثة / ص 171

(10) المصدر السابق/ص 30

(11) التعويض المجازي ـ النفسي للمعادل الموضوعي في نص أسماء القاسمي لكاتب هذه القراءة التحليلية.

(12) د. محمد مختار جمعة مبروك: المعادل اللغوي في ضوء النص القرآني ص 54 بتصرف يسير. ط القاهرة دون تاريخ.

(13) اليافي د. نعيم : مقدمة لدراسة الصورة الفنية ص 66. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دمشق

1982م

(14) من كتابنا "التّناصُّ الحَداثيُّ مَعَ مَنْظومَةِ إِعْجازِ القرآنِ الكريم البَلاغِيَّةِ" مخطوط 2003م.  

(15) اليافي د. نعيم: مقدمة لدراسة الصورة الفنية ص 66

(16) المصدر السابق ص 67

(17) وضع هذا المعيار الصوتي "مدرسة براغ" اللغوية التي كان من مشاهير جماعتها "تروبتسكوي" الروسي الأصل الأوربي المنشأ. ت 1938م وله الكتاب المشهور (أصول الفونولوجيا) في علم الأصوات.


عدد القراء: 2361

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-