شعراء الحداثة السعودية وأبعادهم الثقافية من خلال شهاداتهم الشعرية (نماذج واختيارات) 1-2الباب: مقالات الكتاب
د. يوسف العارف جدة |
في هذه الدراسة نحاول التعرف على خمسة من رموز الشعر الحداثي في السعودية، ومدى تثاقفهم وتعالقهم مع المنجز المعرفي والشعري الحداثوي من خلال شهاداتهم وبعض إنجازاتهم الشعرية.
1/5 ولعل أول الرموز هو الشاعر أحمد الصالح (مسافر) الذي بدأت تعالقاته ومثاقفاته الشعرية والأدبية منذ نعومة أظفاره، فقد كان والده متذوقًا للشعر العربي وقارئًا له وخاصة الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي، وكثيرًا ما سمع والده وهو يقرأ شعر حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، والخنساء، وصولاً إلى شعراء العهدين الأموي والعباسي كجرير والفرزدق والأخطل وأبو تمام والبحتري والمتنبي وشوقي. ومع هذه القراءات تأتي التعليقات والتأويلات والمرئيات النقدية لوالد متذوق وقارئ للشعر ومستوعب له ولتداعياته ومآلاته الأدبية.
ثم تنامت هذه المثاقفات الشعرية والأدبية عبر الكتب الأدبية التي أهداها إياه الوالد.. أو قرأها اختلاسًا في مكتبة الوالد – أيضًا - فقد أهداه الوالد كتاب جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، وديوان عنترة وديوان أبو القاسم الشابي وهو في الخامسة من عمره ولأنه في مرحلة مبكرة وتصعب على مداركه فهم المعاني والقصديات الشعرية فكان على الوالد أن يقوم بدور المعلم والشارح والمفسر لما صعب فهمه وقصر عنه إدراكه.
وفيما بعد - في المرحلة المتوسطة - أهداه الوالد بعض الدواوين الشعرية لإيليا أبو ماضي ولامية العرب والمعلقات العشر ودواوين أبي نواس وبشار بن برد وكتاب ألف ليلة وليلة.
ومع نموه المعارفي وتمرحله الدراسي في المرحلة الثانوية وانتقاله إلى مدينة الرياض زاد النمو المعرفي والتثاقف الشعري وبدأ الاعتماد على نفسه في اختياراته القرائية والأدبية وتكوين مكتبته الشعرية والأدبية شراءً وإهداءً وحضورًا وزيارات للمكتبات المحلية والخليجية وخاصة الكويت التي سافر إليها واشترى منها مجموعة من الدواوين الشعرية لشعراء محدثين ومعاصرين ومجددين لشعراء التفعيلة والقصيدة الحرة من لبنان وسوريا كالأخطل ونزار قباني وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل، وشعراء المهجر كإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وأحمد زكي وشعراء العراق كالبياتي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وشعراء مصر صالح جودت وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وغيرهم وغيرهم في اليمن وتونس والخليج العربي.
وكل هذه القراءات والمثاقفات الحداثوية كانت له زادًا شعريًا ورافدًا ثقافيًا شجعته على التجارب الشعرية المتجددة والنشر في المجلات والصحف المحلية تحت اسم مستعار وهو (مسافر) حتى اطمئن إلى شاعريته ومعاصرته فبدأ ينشر باسمه الحقيقي أحمد الصالح!!
ويخلص الشاعر أحمد الصالح (مسافر) في شهادته إلى التأكيد على أن هذه المثاقفات الأدبية والشعرية لها دورها في تكوينه الشعري وتشكلات المتن الإبداعي والقاموس المعجمي في مسيرته الإبداعية والشعرية عبر الأيقونات التفاعلية والتثقافية التالية:
- مدرسة الوالد ومكتبته الشعر/أدبية وتثاقفاته الأولية.
- مراحله التعليمية ومكتسباته المعرفية عبر تمدرسه الأولي والمتوسط والثانوي والجامعي.
- القراءات الشعرية المنوعة تراثًا ومعاصرة عبر الشعر الجاهلي فالإسلاموي فالمعاصر والحديث.
- اللقاءات والحوارات والتجاذبات الشعرية مع الرموز الشعرية تراثًا ومجايلةً.
وعن ذلك كله يقول:
"هذا المعين العذب من الشعر شكل ذائقتي الشعرية"
"في هذا البحر والكنز الثمين أجد الأنس واللذة بقراءة الشعر ومتابعته"
"للتراث - وخاصة الإسلامي - أثر واضح على مساري الشعري فتأثرت بالتاريخ الإسلامي والعربي واستلهام التراث".
ويثبت ذلك كله في مدونته الشعرية التي بلغت - حتى العام 1435هـ- أحد عشر ديوان مطبوعًا ومنشورًا و ثلاثة أخر في طريقها للنشر إن شاء الله(1).
وفيما يلي وقفة نقدية مع أحد النصوص الشعرية التي نستلهم منها صورًا ناضجة لمثاقفاته الشعرية وتأثراته التي شكلت مسيرته الإبداعية وهي بعنوان: الخطبة الأخيرة على أسوار بابليون(2).
تتكون هذه القصيدة من 6 مقاطع، كل مقطع يحمل عنوان (القول الأول وحتى القول السادس)!! ومن خلالها يتضح أن الجو العام للنص، يتعالق فيه التاريخ والماضي مع الواقع المعاصر أثناء كتابة النص الذي يبدو أنه في التسعينيات الهجرية لأن أغلب قصائد الديوان مؤرخة في 1392هـ -1399هـ وفي بدايات العام ١٤٠٠هـ. في هذه الفترة كانت مصر بقيادة أنور السادات في صراع مكثف مع إسرائيل في عهد جولدا مائير 1929 - 1974م ومناحيم بيجن 1977 - 1983م. في هذه الفترة كانت حرب أكتوبر التي انتصر فيها المصريون، وكان فيها صلح السلام الذي زار فيه السادات الكنيست الإسرائيلي وألقى فيه خطاب السلام والصلح المعروف.
من وحي هذه العلاقة كتب النص، وفيه تتجلى إسقاطات المسألة السياسية المعاصرة – آنذاك - على القصيدة بكاملها بدءًا من العنوان وفيه (أسوار بابليون) إشارة ودلالة على مصر وحصن بابليون الذي فتحه عمرو بن العاص، رضي الله عنه، عام 20هـ ودخلت مصر إلى ديار الإسلام.
ثم نجد الإشارات القرآنية الدالة على اليهودية والصهيونية والمسيحية (تأتيكم مائدة - في شيع حذاء ملعون/ تأتيكم "حيتان السبت").
يستحييكم بيقن/ مناحيم بيجن رئيس وزراء اسرائيل 1977 - 1983م.
أو يستحييكم فرعون - إشارة ودلالة على القيادة المصرية آنذاك - وكان أنور السادات، رحمه الله.
ثم نجد دلالات وإحالات إلى المال والذهب:
"فاروق"
تسلل في دمكم
مست كفاه.. ضمائركم"
ثم نجد دلالات تشير إلى مصر وتاريخها الروماني وحصن بابليون القديم الذي فتحه عمرو بن العاص:
ميدان التحرير
جامع عمرو
سنابل خيل الروم
هولاكو
منتزهات النيل
ثم نجد (مائير) وهي جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل 1969 - 1974م التي حصل في عهدها أول هزيمة للجيش الإسرائيلي في معركة أكتوبر 1973م رمضان والعبور لخط بارليف في العاشر من رمضان 1393 هـ.
"والملك الضليل" إشارة إلى الشاعر العربي امرؤ القيس وقصته المعروفة لأخذ ثأر والده المقتول وقولته المشهورة "اليوم خمر وغدا أمر".
"وغلمان الآبق كافور" فيه دلالة على كافور الإخشيدي وموقفه مع المتنبي الشاعر "يأتي عمرو/ ينهي باسم الله/حصار الروم /بابليون" ثم نجد خالد بن الوليد القائد المسلم ودوره في حروب الردة وعمرو بن العاص ودوره في فتح مصر وحصن بابليون "يأتي خالد /ينهي الردة/ ينهي تأليه الأوثان.
يأتي عمرو/ يصلي الناس صلاة الفتح/ ويتلو التوبة/ يتلو الفتح/ يقيم صلاة الحاضر/ للشهداء (لسيناء ودير ياسين) ثم يختم النص القصيدة بالقول السادس "يخرج من أصلاب أمية صقر قريش يخرج نبت الأرض خيولا.
تحمل هم القدس
وحزن الناس
وتحمل أغلى جيش
يأتي نصر الله قريبًا
يأتي الفتح
يأتي مثل طلوع الصبح"
وهنا نلحظ الدلالات التفاؤلية والمستقبلية لما يتوقعه الشاعر للأمة العربية والإسلامية مستحضرًا التاريخ/ فمن بني أمية/ القبيلة القرشية العربية يخرج عبدالرحمن الداخل/صقر قريش، وفيها استعادة لدولة بني أمية التي سقطت في الشام ونشأت مثيلتها في الأندلس على يد صقر قريش عبدالرحمن الداخل، وهو المؤمل مستقبلاً لحل القضية الفلسطينية واستعادة القدس وفتح فلسطين .. فتحا مبينا مثل طلوع الصبح!!
هنا نجد المثاقفة التاريخية والسياسية والشعرية/ الأدبية والمعاصرة والربط الشعري ما بين الماضي/ التاريخ والواقع المعاصر، في لغة شعرية دالة وإيحاءات رامزة لا تخفى على القارئ الواعي.
* * *
2/5 ومن رموز الحداثة الشاعر عبدالله الصيخان الذي يحدثنا - في شهادته الشعرية(3) - عن مثاقفاته التأسيسية حيث مرحلة الطفولة هي الأساس التي شكلت ذائقته الشعرية.
فقد فتح عيناه على بيت عاشق للأدب ومهتم به، كانت الأمهات يغرسن الشعر في نفوس أطفالهن من خلال أغاني المهد وإيقاعها الآسر الذي "يبدأ من قلب الأم وإليه يعود" فـ"الأمومة والطفولة منجمان مشعان بالشعر" - كما يقول.
في تلك الطفولة كان السفر من تبوك إلى حائل مفتاح معرفة للشعر وموسيقاه ومن خلال صوت السائق الذي كان يتغنى بـ(الهيجنة) من أغاني حداة القوافل والجمالة، وترداد الأب بصوت مسموع لهذه الأصوات الغنائية.
وفي السادسة من عمر الطفولة، كان انتقال الأسرة إلى عمَّان الأردن وعن طريق لا تسلكه إلا الشاحنات، فكان الطريق مثار تفكُّر وتعرُّف رُسمت خيوطه ومعالمه في ذهنيته الشاعرية فكان يرى القرى "تلمع أنوارها من بعيد ويقرأها تاليًا في قصائد له ولغيره" ولما وصل الأردن - وصل إلى حضارة جديدة وتجارب تثاقفية جديدة على ذاكرة طفل قروي من تبوك. فقد دخل السيرك لأول مرة ورأى الحيوانات المفترسة، وملأ جيوبه بالمكسرات من كل صنف ولون، واستمتع بالألعاب في مخيم الحسن الفلسطيني مع أقرانه، فتشكلت مزيدًا من الخبرة والتأثر النفسي والمعنوي والحياتي.
وفي تبوك - بعد العودة من الأردن - بدأت ثقافته القرائية من خلال الصحف والمجلات التي تصل مع الشاحنات فضلًا عن الجريدة الوحيدة المحلية التي تصل إلى تبوك!! وكانت المجلات المصورة سوبرمان، الوطواط تأخذ حيزًا من قراءاته ومثاقفاته الأولية والتي سرعان ما هيأته لقراءة الروايات فيما بعد!! لتصبح القراءة هي المدخل والأساس الذي ارتقى بوعيه وشكل الموهبة وقادها إلى مدارج معرفية أكثر فائدة.
وفي مسار تثاقفي جديد كان الوالد مدخله إلى الحياة العامة واللقاء بالناس وتشرب الأفكار والصراعات والصداقات وكان الشارع مسرحًا للألعاب والخصومات وتفريغ الطاقات الكامنة، وتنمية المهارات وتوسيع المدارك الحياتية.
وفي هذه المرحلة المتقدمة يأتي الكتاب - كمصدر تثاقفي جديد - وقراءة الشعر خاصة لتتكون المعرفة الشعرية، وتتنامى الموهبة الفطرية ويصبح الشعر أنيس الوحدة الذي يوصله إلى قناعة حياتية وثقافية قوامها "القراءة وقود الكتابة.. كلما قرأت استطعت أن تحافظ على شعرك صافيًا رقراقًا متجددًا".
ومع التنامي الحياتي والمعرفي، أصبح الشعر مبتغاه، والشعر ثقافته، والشعر كينونة تثاقف معه وعليه، وبعد ان تشكل وعيه الشعري بدأ ينصح به "مل إلى الشعر في قراءتك، اذهب إلى مضارب الشعراء وأكواخهم وغرفهم الصغيرة لتستكنه هذا العالم الرحب.. فالقصيدة هي الأجمل من سيرهم الذاتية، إنها البطاقة الشخصية والمعنوية وفصيلة الدم الشعري".
ومن تجاربه التثاقفية، يشير على مريديه وقارئي تجربته والبادئون في الشعر وتجلياته أن يكتبوا ما يعنُّ لهم من خواطر وتداعيات وانثيالات - ومع القراءة والتزود الشعري والتثاقف على هذه المائدة الشعرية - سيكتشفون هناك "كثير من الزيادات اللغوية والبلاغية أثقلت النص فلم يقو على الوصول إلى الناس" ثم يجد نفسه وقد تشكل معجمه الخاص مما تذوقه من الشعر المقروء مستشهدًا هنا بمقولة جدنا الناقد/ المعلم "اقرأ ألف بيت وانسها" فهي وصفة مهمة لكل شاعر!! والشعراء الحقيقيون هم المستفيدون ممن سبقوهم وممن أتوا بعدهم.
ومن تجاربه التثقافية الشعرية يحيل قراء الشعر وكاتبيه والذاعنين للسطوة الشعرية أن يغادروا مساحات التقليد والولوج إلى عالم التفرد والتمكن والذي يحصل من كل ما تثاقفوه قرائيًا ومعرفيًا ثم صبغه بشخصيتهم الثقافية وإنتاج شعرية ناضجة "تقوم على ثقافة عميقة تستلهم صورًا وأساطير وثقافة، ومن كل ما تمت قراءته واختزنته الذاكرة والوعي والذهنية، تتشكل الكتابة الجديدة في تفرد وغموض فـ"ما تكتبه هو كل ما قرأت بعد أن ارتد كموجة على سياج القلب ومر على إسفنجة وعيك الشعري".
وهنا لا يدعو الصيخان إلى الغموض الشعري المجاني والذي يسعى للإبهام والضبابية ولكنه يوصي بالغموض الشفيف، الغموض الذي لا ينكشف إلا للذي لديه بصيرة قرائية جادة، إن أجمل الشعر ما لم يمنحك يديه من القراءة الأولى!! - كما يقول - كن غامضًا – نعم - ولا تكن مبهمًا فالنص الشعري المبهم يتكئ على ثقافة هشة لا يعطى مفاتيحه للقارئ.. بينما النص الغامض يقوم على ثقافة أعمق ووعي أشمل!!
ومن أساسيات المثاقفة المهمة لصناعة الشاعر - كما يقول الصيخان - العودة إلى النص القرآني كمرجعية تبني وتهذب اللغة الشعرية: فالقرآن الكريم "زاد بياني وبلاغي يتثاقف عليه الشاعر بعد أن يستكمل أدواته اللغوية والبلاغية".
وهنا يؤكد: "كلما وهنت لغتي، ذهبت إلى القرآن الكريم، وكلما خفت إيقاعي ذهبت إلى القرآن لأستمد من سحرية الإيقاع المندس فيه ما يعوض خفوتي وقلة حيلتي اللغوية".
ومن مثاقفاته النقدية والشعرية والمعرفية يصل الصيخان إلى فهم أعمق للشعر وتعاريفه التي يتبناها وهي مقولة قدامه بن جعفر، ومقولة القيرواني بأن الشاعر يشعر بما لا يشعر به غيره ويستطيع التعبير عنه. وهذا ما تبناه الناقد الإنجليزي/ إليوت "إنه الشيء الذي تفكر فيه بإبداع ولكنك لا تستطيع التعبير عنه بنفس الدرجة من الإبداع". ثم يقف عند تعريف ستيدمان/ الناقد الذي يقول: "الشعر هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجيد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سر الروح". ويضيف إلى ذلك طرحًا مفعمًا بالجدة والحداثة والفرادة، فيعرِّف الشعر بأنه سر إلهي وهبة روحية والروح من أمر ربي. والشعر تعليم رباني كما جاء في الآية الكريمة: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وهنا إشارة إلى أن الشعر هبة وعلم وعطاء من الله، عز وجل، وكل تعريف بشري لن يرقى إلى الشعر لأنه مخلّد في هذه الآية القرآنية "وكفى بذلك مجدًا للشعراء".
وأخيرًا يسجل الصيخان دور الحداثة والتراث في تكوينه الشعري وتثاقفاته المعرفية فيقول: "في بداياتي أدارت رأسي حداثة الشعر، لكن وبفعل تراكمي وجدت أن الحداثة تتجلى أكثر في تراثنا الشعري المضيء.. وإذا كانت معارك الشكل أخذتنا في بداياتنا إلى اللامجدي في العملية الشعرية إلا أننا عدنا لنكتشف أن المضمون هو الشعر"!!
وغير هذه الشهادة التي تبين مراحل المثاقفة وتجلياتها عن الشاعر/الحداثي عبدالله الصيخان. نتوقف مع إحدى نصوصه الشعرية التي شكلت حداثته وصورتها أجمل تصوير وهي بعنوان "هواجس في طقس الوطن"(4).
القصيدة في ثلاث مقاطع غير رقمه من قبل الشاعر، ولكن القراءة الناقدة تستوجب النظر إلى القصيدة النص عبر هذه التقسيمات الإجرائية ففي المقطع الأول انحاز الشاعر إلى النص الشطري/ العمودي/ الخليلي وفي هذا دلالة على مثاقفة الشاعر مع التراث التقليدي/ الكلاسيكي للشعرية العربية مع التجديد المفرداتي والدلالات الإيحائية. ويقود القارئ عبر ثماني أبيات عمودية في حوارية مع الوطن، تقوم على ثلاث معطيات دلالية وهي:
- معطى التشكي والاعتذار ويشمل البيتان الأولان.
- معطى الأسئلة الاستفهامية الحقيقية/التقريرية حول العلاقة بينه وبين الوطن. ويشمل البيتان الثالث والرابع.
- وأخيرًا معطى الاعتراف والتأكيد على مدى التجدد والتنامي في هذا الوطن. ويشملها الأبيات الأربعة الأخيرة.
وعبر هذه المعطيات يتضح للقارئ/الناقد أن الوطن بتشكلاته النفسية والمعنوية والثقافية، لا بتشكلاته الجغرافية أو التاريخية هي المسيطرة على هذا الجزء العمودي/ البيتي من النص، ولكنه (وطن) ينتمي له الشاعر عندما أضافه إلى نفسه (يا وطني).
قد جئت معتذرًا ما في فمي خبر
رجلاي أثقبها الترحـــال والســفر
ملت يداي تباريح الأسى ووعت
عينـــاي قائلـها ما خانـها بصـــر
هنا تبدو الاعتذارية (قد جئت معتذرًا) المشوبة بالتشكي: الرجلان تعبت من الترحال والسفر، اليدان ملّت من تباريح الأسى، العينان عرفت ووعت قائلها!!
ثم تبدأ الأسئلة المبدوءة بـ(هل) - إحدى أدوات الاستفهام - وفيها الاعتراف بالانتماء للوطن إذ نماه لنفسه (يا وطني) وفيها المبررات المأمولة لهذا الاستفهام وكلها في سياقات إبداعية وبلاغية مائزة:
أن جئت يا وطني عل فيك متسع
كي نستريح ويهمي فوقنا مطر
وهل لصــــدرك أن يحنو فيمنحني
وســـادة حلـمًا في قيظه شجـر
الغريب هنا أن الشاعر لم يضع علامة الاستفهام (؟) وكأنه يلمح إلى أنها تساؤلات شعرية لا تنتظر من القارئ إجابة ولا من الوطن إلا ما ساقه من مطالب وتبريرات، هو يريد الراحة والاستراحة مما تشكَّى منه قبلا، وهو يريد أن يتحول (الوطن) إلى سحابة ممطرة غيثًا ورحمة وحنوًا وأحلامًا، وحماية من (قيظ) المعاناة بالشجر المخضر المتنامي!!
ثم يصل الشاعر إلى معطى الاعتراف وذلك بالتأكيد على (وطنيته) مستخدمًا أساليب النداء (يا نازلاً في دمي) ليبين للقارئ مدى التجذر والانتماء والكينونة الوطنية المتغلغلة في ذات الشاعر (نازلاً في دمي)، والقدرة على الأخذ باليد وجمع الشتات الكلام/ القولي (واجمع شتات فمي) وتحويل المواجع والآلام إلى قصائد وأنغام.
وهو بهذه الاعترافات يجعل من الوطن ملاذًا للغربتين الذاتية والنفسية ومهيعًا يتأمل واحاته المأمولة المنتظرة ويرسم خطًا موضوعاتيًا للنص/القصيدة بكاملها وحسب مقاطعها الثلاث يظهر فيها تقاطعاته مع (الوطن) وتأملاته الماضوية وعلاقاته الأنية وطموحاته المستقبلية وهو ما سنعرفه في المقاطع التالية.
في المقطع الثاني والثالث تبدو سمات الحداثة وسيمائها وتشكلاتها حيث اختار الشاعر مفارقة النص العمودي/الخليلي والتمرد عليه، بعد أن تعاطاه في المقطع الأول ليبدو المقطعان وكأنهما جسران منفصلان على مستوى الشكل والجنس الشعري لكنهما متآزران متلاحمان على المستوى المضموني والموضوعاتي.
ينتمي المقطع الثاني - وكذلك الثالث - إلى النص التفعيلي والنص الحر/النثري والكتابة السطرية وهذه من مثاقفات المرحلة الحداثية وحمولاتها التجديدية وانتماء الشاعر لهذه المرحلة إرثاً وتواصلاً معرفيًا ومجايلة حداثوية.
في هذا المقطع الثاني تبدو القرية/ البادية وحمولاتها، ودلالاتها ورمزيتها من خلال اللغة والمسميات البدوية/ القروية مثل: (الخيمة، الرمال، الشعيب، النشامى، المحاميس، الراكة، المطاريش، ذهبوا، الغضي، الوسم) وكل هذه المفردات الموظفة في سياق شعري حداثي تتفاعل فيما بينها لتعطينا دلالة على تشكل (الوطن) وتخلقه المنتظر من هذه الأيقونة الشعبوية/ البدوية والتي تمثل "النشامى يعودون في الليل".. و"لا أحد غير رمل الجزيرة" و"لا نجمة يستدل بها في السرى غير قلب المحب" ثم تبدأ الكينونة المندمجة في (الوطن) المأمول: (الوطن المتعالي بها مات الأجداد/المستبد لهفة وهوى/ المتحفز في الدم/ المتوزع في كل ذراتنا) والإفصاح عن المطالب والآمال:
"أعطنا بصرًا كي نراك"
"أو وردة كي تمر بنا/فيه نلقى مساء جميلاً"
"قرنفلة في عرى ثوبك الأبيض"
"خذ يدينا.. إذا صفنا.. وأقم يا إمام الرمال صلاة التراويح فينا"
"ثم أعطنا جذوة حية في الفؤاد الخلي كي نصطفيك"
ليصل في ختام المقطع إلى الوطن المنتظر والمأمول الذي سيظل "شامخًا كالنخيل الذي لا يموت/ واضحاً كالطفولة/ كالشمس...".
ثم نصل إلى المقطع الثالث الذي يؤكد حداثة النص، وحداثة الشاعر وفيه تأكيد على انتمائية الشاعر للوطن، عبر عودته الموسيقية من النثرية الشعرية إلى العمودية التفعيلة حيث البحر والوزن والقافية الهائية ثم الكافية:
وطني واقف ويدي مشرعة
وأنت الشهادة فيمن هلك
ثم عودة نحو الاعتذارية التي بدأ بها القصيدة:
"إنني واقف خلف ظهرك مفتتحًا وجعي باعتذار المحبين/ حين يطول النوى/ خاشعًا في محياك..."
مؤكدًا على ثنائية البداوة التي تشكل هوية الشاعر.. والوطن المنتظر:
وطناً تتعالى به
غيمنا إذ يجف بنا الورد
سلوتنا في مساء التغرب
رغيف الفقير
فضاء البياض
سماء لنا
الضوء إذ يستدير الحلك
أما الشاعر فصورته الإيجابية تتبدى من هذه الأوصاف:
واقف خلف ظهرك
خاشعًا في محياك
القلب لك متكأ والغمام فلك!!
بهذه الثنائية الشاعر/ الوطن تتنامى القصيدة/ النص في حداثية المعاني، حداثة التناول، حداثة اللغة. وكلها دالة ومشيرة إلى مثاقفات الشاعر واستكناه الجديد في معالجة الانتماء للوطن عبر عنوان دال ومثير: (هواجس في طقس الوطن) حيث التأكيد على ما يمور من مشاعر وأحاسيس في نفس الشاعر وما يتشكل منه الوطن جغرافيًا ومناخيًا، أرضًا وسكانًا حيث (الطقس) المتقلب المتحول بين ماضي وحاضر ومستقبل.
المراجع:
1) انظر: خالد بن أحمد اليوسف: التجربة الشعرية في المملكة العربية السعودية/شهادات ونصوص. كرسي الأدب السعودي، جامعة الملك سعود، ط1، 1435هـ: أنا والشعر: تجربة أحمد الصالح (مسافر) الشعرية، ص ص 47-50.
(2) أحمد صالح الصالح (مسافر): ديوان انتفضي أيتها المليحة، دار العلوم للطباعة والنشر، ط١، 1403هـ/1983م، ص ص 51-56.
(3) عبدالله الصيخان: ديوان الغناء على أبواب تيماء، نادي تبوك الأدبي، دار مدارك للنشر، ط1، 2013م، (نبع الشعر) مقدمة الديوان وهي شهادة شعرية ألقاها في نادي جدة الأدبي الثقافي، سبتمبر 2012م، ص ص 5-10.
وانظر: خالد أحمد اليوسف، سبق ذكره، ص ص 255-260.
(4) عبدالله الصيخان: ديوان هواجس في طقس الوطن، نادي حائل الأدبي، والانتشار العربي، ط2، 2008م، ص ص65-69.
تغريد
اكتب تعليقك