«شياطين» دوستويفسكي: التنبؤات المبكرة بالثوراتالباب: مقالات الكتاب
جودت هوشيار موسكو |
في عام 1860، عاد فيودور دوستويفسكي إلى سانت بطرسبرغ بعد قضاء أربع سنوات في معتقل للأشغال الشاقة وست سنوات في الخدمة العسكرية الإجبارية في المنفى، لكن المراقبة السرية له لم تتوقف حتى منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر. فترة المعتقل والمنفى أحدثت تغييرًا كبيرًا في فكر دوستويفسكي. رغم أنه لم يتخل عن قناعته بأن المجتمع الروسي يجب أن يتغير بشكل جدي، وأن نظام القنانة كان غير أخلاقي للغاية، وحتى نهاية أيامه لم يكن يطيق الطبقة الأرستقراطية. لكن مشاعره العميقة في اللحظة التي كان فيها على وشك الموت ـ عندما وقف في ساحة الإعدام والبنادق مصوبة إلى صدره – قبل العفو القيصري عنه وعن رفاقه، وتغيير الحكم إلى الاشغال الشاقة والمنفى – سمحت له بإلقاء نظرة مختلفة على الزمن والتاريخ، بعد سنوات عديدة، كتب أنه لا يتذكر متى كان سعيدًا كما كان في ذلك اليوم. أدرك دوستويفسكي حينها أن الحياة البشرية ليست حركة من ماض متخلف إلى مستقبل أفضل، وهو ما كان يؤمن به في شبابه، بل إن كل مؤمن في أي لحظة من الزمن على وشك الأبدية. ونتيجة لهذا الكشف، كان لدى دوستويفسكي ثقة أقل فأقل في أيديولوجية التقدم التي جذبته كثيرا في شبابه.
العدمية الروسية
بعد عودته من المنفى السيبيري إلى سانت بطرسبرغ، تعامل دوستويفسكي بازدراء مع الأفكار المتداولة بين المثقفين في العاصمة، كان الجيل الجديد من المثقفين الروس متأثرين بشدة بالفلاسفة الأوروبيين. اختلطت المادية الفرنسية، والإنسانية الألمانية، والنفعية الإنكليزية في روسيا، وتحولت إلى أيديولوجية فريدة في هذا البلد، سميت بـ«العدمية».
اعتدنا أن نفكر في العدميين كأشخاص لا يؤمنون بأي شيء، لكن العدميين الروس في ستينيات القرن التاسع عشر كانوا مختلفين للغاية، كانوا يؤمنون بالعلم بحماس، ويحلمون بتدمير التقاليد الدينية والأخلاقية التي وجهت البشرية في الماضي، وأن هذا ضروري لبناء عالم جديد أفضل، اليوم يحمل عدد كبير من الناس معتقدات مماثلة. يرد حكم دوستويفسكي حول العدمية في رواية «الشياطين» بعد نشرها مباشرة في عام 1872، اتهم النقاد هذه الرواية بأنها تثقيفية ومناهضة للثورة التي يحلم بها العدميون، فقد سعى المؤلف إلى أن يصوّر في روايته الأضرار الفادحة للأفكار التي حملها معاصروه. لكن القصة التي رواها دوستويفسكي في رواية «الشياطين» هي أيضا كوميديا سوداء، وتصوير ساخر لمثقفين رفيعي المستوى يلعبون بأفكار ثورية، دون فهم ما تعنيه الثورة في الواقع.
حبكة الرواية مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت عام 1870 تابعها دوستويفسكي عن كثب. وحين سلمت الحكومة السويسرية إلى روسيا، سيرجي نيتشايف، العدمي ومؤسس منظمة «انتقام الشعب» متهمًا بقتل طالب، أحدثت محاكمته ضجة كبيرة في المجتمع، وتم نشر العديد من وثائق المحاكمة في الصحافة، بما في ذلك تعاليم المنظمة، التي تبرر أي جريمة مهما كانت بشعة، إذا ارتكبت لصالح الثورة. في «انتقام الشعب» تمتع نيتشايف بحقوق ديكتاتور، مطالبًا أعضاء الجمعية بالطاعة العمياء. وألف كتاب «التعاليم المسيحية للثوري» أكد فيه، أن أي وسيلة، بما في ذلك القتل والابتزاز، يمكن استخدامها باسم الثورة. شكك الطالب إيفان إيفانوف في الأطروحات الثورية لسيرجي نيتشايف، وأراد ترك المنظمة فقتل على يد الأخير. كان القتل قاسيًا ووحشيًا، وعديم المعنى، لدرجة أن الثوار أنفسهم من جميع المعتقدات والمشارب والتوجهات سارعوا إلى النأي بأنفسهم عن هذه الجريمة. وقليل من الناس تمكنوا من إدراك مدى خطورة الأفكار العدمية الروسية واعتبروا هذه الجريمة علامة على حدوث كارثة وشيكة.
استنادًا إلى مواد هذه القضية، نشأت لدى دوستويفسكي فكرة رواية جديدة تحت عنوان «الشياطين» نشرت تباعًا بين عامي 1871 – 1872 في مجلة «روسكي فيستنيك» الأدبية المرموقة. استقبل النقاد والجمهور القارئ الرواية الجديدة ببرود إلى حد ما. تحدث تورجينيف عنها بشكل سلبي، حتى إن بعض النقاد أعلنوا أن الرواية «افتراء» على الثوار. وبمرور الوقت، لم يتغير الوضع إلا قليلاً. نظر معظم مؤيدي الحركة الثورية الروسية إلى «الشياطين» على أنها صورة كاريكاتيرية شريرة لأفكارهم. هذه السمعة أعاقت رواج الرواية في روسيا في القرن التاسع عشر. على عكس روسيا، قدر الوسط الثقافي في الغرب، العمق الاجتماعي والأخلاقي للرواية. وكان لهذا العمل تأثير كبير في الأدب الفلسفي الغربي، وتأثر فيها على وجه الخصوص كل من نيتشه وكامو. نبوءة دوستويفسكي تحققت في روسيا بعد نصف قرن، فقد وصف الكاتب الواقع السوفييتي بدقة مذهلة. إنه لأمر مدهش، كيف تنبأ الكاتب قبل عشرات السنين باندلاع ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917، لذا لم يكن من الغريب أن يمنع تداول الرواية على نطاق واسع في العهد السوفييتي. انتقد زعيم الثورة، فلاديمير لينين، نيتشايف بسبب افتتانه المفرط بالإرهاب الفردي، لكنه أعجب باستعداده التام لارتكاب أي جريمة إذا كانت تخدم قضية الثورة.
«الشياطين» رواية رهيبة، فقط وصف دوستويفسكي بدقة وبُعد نظر، بالكارثة التي حلّت بروسيا بعد 45 عامًا من نشر الرواية، التي تُعد تحذيرًا هائلاً للبشرية جمعاء حتى يومنا هذا. لقد تغير الموقف تجاه «الشياطين» بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. فقد فهم الروس نبوءة أفكار دوستويفسكي، ورغبته في أن يظهر للعالم خطر الأفكار الثورية والإلحادية الراديكالية. عبّر الكاتب عن عمق الاغتراب عن شخصياته.
من هو «الشيطان» الرئيسي في الرواية؟
في صورة بطل رواية «الشياطين» بيوتر فيرخوفينسكي، يظهر تشابه واضح مع نيتشايف، وأقواله عن روح «التعاليم المسيحية للثوري» لكن هذا البطل أعمق وأوسع أفقًا من زعيم المنظمة الثورية، وأكثر ثباتًا بين جميع «المناضلين من أجل الحرية» يتولد لدى المرء انطباع بأن مثل هذا الشرير اللئيم لا يتورع عن القيام بأي عمل دنيء. يرفض فيرخوفينسكي كل شيء مقدس وسام، ويسخر منه ويبتذله، لا توجد قيم عليا لمثل هذا الشخص، بما في ذلك الحياة البشرية، يخطط بيتر لقتل شاتوف بدم بارد، ويتخلى عن رفاقه، ويسخر من نية كيريلوف الانتحار لتغطية أعماله الشريرة. وهو ملحد ومثير للاشمئزاز، جوهر هذا الرجل هو التقليل من شأن كل شيء وكل شخص لتبرير وتسليط الضوء على نفسه الصغيرة القذرة. ما هو هدف بيوتر؟ هو نفسه يعترف بأن الفكرة الثورية ليست سوى وسيلة، الشيء الرئيسي هو القوة.. وهو يسعى إلى السيطرة على الناس وعقولهم وأرواحهم. يعترف أحد أبطال رواية «الشياطين»: «أنا مرتبك في آرائي الخاصة، واستنتاجي يتناقض بشكل مباشر مع الفكرة الأساسية للمنظمة التي انسحبت منها، وإذ أخرج من حرية لا حدود لها، انتهي إلى استبداد لا حدود له». وكما تنبأ دوستويفسكي، أدى استخدام الأساليب غير الإنسانية لتحقيق حرية جديدة إلى قمع أكثر فظاعة بكثير من القسوة التي مارسها النظام القيصري ضد معارضيه.
تتضمن رواية دوستويفسكي درسًا مهمًا جدًا في عصرنا الراهن يتجاوز حدود روسيا. ترجمت رواية «الشياطين» في الترجمات الإنكليزية المبكرة، تحت عنوان «المجانين» وهذه ترجمة غير دقيقة، لكنها قد تكون أقرب بكثير إلى معنى الفكرة الرئيسية للرواية. عندما يكتب دوستويفسكي عن القوة الشيطانية للأفكار، يتحدث عن العيوب الرئيسية للعدميين الروس: تجاهل القيم الأخلاقية والإلحاد والفراغ الروحي..
تشخيص دوستويفسكي للعدمية – هو الميل إلى التفكير في الأفكار المجردة كشيء أكثر واقعية من الأشخاص الحقيقيين، لقد عانى الكاتب نفسه أحيانًا من الشيء نفسه، وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأننا لم نتعرض أبدا لهذا النوع من الأفكار الوهمية. يقول دوستويفسكي: «إن رفض الأخلاق باسم فكرة الحرية سيؤدي إلى طغيان لم يعرفه التاريخ بعد.
ينظر البعض إلى الحروب التي شنها الغرب في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة على أنها صراع على الموارد الطبيعية، لكن هذا ليس سوى جزء من القصة. من أجل شرح التدخل الغربي المستمر في شؤون هذه المنطقة، الذي انتهى إلى الفشل بانتظام، من المهم أن نفهم هذا النوع من الأوهام الأخلاقية الخطيرة التي كتب عنها فيودور دوستويفسكي. يعتقد الغرب أن أفكارًا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، يمكن أن تحدث فرقًا في حياة الناس في حد ذاتها، ووقع في شرك مشاريع تغيير الأنظمة الحاكمة التي تهدف إلى الإطاحة بالطغاة وغرس مثل تلك الأفكار في الأذهان، لكن مثل هذا التصدير للثورة يمكن أن يؤدي إلى تدمير الدولة، وحروب أهلية وفوضى وأنواع جديدة من الاستبداد، كما حدث في ليبيا وسوريا والعراق. والنتيجة هي الحالة التي نحن فيها الآن. حيث نرى إن السياسة الغربية ناجمة عن الخوف من الأفكار والقوى المتطرفة التي جلبتها الفوضى نتيجة التدخل الغربي في المنطقة. المجتمعات الليبرالية نفسها ليست محصنة ضد القوة الهائلة للأفكار. وسيكون من الوهم الاعتقاد بأن الغرب ليس لديه شياطينه الخاصة. ولأنه كان مهووسًا بالمفاهيم العظيمة للحرية، حاول تغيير أنظمة الحكم في بلدان لم يفهمها. ومثل الثوريين الحائرين في رواية دوستويفسكي، حول الغرب الأفكار المجردة إلى أصنام، وضحى بالآخرين في محاولة لمساعدتهم.
رواية «الشياطين» هي تحذير رهيب، حيث يتوقع الكاتب كارثة اجتماعية وظهور ثوريين لا حصر لهم على غرار نيتشايف. إنهم قادرون على الذهاب صوب «الحرية والمساواة والسعادة» على أشلاء الأبرياء، تحذير دوستويفسكي صالح في كل زمان ومكان، خاصة في مجتمعاتنا الشرقية.
تغريد
اكتب تعليقك