اللغات، قصة حياة وموت.. دراسة علمية لموت اللغة بين العوامل والمؤثرات والنتائج من الجانب السوسيولسانيالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2022-05-29 05:53:51

زهیر أتباتو

المغرب

مقدمة:

إنه لا يخفى على ذي النظر الحصيف أن المعمور بشتى بقاعه شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، عرف على امتداد عصور خلت تنوعًا بشريًا وعرقيًا من حيث انتماؤه الجنسي، لكن بشكل أو بآخر فإن الوحدة البشرية لا تتم إلا في سياق هذا التنوع، ومن هنا كانت اللغات كوسيلة للتعبير عن مكنونات وطلبات ورغبات الكائن البشري من بين الأشياء التي عرفت التنوع والتعدد ومن هنا وجدنا التعدد اللغوي والذي غاص الباحثون في التنقيب عن الأصول المشترك والعائلات والأسر اللغوية التي تنتمي لها كل لغة وكل لهجة من حيث اشتقاقها، لكن هذا البحث يتم على مستويين الأول البحث على مستوى اللغات الحية أما المستوى الثاني والذي بالنسبة لنا هو موضوع هذا البحث الأهم ألا وهو اللغات الميتة. إذا من هنا يمكن أن نتساءل، ما أسباب الموت اللغوي وما العوامل المؤدية له؟ وما النتائج التي يفضي لها الموت اللغوي؟؟ وإلى أي حد يؤثر هذا الموت اللغوي على اللغات الحية وما مصير اللغات التي هي في طور الانقراض والموت؟؟

تعريف اللغة:

يعد ابن جني من أبرز من جاء في تعريفه تحديدًا واسعًا ودقيقًا لمجموعة نواحي متعلقة للغة قائلاً: "حد اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(1)، هذا التعريف قد نال اهتمام الباحثين اللغويين لأنه ضم أكبر قدر من الحقائق المهمة والدقيقة عن اللغة من حيث أن اللغة مكونة من أصوات هدفها التعبير بها من طرف الإنسان عن أغراضه الاجتماعية أي في هذا التعريف تحديد اجتماعي للغة وغيره.

إن تعريف ابن جني مازال سائرًا عند علماء اللغة الحداثيين من حيث التقاء تحديده مع علم اللغة الحديث لما أعطاه من حقائق هامة، لكن علم اللغة الحديث أضاف إليها حقائق أخرى، ومن بين هذه التعريفات الحديثة نجد قول فردناند ديسوسير على أن اللغة "نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية في أذهان الجماعة اللغوية، يحقق التواصل بينهم، ويكتسبها الفرد سمعا من جماعته"(2).

زد على هذا التعريف تحديدًا آخر وضعه روى سي هوغمان بقوله: "اللغة قدرة ذهنية مكتسبة يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة يتواصل بها أفراد مجتمع ما"(3). كما يقول أنطوان مييه في كتابه (لغات العالم) "إن كلمة لغة تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان، بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية، أو قيمتها من الناحية الحضارية، ثم يضيف إلى هذا التعريف قوله: إننا نستطيع أن نعد من اللغات بقدر ما نستطيع أن نعد هذا العالم من مجموعات بشرية، يختلف بعضها عن بعض في وسائل التفاهم بالنطق، بحيث لا يستطيع الواحد من أبناء مجموعة منها أن يتفاهم مع أبناء مجموعة أخرى إلا بعد تلقين وتعليم"(4)، ومن هنا ومما سبق يمكننا القول أن مفهوم اللغة بتعدد تعاريفه المحددة له تجتمع في العناصر التالية:

1 - الطبيعة الصوتية للغة.

2 - الطبيعة الاجتماعية للغة.

3 - اللغة متغيرة.

4 - اللغة مكتسبة.

5 - اللغة نسق.

موت اللغة:

يمر الكائن البشري عبر الحياة بمراحل: الولادة، التطور، ثم الموت، هذه المراحل التي يتسلق الإنسان مراحلها هي المسار الذي يسلكه كل كائن كيفما كان ومن هنا فاللغات مثلها مثل الإنسان تولد نظرًا لأسباب وعوامل وتمر من منطق التطور والارتقاء ومنها من يبقى حيًا ومنها من ينقرض ويموت أو بعبارة أصح يختفي وجوده، ومن هنا جاء محور هذا البحث عن سبب موت اللغات وكيفية موتها وحول أنواع اللغات الميتة ولهذا سنتطرق أولاً لمعرفة ما هو موت اللغة؟

ماهو موت اللغة؟:

إن إيحاء عبارة "موت للغة صارخة وقاطعة في دلالتها، إذ تحمل أصداء مماثلة لأي عبارة تحوي تلك الكلمة غير المرغوب فيها، "فقولنا: إن لغة ميتة يشبه تماما القول: إن شخصًا ما ميت، لأن اللغات لا وجود لها دون البشر. تموت اللغة عندما لا يتحدثها أحد، ومن الصعب تصور مثل هذا الاحتمال عند الناطقين بلغة أي لغة حية، لكن هذه الحقيقة يمكن توضيحها بسهولة"(5)، أنظر إلى هذا المثال الذي تناوله بروس كونيل bruce connel، في "صفحات النشرة الإخبارية لمؤسسة المملكة المتحدة للغات المهددة بالانقراض (FEL)، بعنوان "الوفيات":

صادفت في أثناء العمل الميداني في إقليم مامبيلا mambila في مقاطعة أدامواadamawa في الكامرون، عددا من اللغات تحتضر في عام 1994-1995م...عثر على متحدث واحد بلغة اسمها كاسابي kasabe إحدى اللغات المحتضرة (يقال لها أيضًا لووluo، من الناطقين باللغات المجاورة، كما ورد في تقاريري السابقة) هذا المتحدث اسمه بوجون bogon. (وهو نفسه لا يعرف أي ناطق بهذه اللغة غيره). وعندما عدت في نوفمبر 1996م إلى منطقة مامبيلا mambila كان ضمن جدول أعمالي أن أجمع بعض المعلومات عن لغة كاسابي، لكن بوجون كان قد مات في 5 نوفمبر 1995م وأخذت لغة كاسابي معه، وترك وراءه أخته التي لا يقال: إنها تفهم لغة كاسابي لكنها لا تستطيع التحدث بها، كما ترك عددًا من الأبناء والأحفاد لا أحد منهم يعرف هذه اللغة"(6).

زد على هذا قصة أخرى تؤرخ لموت اللغة بموت آخر متحدث بها، ذكرها أولي ستيج آندرسون ole stig andersen "في المؤتمر الثاني لمؤسسة اللغات المهددة بالانقراض في إدنبرة في عام 1998م، هذه المرة كان يوم 8 أكتوبر من عام 1992م يومًا حاسمًا:

لقد ماتت اللغة القوقازية الغربية ''أوبوه ubuh'' في فجر يوم 8 أكتوبر 1992م عندما توفي آخر ناطقي هذه اللغة توفيق اسنيتش tevfik esenc. لقد وصلت لأقابل ذلك المتحدث الأخير المشهور في اليوم نفسه بالضبط من غير أي ترتيب مسبق، لكن كانت المصادفة أنه توفي قبل ساعتين من وصولي ودفن لاحقًا في اليوم نفسه"(7).

ومن هنا فإن البروفيسور ديفيد كريستال يعلق على القصص السابقة قائلاً إن "الحقيقة الجلية أن اللغتين، كاسابي  kasabeوأوبيخ ubykh (تكتب أسماء هاتين اللغتين بطرق مختلفة كثيرة) قد ماتتا في واقع الأمر قبل وفاة بوجون، وتوفيق، بزمن طويل. فإذا كنتَ الناطق الأخير للغة ما، فلغتك ميتة بالفعل طالما الغرض من اللغة التواصل مع الناس، فاللغة تعد حية عند وجود شخص آخر تتحدث هذه اللغة معه، ولكن عندما تكون أنت الناطق الوحيد للغة ما، فإن معرفتك بهذه اللغة مستودع أو أرشيف لماضي أمتك اللغوي، وإذ لك تكن هذه اللغة مكتوبة أو مسجلة على أشرطة، كحال الكثير من اللغات، فهذه اللغة ستبقى كما هي (متعلقة بمصير الأشخاص الناطقين بها) لكن على عكس الفكرة العامة لمفهوم الأرشيف، الذي يستمر إلى ما بعد موت كاتبه، في اللحظة التي يختفي آخر متحدث للغة غير مكتوبة أو غير مسجلة فإن الأرشيف سيختفي إلى الأبد. وعند موت اللغة، قبل أن تسجل بطريقة ما، تصبح كأنها لم تكن من قبل"(8).

كيف تموت اللغة؟ ولماذا؟

إن موت أي لغة كيفما كان نوعها أو موطنها يرجع بالأساس لعوامل عدة ومنها ما سبق ذكره أي بموت آخر متكلم بها، لكن أصحاب النظرة الاجتماعية للتطور اللغوي يذكرون ثلاثة عوامل أو أسباب أخرى تزيد من تدعيم الرأي السابق هي كالتالي:

"أولها: أن تموت اللغة موتًا طبيعيًا، من الكبر والضعف والتقدم في السن، ولا بد من تلك الحالة من أن يكون المتكلمون في تلك الحالة من أن يكون المتكلمون بتلك اللغة قد كثروا وتشعبوا، وتباعدت مواطنهم، وأقاموا لهم حضارات متباينة لا يتصل بعضها ببعض إلا من بعيد، فتولد لدى كل منهم لهجة محلية منبثقة من للغة القديمة، ومع مرور الأجيال تندثر اللغة الأم من ذاكرة الأبناء وعلى ألسنتهم تموت، وأمثلة ذلك السامية الأم، والسنسكريتية، والفارسية القديمة، والجعزية الحبشية، واللاتينية.

ثانيًا: أن تموت اللغة قتيلة، وذلك بفعل الغزو المسلح، ولكي يكون هذا القتل ممكنًا يجب أن تتضافر ظروف معينة أهمها:

1 - أن يكون الغزاة أكثر عددًا بأضعاف كثير من أهل تلك اللغة، بحيث يصبح استقرارهم بلغتهم في الأرض المفتوحة أشبه بطوفان يبتلع الشعب الأصلي الصغير، ولغته معه، ومن ذلك غزو الساميين القدماء للعراق، حيث كان الشوميريون يقيمون منذ ما قبل التاريخ، وباكتساح الساميين لهم تلاشو هم ولغتهم، ومع ذلك –إنصافا للحقيقة- ينبغي أن نقول إن اللغة القتيل تترك دائمًا آثارًا منها في لغة الفاتحين تقل أو تكثر.

2 - في حالة التساوي في العدد تقريبًا بين الغزاة والسكان الأصليين، ينبغي أن يكون الغزاة أعلى درجة في الحضارة من الأمة التي أصيبت بالغزو، وإلا فإن الغزاة هم الذين يفقدون لغتهم، وتنتصر لغة المنهزمين كما حدث عندما هاجمت القبائل المتبربرة أوروبا اللاتينية التي كانت شعوبها أكثر تقدمًا في الحضارة، ولذا ترك هؤلاء البرابرة لغاتهم الأصلية، بل تركوا أديانهم الوثنية، واصطنعوا اللاتينية واعتنقوا المسيحية الكاثوليكية، وكذلك التتار بعد اسقاطهم بغداد اعتنق أكثرهم الإسلام وتعلموا اللغة العربية.

أما الغزاة المتحضرون فإنهم يقتلون لغة الأمم المفتوحة بفرض لغتهم في العلم والثقافة والتجارة ونحوها، وترك من لا يتقن اللغة بلا عمل ولا فرصة طيبة للتعلم أو الارتزاق،: ومثال ذلك سيادة اللغة الاسبانية أو البرتغالية بين شعوب أمريكا اللاتينية، وسيادة الإنجليزية في أمريكا الشمالية....وهذه الظاهرة ممكنة الحدوث، حتى إذا كان الغزاة أقل عددًا بكثير بشرط أن يكون رقيهم الحضاري والإداري والاقتصادي ساحقًا.

ثالثًا: أن تموت اللغة بالتسمم، ويبدأ ذلك بتسرب رشح من الدخيل من لغات أخرى تحتاج إليه اللغة فتتقبله، بل تحس مع تعاطيها له في البداية بمزيد من الانتعاش والقوة والنشاط يشجعها على تقبل جرعات أكبر فأكبر من هذا الدخيل. ولكن قدرتها على هضم ذلك كله واستيعابه في بنيتها العامة تخونها في النهاية فتسقط من الإعياء، تاركة المجال للبقية الباقية من الدخيل تتسرب إليها بدون أية مقاومة حتى تجهز عليها وتميتها. هكذا ماتت اللغة السريانية في بلاد الشام..."(9).

ومن هنا نكتشف أن عوامل كثيرة تساهم في ظاهرة موت اللغة، لذلك فإن تشخيص الحالات المرضية يأتي دائمًا معقدًا، "يحاول اللسانيون الاجتماعيون تحديد عنصر واحد يصلح أساسًا لتوضيح الطريق التي بها يتحول الناس من لغة إلى أخرى، ولكن كل هذه المحاولات محل خلاف، على سبيل المثال أحد المقترحات يحدد حاجة الناس لاكتساب اللغة المهيمنة من أجل الحصول على عمل جيد...إنها فرضية معقولة في كثير من المناطق، لكن الفرضية ربما تكون أقل ملاءمة في حالات أخرى، إذ إن نوع النظام التعليمي والإعلام، وطبيعة الضغط السياسية، تعد اعتبارات ذات أهمية أكبر. اللغات ليست مثل البشر في هذا الأمر وليست من الممكن، عادة، كتابة واحد في شهادة وفاة لغة ما. ولأن هناك عوامل عديدة متداخلة في الموضوع، فإن اللغة عادة لا تموت بصورة منسقة، وربما تبدو عليها عوامل الاختفاء في منطقة ما، لكن ليس في مناطق أخرى، ويحدث ذلك لسلسلة من الأسباب المختلفة...إن القوى التي تتسبب في موت اللغة هائلة العدد حتى إنه من الصعب معرفة الأعداد التي يمكن مواجهتها"(10).

اللغات الميتة:

إن اللغة الميتة هي التي انطفأ نجمها وانقرض المتحدثون بها ويمكن تحديدها في "نوعين:

أ- لغة أدركت عصر الكتابة ثم ماتت ووصلتنا نصوص مكتوبة ونقوش أثرية منها، ومن أمثلتها: المصرية الفرعونية، البابلية الآشورية، السنسكريتية، اللاتينية.

ب- لغة عاشت وماتت دون أن تعرف الكتابة، فاندثرت مع المكلمين بها، وأصبحت لا تعرف إلا افتراضًا وعن طريق أبحاث مقارنة في علم اللغة وفقه اللغة، وأشهر هذه الفصيلة من اللغات المجهولة أو المندثرة اللغة السامية الأم، التي عاشت وماتت قبل اختراع الكتابة فلم يصلنا شيء من نصوصها"(11).

وفي نفس السياق يقول الدكتور حسن ظاظا معلقًا على ما سبق أن "كل لغة حية إنما هي في نهاية الأمر وليدة لغة ميتة سابقة لها، معروفة أو غير معروفة، وكانت في حياة اللغة الأم التي أنجبتها لا تعدو في البداية أن تكون لهجة منها، كالفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية بالنسبة للاتينية، وكالعربية والبابلية والآشورية والسريانية والعبرية بالنسبة للسامية الأم، مع ملاحظة أن بعض هذه اللغات الوليدة ذاتها كان حيا، ثم أصبح الآن بدوره في عداد اللغات الميتة، كالبابلية الأشورية والسريانية"(12).

لكن إذا كانت اللغة تموت لأسباب وعوامل فيا ترى ما هو عدد اللغات التي وصلت إلى حد الموت؟ يجيب البروفسور ديفيد كريستال بالقول: "قبل أن نصل إلى تقدير دقيق لحجم المشكلة (موت اللغات)، يجب أن نطور منظورًا ملموسًا، إن النسب المقتبسة المنتشرة المتعلقة باللغات التي تموت إنما تكون ذات مغزى إذا كانت ذات صلة وثيقة بالأرقام التي تعطينا العدد الإجمالي للغات الحية القادمة في الوقت الحاضر. إذ كم عدد اللغات؟ تعطي معظم المراجع المنشورة منذ 1980م رقمًا بين 6000 و 7000 لغة. لكن هذه التقديرات تغيرت في العقود الأخيرة لتصبح بين 3000 و 10000 لغة، ومن المهم أن نعرف أسباب هذا التباين الهائل. إن السبب الأكثر وضوحًا هو سبب تطبيقي، فلم يكن هناك سوى عدد قليل من الدراسات الاستقصائية حتى النصف الثاني من القرن العشرين، إذ إن معظم التقديرات السابقة كانت تقوم على التخمين، وغالبًا ما تكون قليلة جدًا، وكان ويليام دوايت ويتني قد خمن عدد اللغات، وذكره في محاضرة عام 1874م وهو ألف لغة....ونتيجة لذلك، ومع عدم وجود إرشاد مهني محترف، ستكون هناك احصاءات وتقديرات عشوائية تتأرجح بين عدة مئات إلى عشرات الآلاف، ويستغرب قيام الدراسة الاستقصائية المنظمة بعض الوقت. وإثنولوج ethnologue هي أكبر دراسة استقصائية في الوقت الراهن، وتعد أول موسوعة شملت العالم كله، واحتوى إصدار 1974م على 5687 لغة، بينما احتوى إحصاء فوجلنز voegelins الذي نشر عام 1977م نحو 4500 لغة حية، وتتغير الحال تدريجيًا في ثمانينات القرن الماضي بسبب تطور أدوات وتقنيات جمع المعلومات، واحتوى الإصدار الثالث عشر لدراسة ethnologue عام 1996م على 6703 لغات رئيسية، وصنفت 6300 لغة على أنها حية عام 1992م في الموسوعة الدولية للسانيات، وهناك أسماء  6796 لغة مدرجة في فهرس أطلس لغات العالم، ويعتقد أن الرقم الغالب الآن نحو 6000 لغة، مع تباين ملحوظ، فتنقص أو تزيد، وعلى نحو استثنائي فإن عددا كبيرا من التقديرات تشير إلى نقصان العدد"(13).

ويضيف قائلاً: "لذلك يجب التعامل بحذر مع تقديرات عدد اللغات في العالم، ومن غير المرجح أن يكون هناك عدد إجمالي شامل متفق عليه. ونتيجة لذلك، توجد إشكالية دائمة بترجمة الملاحظات ذات الصلة بنسب اللغات المهددة بالانقراض لتصبح أرقامًا مطلقة، والعكس صحيح. إذا كنت تعتقد أن نصف لغات العالم تموت وأخذت واحدة من متوسط العدد الإجمالي أعلاه، سيكون تقديرك نحو 3000 لغة تقريبًا، ولكن إذا أخذت هذا الرقم بصورة عشوائية (كما يفعل مراسلو الصحف) وربطته بأعلى التقديرات (مثل سجل اللغات العالمي، 10000 لغة)، ستستنتج أن أقل من ثلث لغات العالم يموت. ونتيجة لذلك، فإن الحالة ليست خطيرة كما قيل عنها. وفي الحقيقة هذا التعليل يفتقر إلى الشرعية ويتم تجاهله، إذ إن المعايير المستخدمة في العدد الإجمالي الثاني. وإنني كلما قرأت الصحف الشعبية أرى أنواعًا من الادعاءات، وادعاءات مضادة لها، مع إحصاءات تستخدم لإعطاء قسمة لنقاش لا يستطيعون تحمل مسؤوليته. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من الصعوبات، فإننا لا نستطيع تجاهل الحاجة إلى معايير عالمية. وطالما أن توضيح المسألة أدناه يرتبط كثيرًا بقضايا السياسة الوطنية والدولية والتخطيط، فيجب أن نصل إلى تقديرات أفضل من أجل إقناع الحكومات ومؤسسات التمويل بأن الحاجة ملحة جدا وماسة. وبناء عليه، سوف أقترح معدلاً بين 5000 حدًا أحنى و7000 حدًا أعلى للمدة من 2000 إلى 2006م، تزيد ألفًا أو تنقص ألفًا"(14).

ومن هنا فإن اللغات الميتة وحسب الإحصاءات الواردة من طرف الباحثين تزيد وتنقص نظرًا لعامل أساسي هو أن البحث العلمي والدراسات العلمية لا تزال إلا يومنا هذا لم تقم بدراسة دقيقة فيبقى التحديد الدقيق غائبًا وتبقى النسبية دائمًا مسيطرة إلى حدود إنجاز دراسة علمية شاملة ومضبوطة بنسق من القواعد العلمية.

ماذا يمكن عمله بالنسبة لمشكلة موت اللغات:

إن اللغات الميتة قد أصابها ما أصابها من عوامل أدت إلى انقراضها لكن علينا كباحثين أن نحدد للغات التي مازالت حية وسائل وطرق للمحافظة على اللغات الحية وليستمر أمد حيتها. وفي هذا الصدد يقول البروفسور ديفيد كريستال: "...إذا كان هنالك الآن كم واضح من المعلومات عن مشروعات الحفاظ على اللغات، والتي حققت بعض النجاح، فهل هناك عوامل مؤثرة يمكن اعتمادها لمعايير مسلم بها لوضع أسس نظرية إحياء اللغة وهي في شكل متطلبات للتطور نحو إيجاد لغة لتصبح أداة اتصال بين الأجيال عند أهلها وفي المناطق المجاورة؟، وسوف أدرج ستة من هذه العوامل المهمة:

1 - اللغة المهددة بالانقراض ستنمو إذا عزز المتحدثون بها هيبتهم داخل الجماعة المهيمنة: ينبغي للناس أن يتعودوا على استعمال اللغة، وهذا يعني أن يكون اتصالهم بها قويا ودائما، والنشاطات اللغوية المتقطعة لا بد من أن تتحول إلى نشاطات يكون للغة فيها حضور متوقع، من ثم إحداث عملية مستمرة لتقوية العلاقة بها. وهنا لا بد من اتخاذ قرارات بشأن أي نشاطات اجتماعية يتم التركيز عليها، لأنه، في نهاية الأمر، لا يمكن تفعيل كل النشاطات مرة واحدة. لا بد من اختيار مهام محددة يبذل فيها جهد خاص، كسرد حكايات، أو إجراء مراسم لشعائر دينية. العلاقات والممارسات الدينية لها أهمية خاصة في تنشيط اللغة، شأنها في ذلك شأن الفنون.

2 - اللغة المهددة بالانقراض ستنمو إذا زاد متحدثوها من ثرائهم مقارنة بالجماعات المهيمنة: سبق واقتبست ملاحظة جرينوبل ووالي التي تؤكد أن الاقتصاد ربما يكون القوة الفريدة الأكثر أثرًا في مصير اللغات المهددة بالانقراض، والنقطة مهمة جدًا، وأنا أميل إلى الموافقة إذا لم يوجد مبرر آخر غير التكلفة المالية التي تعلي شأن اللغة اجتماعيًا وسياسيًا، والمال لا يأتي إلا في بيئة مزدهرة. لكن تغيير الخطوط الاقتصادية سيحدث أثرًا إيجابيًا أساسيًا في رفع شأن جماعة ما، إذا كانت الزيادة تدريجية وتدار جيدًا، فاقتصاد كاتالونيا على سبيل المثال، كان عاملاً رئيسيًا في تشجيع استعمال اللغة في مناطق أخرى تتحدث بها.

3 - اللغة المهددة بالانقراض ستنمو إذا استطاع المتحدثون بها تعزيز شرعيتهم أمام الجماعة المهيمنة: شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين استفادة اللغات المحلية في بقاع متعددة من العالم من تنامي اتجاه رأي عام يحمل تعاطفًا مع الحقوق الثقافية اللغوية. وكان هذا الاتجاه قويًا، بصفة خاصة في أوروبا، إذ صدرت عدة بيانات من منظمات سياسية نافذة في هذا الصدد. وبالرغم من أن هذه البيانات قد ركزت بالضرورة على اللغات الأقل شيوعًا في أوروبا، لكنها أرسلت رسالة قوية للمهتمين بالحقوق اللغوية في بقاع أخرى من العالم.

4 -اللغة مهددة بالانقراض ستنمو إذا امتلك المتحدثون بها حضورًا قويًا في النظام التعليمي: تنمية الوجود داخل البلد تعد أولوية لكل لغة مهددة بالانقراض، فلا يوجد حل تتصوره الأذهان يحمل النظام المدرسي المسؤولية كاملة. ولكن إذا لم يسجل النظام المدرسي حضورًا على الإطلاق على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي، فإن المستقبل سيظل مظلمًا. إن دور المدرسة في تطوير الطفل للغته الأم أمر مفهوم، وفق أبحاث ونقاشات أجريت على مدى عدة عقود، في مجال اللسانيات التربوية.

5 -اللغة المهددة بالانقراض ستنمو إذا كان المتحدثون بها يستطيعون كتابتها: إن كتابة اللغة نوع مختلف من أنواع النشاطات، إذ تحتوي على خطوة فكرية تتمثل في تحليل للطريقة التي يعمل بها النظام الصوتي للغة، بحيث يمكن ابتكار أكثر الأشكال كفاءة للنظام الكتابي، وإعداد المادة المساعدة في التعليم، وذلك في شكل معاجم، وكتب قواعد، وأدلة أخرى. إنها خطوة يجب تدريب اللسانيين على القيام بها، وعلى الطرق التي سيتم عرضها لاحقًا، وقد تكون خطوة خلافية، لذلك فإن هذه الفرضية للتقدم تحتاج إلى عرض حذر.

6 -اللغة المهددة بالانقراض ستنمو إذا استطاع المتحدثون بها الاستفادة من التقنية الإلكترونية: هذه تعد مسلمة افتراضية إلى حد ما، إذ إن أجزاء كبيرة من العالم حيث اللغات مهددة بالانقراض بطريقة حرجة، لم تتمكن من الاستفادة من التقنية الإلكترونية والكهرباء، لكن من حيث المبدأ نجد أن تقنية المعلومات تمنح اللغات المهددة بالانقراض والتي وثقت بالكتابة، فرصًا جديدة كان احتمال استكشافها يبدو صعبا"(15).

ويضيف معلقًا على هذا التحديد الذي وضعه: "إن فرضياتي الست تعمل على تقطيع الكعكة بطريقة معينة، وطبيعة الحال فإن هناك الكثير من الطرق الأخرى. وعلى الرغم من اختلافات المصطلحات والتأكيدات فإن موضوعات متشابهة تتكرر. على سبيل المثال، نجد أن الكاتب أكيرا ياماموتو Akira Yamamoto يفرق بين تسعة عوامل ''تساعد على الحفاظ وتسويق اللغات الصغيرة'' والعوامل التسعة هي:

• وجود ثقافة لغة مهيمنة راغبة في التنوع اللغوي.

• إحساس قوي بالهوية العرقية داخل المجتمع المهدد بالانقراض.

• ترويج برامج تعليمية عن اللغة والثقافة المهددتين بالانقراض.

• وضع برامج مدرسية ثنائية اللغة والثقافة.

• تدريب المتحدثين باللغة الأم ليصبحوا معلمي.

• إشراك الجماعة اللغوية كاملة.

• وضع مواد لغوية تكون سهلة الاستخدام.

• تطوير الأدب المكتوب، التقليدي والحديث.

• إيجاد وتقوية البيئات التي ينبغي أن تستخدم فيها اللغة.

قدمت لين لاندوير Lynn Landweer ثمانية ''مؤشرات إحياء عرقي لغوي'' للغة مهددة بالانقراض هي:

• المدى الذي يمكن لها أن تقاوم فيه تأثير ثقافة متحضرة ومهيمنة.

• عدد المجالات التي تستخدم فيها.

• التكرار، ورموز التحول، ونوعه.

• وجود عدد ضخم من المتحدثين بها بطلاقة.

• توزيع المتحدثين عبر الشبكات الاجتماعية.

• الاعتراف الداخلي والخارجي بالمجموعة على أنه مجتمع فريد.

• مكانتها النسبية مقارنة باللغات حولها.

• اتصالها بقاعدة اقتصادية مستقرة"(16).

والملاحظة أن هذه القوائم بينها قدر كبير من القواسم المشتركة، والتي تهدف بالأساس إلى إعادة الاعتبار للغات المهددة بالانقراض والموت، ومن خلال هذه الخطوات استطاع الباحثون ما أمكن أن يخطو سبيل سير يتبعه أصحاب هذه اللغة للحفاظ على بقائها واستمرار فعاليتها.

خاتمة:

وآية القول إن اللغة كيفما كان نسقها اللغوي على جميع المستويات، منها ما انقرض ومنها من سيطر ومنها من هو في طريق الاندثار، ولهذا كانت قضية الموت اللغوي محور هذا البحث المتواضع، أحطنا به ما أمكن من جوانب هذه المشكلة، وعموما فاللغة كي تحيا تحتاج إلى مجتمعات تتحدث بها كي تعيش، لذلك فإن المجتمع فقط هو الذي يحفظ اللغة المهددة بالانقراض، وهذه هي النقطة الجوهرية في القضية كلها لأن موت اللغة خسارة فادحة لكل الذين لهم علاقة بها.

 

البيبليوغرافيا المعتمدة:

1 - محمد محمد داود، العربية وعلم اللغة الحديث، دار غريب، 2001م، ص45.

2 - نفس المرجع السابق، ص45-46.

3 - نفس المرجع السابق، ص46.

4 - حسن ظاظا، اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة، دار القلم دمشق، الطبعة 2، 1410هـ 1990م، ص119-120.

5 - ديفيد كريستال، موت اللغة، ترجمة فهد بن مسعد اللهيبي، جامعة تبوك، 2006م، ص23.

6 - ديفيد كريستال، موت اللغة، مرجع سابق، ص23.

7 - نفسه، ص24

8 - نفس المرجع السابق، ص24-25.

9 - حسن ظاظا، اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة، دار القلم دمشق، الطبعة 2، 1410هـ 1990م، ص117-118.

10 - ديفيد كريستال، موت اللغة، ترجمة فهد بن مسعد اللهيبي، جامعة تبوك، 2006م، ص153-155.

11 - حسن ظاظا، اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة، دار القلم دمشق، الطبعة 2، 1410هـ 1990م، ص126.

12 - نفس المرجع السابق والصفحة.

13 - ديفيد كريستال، موت اللغة، ترجمة فهد بن مسعد اللهيبي، جامعة تبوك، 2006م، ص26-27-28.

14 - نفس المرجع السابق، ص 36-37.

15 - ينظر إلى: ديفيد كريستال، موت اللغة، ترجمة فهد بن مسعد اللهيبي، جامعة تبوك، 2006م، الفصل الخامس المعنون بـ:مذا يمكن عمله؟ ص من 206 إلى 227، بتصرف.

16 - نفس المرجع السابق، ص231-232.


عدد القراء: 3330

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-