التَّناصُّ الحداثيُّ لمِعْيَارِ الغموضِ الفني في مُنْجَزِنا التُّراثيِّالباب: مقالات الكتاب
د. نبيل قصاب باشي الإمارات العربية المتحدة |
لما كانت ظاهرة الحذف البلاغية عند العرب أحد نواتج الدلالات الغامضة التي تثير شهوة الكشف ولذة البحث عن المخبوء في النص الإبداعي، فقد رأينا أن نبسط القول في هذا المعيار الجمالي الذي أثار مواقف النقاد منه فيما سبق وفيما لحق من العصور؛ نقول بادئ ذي بدء: لقد أفادت المعاجم العربية بأن المسألة الغامضة هي المسألة التي فيها دقة ونظر. ومعنى غامض: أي معنى لطيف. وفي المعاجم الإنجليزية المعاصرة يفيد مصطـلح الغموض (Ambiguty) معنى اللغة المجازية (Figurative Language) أو تعدد احتمالات المعنى؛ واللغة المجازية تعني تلك اللغة التي تمثل المستوى الفني والجمالي المتصل بالدلالات والرموز المرتبطة بالأعمال الإبداعية(1).
فالغموض الذي نريده هنا هو هذا الغموض الذي أشار إليه جل البلاغيين العرب الذين عدُّوه عنصراً فنيًا، يثري النص الإبداعي جرَّاء اللذة الحسية والذهنية الناجمة عن المخبوء في اللامتوقع أو اللامنتظر في إشارات النص وجمالياته الفنية؛ حيث يحفّز المتلقي في تصيُّد الدلالة، ويثير ذهنه في الكشف عنها، ويحثُّهُ على أنْ يُعمِلَ ذاكرتَهُ الثقافية في البحث عن تعدد دلالاتها، والاجتهاد في فك رموزها.
ولا جرم أن البلاغيين العرب وعلى رأسهم ـ الخطابي والجرجاني ومن بعدهما السجلماسي ـ سبقوا الحداثيين الغربيين في تأصيل معيار الغموض الفني، وذهبوا مذهبًا فنيًا متغوِّرًا في فلسفة هذا العنصر الجمالي، في الوقت الذي أنكروا فيه ما يسقط به النص من غموض مغلق يفضي إلى التعمية والإبهام والاستغلاق والألغاز مما يصرفه عن وظيفته الفنية.
وقد استفاض البلاغيون العرب في تحديد الغموض ووظائفه، واختلفوا في أسبابه؛ أهو في مفردات الكلام، أم في تعقيد التركيب النحوي، أم في بُعد الاستعارة والتشبيه واستغلاقهما، ولكنهم اتفقوا جميعًا على مصطلحات مستساغة في توصيفه كخفاء المعنى أو تعدده، سواء أكان في المفردات أم في التراكيب، وسواء أكان في البنية الصوتية للكلمة فقد استخدم سيبويه (ت 180هـ) مصطلح اللبس للدلالة على الغموض الناجم عن وجود لفظ أو تركيب تعددت دلالات معانيهما.
وأول بلاغي عربي استخدم مصطلح الغموض في كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري" هو الآمدي (ت 370هـ) حين وصف شعر أبي تمام بالغموض والاستغلاق في المعاني والصور، وأنه يجنح إلى النزعة الفلسفية والتعقيد والغموض. وهذا التحليل المبدع للآمدي يكشف عن ماهية الغموض ووظيفته الفنية في الشعر، وبذلك يكون الآمدي أول من أصَّلَ لمصطلح الغموض الفني، ثم تبعه النقاد العرب القدامى كأبي اسحق الصابي (ت 384هـ)، حين قال: "إن طريــق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسل هــو ما وضــح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلـة ما تضمنته ألفاظه. وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه" (2)
وقد استخدم عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) مصطلح الغموض من خلال الإشارة إليه مباشرة أو من خلال مصطلحات: الحذف وترك الذكر والصمت عن الإفادة والإبانة والتوسع والغرابة ومعنى المعنى ذاهباً إلى أن الغموض جوهر الشعر وسر فصاحته.
أما الغموض عند السلجماسي (ت القرن 8هـ) فقد صاغه في مصطلحات مختلفة، تمنح النص سمة الإبداع كالكناية والإشارة والغرابة والعدول وغيرها(3)، وأشار إلى أن جماليات هذه المصطلحات تمنح المتلقي أجواء من اللذة والدهشة على المستويين الحسي والعقلي. وأما في النقد الحديث والنقد الحداثي فقد سرد الناقد الإنجليزي وليام امبسون (William Empson–1906) سبعة أنواع للغموض في كتابه المعروف "سبعة أنماط من الغموض"(Seven Types of Ambiguity) الذي نشره عام 1930م، معرّفًا الغموض بأنه: "كل ما يســمح لعدد من ردود الفعــل الاختيارية إزاء قطعة لغوية واحدة"(4) . وبناء على ذلك فقد حدد أنماط الغموض في سبعة أنواع هي (5):
1.النوع الأول: يتجسد في دلالات متعددة كما في الاستعارة البعيدة أو الإيقاع أو الوزن.
2. النوع الثاني: في التركيب نحوي الذي يفضي إلى تعدد التأويلات.
3. النوع الثالث: في جملة من المفردات أو التراكيب ذات الدلالات المشتركة.
4. النوع الرابع: في جملة من التراكيب ذات التعقيد في المعاني المتبادلة.
5. النوع الخامس: في عدم قدرة المؤلف على تحديد مراده.
6. النوع السادس: في استخدام المؤلف عدة تراكيب ذات معاني متناقضة.
7.النوع السابع: في التعارض أو التناقض الذي يقع في لغة المؤلف مما يفضي إلى نوع من التشتيت الذهني.
ولا جرم أن هذه الأنماط جميعها هي من صنع البلاغيين العرب كما مر سابقًا؛ ولعل الجرجاني ابن القرن الخامس الهجري قد سبق امبسون في تعليله الجمالي لظاهرة الغموض، وفي فلسفته البلاغية لوظائفها الفنية؛ والغريب في هذا المعيار أن بعض النقاد من الحداثيين العرب ومن حداثيي الغرب قد نسبوا هذا السبق الفني إلى الشاعر الإيطالي دانتي (Dante) وإلى الناقد والشاعر الإنجليزي جريرسون (Grierson) الذي كشف عن بعض مظاهر الغموض في شعر بعض الشعراء وتعدد مستويات المعنى فيه. ومما ينبغي ذكره أن بعض المتقدمين من البلاغيين العرب أخطؤوا إصابة المراد من وظيفة الغموض الفنية؛ كالمرزوقي الذي صنف كتاباً في تفسير غامض معاني أبي تمام سماه "شرح المشكل من شعر أبي تمام"، وعَدَّ تصيُّدَهُ للمعاني الغامضة التي يزخر بها ديوانه غثاً ثقيلاً (6). وضرب على ذلك مثالاً من شعره:
ولَهَتْ، فأظلمَ كلُّ شيءٍ دونَها
وأنارَ منها كلَّ شيءٍ مُظلمِ
ثم عقب المرزوقي قائلاً: "لما جزعتُ لفراقها اشتد جزعها علي، فأظلم كل شيء في عيني سواها ومن دونها، وبان لي ووضح من مكتوم أمرها ومكنون ودها لي ما كان مغيبًا عني، ومظلمًا علي، ويجوز أن يكون المعنى: ارتاعت لما أحست بالفراق، وتولهت، فألقت قناعها، فأظلم كل شيء دونها لسواد شعرها، فأنار كل شيء مظلم من بياض وجهها، والأول أوضح وأجود". وهل هذا المعنى الجميل معنى ثقيل؟ أليس في غموضه الواضح ما يفتح نوافذ عدة للذة الكشف والتأويل والتعليل، ولكد الذهن الذي امتدحه أبو إسحق الصابي في البحث عن المعنى بعد مماطلة منه ومجالدة؟
والحق أن بعض النقاد القدامى تنبَّه بشكل واع للتفريق بين نوعين من الغموض، الأول: هو الغموض الذي يسلمك إلى ملامح من المعنى، والآخر: الذي يسلمك إلى معاناة في البحث عنه لكن دونما طائل ولا جدوى، يقول عبدالقاهر الجرجاني: "وإنما يزيد الطلب فرحاً بالمعنى وأنسابه، وسرورًا بالوقوف عليه، إذا كان ذلك أهلاً؛ فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به، ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك ثم لا يروق لك" (7)؛ وبذلك ينأى المبدع الواعي حداثيًا عن أن يتعبك أو يؤرقك بلا جدوى؛ لأنه واع حقاً إلى عدم تبنّيه مقولة "الغموض للغموض أو الرمز للرمز أو التلفيق للتلفيق" ـ على حد قول العقادـ؛ ولو لم تثر ظاهرة الغموض في الإبداع ضجة ذوقيةـ معرفية لمنزلتها الفنية في المنجز الإبداعي وتاريخه الفني، لما حظيت دواوين الشعراء كالفرزدق وأبي تمام الطائي، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العلاء المعري بالشروح المتعددة والتأويلات المختلفة، ولما أثارت مسائل خلافية وجدلاً بين النقاد القدامى.
ولما كان هذا العدد الغفير من المصنفات النقدية القديمة في الغموض ووظائفه الفنية أمثال "الموازنة" للآمدي و"الوساطة" للقاضي الجرجاني و"أسرار البلاغة" لعبدالقاهر الجرجاني"، ولما كان هذا الحشد الوفير أيضاً مما كتب في الغموض في العصرين: الحديث والحداثي كـ"الرمزية والأدب العربي الحديث" لأنطون غطاس كرم، و"الشعر العربي المعاصر" للدكتور عز الدين إسماعيل، و"ثورة الشعر الحديث" للدكتور عبدالغفار مكاوي، و"شعراء المدرسة الحديثة" لروزنتال، و"مقالات مختارة لـ"ت ـ س ـ إليوت" و"سبعة أنماط من الغموض" لإمبسون، و"الذهن الأدبي" لماكس إيستمان. وغيرها من كتب النقد وبحوثه المختلفة منذ بداية القرن العشرين.
إن الغموض ظاهرة فنية صحية إذا شفَّتْ عن معنى وأبانتْ عن دلالة، ولا ضير أن يكون للمتلقي مشاركة في استشفاف المعنى واستكشافه، كما لا ضير إن كان لمتلق آخر استكشاف واستسشراف آخر؛ لأن إنجاز البصمة الإبداعية في الفن لا تتأتى عن يسر وسهولة ودراية سطحية؛ بل تتأتى عن عمل إبداعي معقّد في صيرورته وتخليقه، ناجم عن ثقافة فنية معمقة؛ يقول رينيه ويليك: "إن العمل الأدبي الفني ليس موضوعًا بسيطًا، بل هو تنظيم معقد بدرجة عالية وذو سمة متراكبة مع تعدد في المعاني والعلاقات"(8)؛ والفن الممتع عند سانتيانا هو اللذة التي "هي جوهر إدراك الجمال، ولكنه من الواضح أن لذة الجمال تتميز بشيء من التعقيد تخلو من اللذات الأخرى" (9) و"كلما ازداد الفن غموضاً زادت فيه قوة الإيحاء"(10) .
ولا جرم أن ثقافة المبدع ينبغي أن تكون أعمق وأشمل من ثقافة مجتمعه (متلقيه) لأنها هي التي تُملي على نصه بصمته الإبداعية التي يحاول من خلالها تشكيل نص مُغرِبٍ مُعجِبٍ؛ لذا لا بد من أن يكون للشاعر ثقافته المتميزة، ليستطيع تجاوز المشترك الاجتماعي الثقافي العام الكائن بينه وبين متلقيه العاديين، من هنا يكوّن المبدع أفقًا معرفيًا مجهولاً، ومفهومًا شعريًا غريبًا، يغلّف نصه بالغموض والإبهام نتيجة لهذا، وتدهش المتلقي وتحفزه.
ولكننا لا نرى في الإبهام عنصرًا فنيًا مستساغًا إذا قُصد به الإغلاق والتعمية، والنقاد يفرقون بينه وبين الغموض الفني المشفّ.
ولقد واظب الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" على التأكيد: بأن تلميح الإشارة أبلغ من تصريح العبارة، وأن الصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وأن أفصح النطق هو ألا تنطق، وأرفع البيان وأتمه هو ألا تُبين؛ وفي هذه الحال فإن الغموض أمر واقع لا محالة، جراء تعمُّد المبدع عند الجرجاني ألا يفصح نصه عن المعنى إفصاحًا فاضحًا واضحًا، وألا ينطق إلا صامتًا، مُوهمًا المتلقي أنه أمام نص صامت في غموضه، ناطق في شفافية إشاراته وإيماءاته، كما حدد السجلماسي أصناف الإشارة التي تشكل جزءًا من موضوع الكناية بالتعريض والتلويح والإبهام والتنويه والتفخيم والرمز والإيماء والتعمية والتورية (11) أو في الصياغة التي تصب جميعاً في الصناعة الشعرية؛ وبذلك يكون الغموض جراء التلويح الذي ينأى عن التصريح عنصرًا إبداعيًا؛ لأن سطحية الوضوح عند السجلماسي تنفي عن النص سمته الإبداعية؛ يقول السجلماسي مرة أخرى: "والمماثلة هي النوع الثالث من جنس التخييل وحقيقتها التخييل والتمثيل للشيء بشيء له إليه نسبة وفيه منه إشارة وشبهة، والعبارة عنه به، وذلك أن يقصد الدلالة على معنى فيضع ألفاظًا تدل على معنى آخر، ذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الدلالة عليه، فمن قبل ذلك كان له في النفس حلاوة ومزيد إلذاذ، لأنه داخل بوجه ما في نوع الكناية من جنس الإشارة، والكناية أحلى موقعاً من التصريح. ويشبه أن يكون السبب في ذلك هو أن التصريح إنما هو الدلالة على الشيء باسمه الموضوع له بالتواطؤ كما قد تقرر في دلالة اللفظ، والدلالة على الشيء بالكناية وطريق المثل إنما هو بطريق الشبه، والشبه – كما قد قيل مرارًا- هو أن يكون في الشيء نسبة من شيء أو نسب، وبالجملة هو أن يكون الشيئان في الواحد ـ بالمشابهة أو المناسبة - الموضوع للصناعة الشعرية فيوضع أحدهما مكان الآخر ويدل عليه، ويكنى به عنه، وفيه ـ أعني في الواحد بالمشابهة أو بالمناسبة - المكنى به، ما فيه من غرابة النسبة والاشتراك وحسن التلطف لسياقة التشبيه على غير جهة التشبيه، وفي التخييل بذلك كذلك ما فيه من بسط النفس وإطرابها للإلذاذ والاستفزاز الذي في التخييل"(12) ويشير السجلماسي إلى نمط آخر من أنماط الغموض في الإشارة ينجم عن "التتبيع" وهو المعنى الثاني الموحى من اقتضاب الدلالة، يقول: "والتتبيع هو المدعو الإرداف، والمدعو عند قوم التجاوز. وقول جوهره وحقيقته هو اقتضاب في الدلالة على الشيء بلازم من لوازمه في الوجود، وتابع من توابعه في الصنعة. وقال قوم: هو أن يريد الدلالة على ذات المعنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى لكن بلفظ هو تابع وقال قوم: هو أن يريد ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة. ومن صوره قوله:
ويُضحي فتيتُ المسك فوق فراشها
نؤؤم الضحى لم تنتطق عن تفضُّلِ
فإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكيفة المؤونة، فجاء بما يتبع ذلك وعبر عن الشيء بلازمه" (13).
فالعدول أو التجاوز أو الاتساع هو جوهر الصناعة الشعرية الذي يكون من أحدها الغموض، إن المبدع حين يتجاوز المعاني الأُوَل إلى المعاني الثواني يمنح المتلقي سعة في التأويل وتعدد الدلالات، فيصدمه بما فيها من تلويح وترجيح وإدهاش ولذاذة استشفاف واستكشاف، يقول السجلماسي: "والاتساع هو اسم مثال أول منقول إلى هذه الصناعة، ومقول بجهة تخصيص عموم الاسم على إمكان الاحتمالات الكثيرة في اللفظ بحيث يذهب وَهْمُ كل سامع إلى احتمال من تلك الاحتمالات، ومعنى من تلك المعاني. وقول جوهره في صنعة البديع والبيان هو صلاحية اللفظ الواحد بالعدد للاحتمالات المتعددة من غير ترجيح. وقيل: هو أن يقول المتكلم قولاً يتسع فيه التأويل" (14) وهذا المعيار المصطلح عليه بالعدول أو التجاوز يقابله عند الحداثيين مصطلح الانحراف الأسلوبي، وهو المصطلح نفسه الذي أشار إليه ابن جني في "خصائصه"، ويقابله في الإنجليزية: "Deviation". ويتغوَّر السجلماسي تغورًا أعمق في استنباط آليات الغموض التي تتشكل منها بنية النص، والتي يفتش عنها المتلقي بعد مماطلة ودقة نظر، وتدبّر مشحون بالتفكر، فالسجلماسي حريص على بيان أن مثل هذا الإبداع يُشرك المتلقي في صناعة تذوقه فيجعل منه مُشاركًا مُحاورًا، وهذا ما أكَّد عليه الحداثيون وطلبوه بإلحاح وإصرار، يقول السجلماسي: "واسم المجاز مأخوذ في هذا الموضوع من علم البيان بخصوص، ففيه استعمال عرفي بحسب الصناعة، وقول جوهره هو القول"(15).
فللمتلقي إذن دور فاعل في العملية الإبداعية، يبرز في تفكيك النص وقراءته قراءة أخرى جديدة، فهو أمام نص مشحون بالدلالات والإيحاءات والرموز والصور المعقدة، اضطربت فيها علاقات الدال بالمدلول وتشابكت علاماتها، مما يجعل النص غامضاً مفتوحًا لاحتمالات تأويلية مختلفة.
ولقد أشار الجرجاني مِنْ قبلُ إلى هذا الدور مخاطباً المتلقي بالقول: "هذا وإنَّ توقفتَ في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله، فهل تشكُّ في أن الشاعر الذي أدّاه إليك، ونشر بزَّه لديك، قد تحمَّل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشُّقّة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دُرِّه حتى غاص، وأنه لم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال المستفز للنفس المتيقن كذبه، المركب من مقدمات مخترعة كاذبة" (16)
ويشير السجلماسي إلى نمط آخر من أنماط الغموض؛ وهو التشكيك الناجم عن خفاء المعنى والالتباس والاختلاط الذي يسقط المتلقي في حيرة الإدهاش وبؤرة الاستفزاز، يقول: "والتشكيك هو إقامة الذهن بين طرفي شك وجزئي نقيض وهو من مُلَح الشعر وطُرَف الكلام، وأحد الوجوه التي احتيل بها لإدخال الكلام في القلوب، وتمكين الاستفزاز من النفوس، وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا يميز أحدهما من الآخر، فلذلك كان له في النفس حلاوة وحسن موقع بخلاف نوع الغلو؛ والسبب في ذلك أن المتكلم موهم أن ذهنه قد قام متحيراً بين طرفي الشك وجزئي النقيض لشدة الالتباس والاختلاط بينهما، وعدم التمييز بين الأمرين لخفائه على النفس على القصد الأول في طرفي النقيض ودأبهما. فلذلك فالقول المشكك هو في النهاية من المبالغة. والغاية في التلطف للتشبيه. وتقريب الشيئين أحدهما من الآخر لتمكين عدم الفرق والفصل بينهما "(17).
إن التجاذب النفسي - الفني بين المتلقي والنص الغامض، تجعل المتلقي أشد تحفُّزًا وأكثر توترًا للوصول إلى استشفاف بؤرة النص الإبداعي، وفك ألغازه المستعصية ودلالاته المتغورة، مما يزيد من إدهاشه ولذته الغامرة، بعد لأي من المعاناة وشحذ الخاطرة المحفوف بالمتعة النفسية والفكرية. يقول السجلماسي: "والاقتضاب هو اقتضاب الدلالة، وذلك أن يقصد الدلالة على ذات معنى فيترقى عن التعبير المعتاد، وعبارة التأخر من الجمود على مسلك وأسلوب واحد، من أساليب العبارة، ونحو واحد من أنحاء الدلالة، فيظهر المقدرة على العبارة عن المعاني، وبعد مرماه في التصرف في مجال القول، وتوسعة في نطاق الكلام، فيقتضب في الدلالة على ذات المعنى، والدلالة عليه باللوازم والعوارض المتقدمة، أو المتأخرة، أوالمساوقة، اعتمادًا على ظهور النسبة بين اللوازم وبين الملزوم، وقوة الوصلة والاشتراك بينهما. وفي ذلك ما فيه من الإلذاذ للنفس والإطراب لها بالغرابة والطراءة التي لهذا النوع من الدلالة. والسبب في ذلك كله هو ما جبلت النفس عليه، وعنيت به، وجعل لها من إدراك النسب والوصل والاشتراكات بين الأشياء، وما يلحقها عند ذلك، ويعرض لها من انبساط روحاني وطرب" (18).
من هنا تعد الإشارة والكناية والرمز والتعريض والتلويح والتورية والتتبيع والتشكيك والغلو والعدول أو التجاوز أو الاتساع الذي يعني الانحراف الأسلوبي عند الحداثيين إحدى آليات الغموض التي تزيد النص إبراقًا وإدهاشًا، ورونقاً غريبًا في جمال مخبوءاته، وعجائبيًا في التعبير عن دلالاته وتشكيل تصويراته، ولهذا يرى، ريتشاردز مثلاً"(19) أن الإشارة أبرع وسيلة في الشعر لجعله غير مباشر إذ يقول: "إن الإشارة هي أبرز وسيلة يستخدم بها الشعر عناصر وأشكالاً من التجربة غير لازمة للحياة؛ وإنما ينبغي اكتسابها على نحو خاص، والصعوبة التي تثيرها الإشارة ليست وإلى مثل هذا يذهب الناقد روز غريّب متفقًا مع ريتشارد حين يقول: "والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى ن وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر"(20).
إن الحداثيين الغربيين يتناصون إذن مع مُنجزنا المعياري الجمالي مُحتذين مصطلحاته النقدية حذو القزّة بالقزّة؛ فهم الذين ادّعوا اختراع كل فن وجمال وأصَّلوا له وفصّلوا، ونراهم هاهنا ـ وفي مواضع أخرى سبق أن أشرنا إليها كثيرًا ـ لا يكتفون بسلخ مصطلحاتنا الجمالية الشهيرة التي وردت في نظرية النظم البلاغية القرآنية فحسب؛ وإنما يسلخون أجزاء من عناصر علاقاتها الفنية الرأسية والأفقية أو ما يُعرَف بالإضافات الثانوية في إطار التشكيل العام للنص، لتتضافر معاً في إنتاج النص الإبداعي المُعجب المُغرب.
الهوامش والإحالات:
(1) Oxford Word power: University press 1999 :pp281
(2) ابن الأثير . ضياء الدين: " المثل السائر " ج4/6- 7 تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة ـ مطبعة الرسالة ـ بيروت 1962م.
(3) (16) انظر: السجلماسي، أبو محمد القاسم: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي،
مكتبة العارف، الرباط 1980، ص 262-266.
(4) (17) Empson, W: Seven types of Ambiguity, London 1930. P. 19. / نقلاً عن: خليل: العربية والغموض، ص 28-29. انظر، سليمان: أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر، ص 17.
(5) انظر: Empson: Seven Types of Ambigity, P. 41, 80, 104, 127, 160, 173, 184, 207, 231. / خليل: "العربية والغموض" ص 28-29.
(6) انظر: خليل: "العربية والغموض" ص 25. جبوري، فريال: "فيض الدلالة وغمــوض المعنى في شعر محمد عفيفي مطر " مجلة فصول مج4، ع3، 1984، ص 176
(7) عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة ، ص 143.
(8) استن وارين ورينيه ويليك: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 2791، ص:92.
(9) دريد يحيى الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، دار الذاكرة، ط1، حمص 1991، ص67
(10) روز غريب: النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية3891، ص98
(11) انظر: السجلماسي، أبو محمد القاسم: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، ص 265 ـ 270 /تحقيق علال الغازي، مكتبة العارف، الرباط 1980، وجميع هذه الأصناف تقود المبدع إلى نوع من الغموض يتبدى في العدول الأسلوبي
(12) السجلماسي: المنزع البديع ص244
(13) المصدر السابق: المنزع البديع ص 263-264
(14) المصدر السابق ص 429.
(15) المصدر السابق : المنزع البديع ص 252
(16) الجرجاني : أسرار البلاغة ص 123 ـ 12
(17) السجلماسي: المنزع البديع ص 276
(18) السجلماسي: المنزع البديع، ص 262- 263.
(19) ريتشاردز : مبادئ النقد الأدبي ، ترجمة الدكتور مصطفى بدوي ، ط المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 3691، ص013. ، ص482
(20) د. عبد الرحمن محمد القاعود : الإبهام في شعر الحداثة ، عالم المعرفة 2002 ، العدد 972 ، ص52
تغريد
اكتب تعليقك