إشارات تخييل النصّ وحقائقهالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2023-01-30 14:06:13

د. عبد الفتاح محمد عادل

تخصص الأدب والنقد الإنجليزي - جامعة بيشة

يظل سؤال الحدود الفاصلة بين النص الأدبي وغيره من النصوص أحد مرتكزات تبيان حدود القراءة، وعُمد تحديد معالمها. لماذا نقرأ نصًا على أنه أدبي تخييلي، وآخر على أنه واقعي معلوماتي؟ أم أن كل كتابه فيها قدر من التخييل وقدر من الواقع؟ وما الذي يحدد هوية النص في نهاية المطاف؟ وكيف يميز القارئ بين التخييلي والحقائقي؟ وتكتسب هذه الأسئلة أهمية خاصة في عصر يوصف بأنه "ما بعد الحقيقة" حيث يستعر الخلاف حول تعريف "الحقيقة" كمفهوم أخلاقي يقابل "الكذب"، وكمفهوم معرفي يناقض "الزيف"، حتى طغت نسبيته على قطعيته في الجدل السياسي الذي يغلب عليه الاستقطاب.

إذا ما اعتبرنا أن فعل القراءة يمثل رحلة سير يأخذها القارئ بين جنبات النص ينتقل فيها بين دُروبه ومنحنياته، فإن هذه الرحلة ليست مجرد تنقلات عشوائية على غير هدى، بل هي سير منضبط بإشارات وعلامات توجيهية يضعها النص ويلتزم -أو لا يلتزم- بها القارئ في علاقة تعاقدية – وإن كانت في أغلب الأحيان بلا وعيٍ أو قصدٍ- بين النص، ومن خلفه الكاتب، وبين القارئ. فالنص يحمل إشارات تنبه القارئ عن طبيعة النص: (انتبه أنت تقرأ نصًا تخييليًا أدبيًا)، أو تلك الإشارات التي تقول (انتبه هذا النص ليس أدبيًا، بل واقعيًا)، وأثناء تنقل القارئ مع النص يمر بعلامات إشارية بعضها يشي بخيالية النص، ومنها ما يعيد ربطه بالواقع ويؤكد حقائقيته. لكن تلك الإشارات ليست بنفس وضوح إشارات السير في الطرقات بدالاتها الواضحة ومدلولاتها الثابتة، فكثير منها محير ويشي بما لا يظهر، عن قصد في الغالب.

يظل سؤال "التخييلية" من أكثر مسائل نظريات السرد جدلًا وثراءً في النقاش، أدلى فيها كل بدلوه ليرسم الحدود بين عوالم السرد التخييلية وغير التخييلية فتتمدد تارة وتنكمش أخرى، وتتحدد معالمها بدقة في أحيان وتبهت وتتماها مع غيرها في أحيان أخرى. حاولت نظرية السرد وضع حدود فاصلة بين السرد التخييلي والسرد غير التخييلي كما عبر عنهما جيرارد جانيتي الذي اعتبر الأول مجرد محاكاة للثاني. وقد جرى رسم هذه الحدود على أسس تتنوع بتنوع الدراسين واختلاف مشاربهم، فجاءت هذه الأسس منطقية، وأنطولوجية، وفينومينولوجية، وبراغماتية، وخطابية - إجرائية، وتفكيكية، ودلالية(1). فالبعض، على سبيل المثال، جعل منها موضوعًا أنطولجيًا (ontological) تختص بكينونة النصوص، وما تُمثله، وطريقة تمَثلها، فتصبح محددًا أساسيًا لطبيعة النص تحدد كُنهه وتمايزه عن غيره من النصوص؛ بينما جعل منها آخرون محددات وظيفية (functional) ترتبط بأنماط محددة من السرد والكتابة ولا تحدد طبيعتها، فلا يحدد وجودها انتماء أو عدم انتماء النص لنوعية معينة، بل هي مجرد أدوات قد يكثر وجودها في النصوص التخييلية ولكن لا لها حضورها أيضًا في غيرها. ولعل مما زاد تعقد الأمر خروج هذا الجدل عن حدود السرد النصي إلى حقول متقاربة مثل السينما والمسرح ليطرح أسئلة حول طبيعتها التخييلية.

ومن المفاهيم التي طُرحت "العلامات الإشارية للتخييل" (signposts of fictionality) للتعبير عن الميزات الأسلوبية التي تبين خيالية النص وتميزه عن النصوص غير التخييلية. وهذه الإشارات، وإن كان لا يمكن حصرها على النصوص التخييلية، إلا أنها تكتسب شرعية وسلاسة في وجودها داخل النص التخييلي عنها في باقي النصوص(2). ولا يتعارض هذا بأي حال من الأحوال مع مصداقية النص لدى القارئ فتلك العلامات تقابلها في النص "العلامات الإشارية الحقائقية" (signposts of factuality) التي تقتضي من القارئ أن يبني معارف واقعية من الأفعال التخييلية للنص(3). وبهذا يتحقق للنص التخييلي التوازن المنشود؛ فبدون "العلامات الإشارية للتخييل" لا يمكن للقارئ الولوج إلى عالم النص وتلقي مفرداته السردية، وبدون "العلامات الإشارية الحقائقية" لن يستطيع القارئ فهم النص وربطه بعالمه المعاش(4). من هنا ظهرت الدعوة إلى عدم مناقشة التخييلية كنقيض للحقائقية، أو أعتبر أن المتخيل غير حقيقي فالحقيقي يحمل في طياته أبعاده التخييلية كما يحمل التخييلي في طياته أبعاده الحقائقية. ولعل رواية كافا (The Trial) التي توضح دور السرد في العملية القضائية دعت البعض إلى دراسة سرديات الدفاع والاتهام في المحاكم ودورها في تخييلية الحدث لإثبات حقائقيته(5).

وبهذا يمكن اعتبار هذه الإشارات ضمن الأفعال التخييلية الأساسية في أي نص حتى تلك النصوص التي تدعي أنها نصوص واقعية غير أدبية. والفرق الوحيد بين "النص التخييلي الأدبي" والنص التخييلي غير الأدبي" هو أن الأخير يحاول جاهدًا أن يخفي تلك الإشارات عن قارئة حتى تنتفي عن النص طبيعته التخييلية وتبرز طبيعته الواقعية(6). لكن النصوص الأدبية تبرز تلك الإشارات لأنها شرط أساسي لوجودها والتعامل معها، فهي "أعراف مشتركة بين المؤلف والجمهور"؛ تنطوي تلك الأعراف على مجموعة متنوعة من "الشروط التعاقدية" التي يتقاسمها كل من المؤلف والقارئ؛ فالنص الكاشف عن تخييليته يستلزم موقفًا مختلفًا عن النص الذي يخفي تخييليته. وهذا "الموقف المتغير" للقارئ هو الذي يساعد على إدراك خيالية النص فيعبر القارئ حدود الأفعال التخيلية لتحقيق هذا الانتقال من الواقعي إلى التخيلي.

ولعل أبرز تلك الإشارات التصنيف النوعي للنص وما يشمله من التقسيمات المعتادة للأنواع الأدبية. فغلاف النص الذي يعرف النص كشعر أو رواية يحدد للقارئ إشارات نصية تخيليية تكشف عن نفسها بوضوح وتتطلب موقفًا مغايرًا لأي نص آخر يحمل إشارات مختلفة قد تتطلب تغييرًا في موقف القارئ. وقد يدخل هذا المفهوم ضمن مفهوم "أفق التلقي" الذي يتخلق لكل قارئ في اللحظة الزمانية التي يتلقى فيها النص. ومن وظائف النص في عملية التلقي أن "يهيئ جمهوره لتلقي محدد، إما بالإعلان المباشر، أو بالإشارات الواضحة، أو الضمنية، أوعن طريق سمات معروفة أو تلميحات ضمنية"(7).

لا يمكن أن تتحقق "خيالية النص" بدون استعداد القارئ للدخول في هذا الموقف التشارطي/التعاقدي مع النص. ويتضح هذا من حالات فشل القارئ في "التعرف على الإشارات التعاقدية" والتي تؤدي إلى "رد فعل غير مناسب"(8). وقد عبر هنري فيلدنج عن هذه الحالة في روايته (Tom Jones) في العرض المسرحي لهاملت الذي تفاعل معه أحد شخصيات الرواية بفاعلية مزجت بين الواقع والمتخيل. وألمح شكسبير لهذا الشرط في بعض مسرحياته مثل (A Midsummer Night's Dream) عندما يحذر أحد الممثلين في المسرحية داخل المسرحية جمهوره بألا يخافوا من الأسد الذي سيظهر على المسرح لأنه غير حقيقي، بل أحد الممثلين في فرقتهم. كما استخدمه توم ستوبارد في مسرحيته ذات الفصل الواحد (The Real Inspector Hound) التي يتدخل فيها ناقدان مسرحيان في العرض المسرحي المتضمن في المسرحية حتى ينتهي الأمر بمقتل أحدهما. فهذه النصوص ومثيلاتها مثلت لما يحدث في كثير من النصوص التخييلية من الكشف عن عوالم منفصلة بما يشبه تقنية (mise en abyme) في الفن التصويري حيث تحوي الصورة نسخة منها؛ وما حدث في هذه الأمثلة من تجاوز للحدود الفاصلة بين هذه العوالم يوضح الطبيعية التشارطية التي بدونها ينهار العالم السردي أو تتكشف ملامح تخييله، وهو ما يمكن أن يسمى (تجاوز الحدود التخييلية)(9).

وهذه الأمثلة المسرحية تحيل نقاشنا إلى ما اصطلح في الفني المسرحي والسينمائي على تسميته (الحائط الرابع). يشير هذا المفهوم إلى حائط وهمي ينظر من خلفه المشاهد إلى العرض، باعتبار أن العرض يجري بين ثلاث جدران تمثل المسرح. وبالتالي فإن تصرف الممثل على خشبة المسرح كأنه لا يرى الجمهور أو الممثل السينمائي كأنه لا يرى الكاميرات، والتزام الجمهور بالمشاهدة فقط يعد شرطًا أساسيًا لاكتمال الفعل التمثيلي؛ أي خرق لهذا الشرط يعتبر خرقًا للحائط الرابع. وقد استخدم هذا الخرق في العديد من العروض التجديدية في الفن المسرحي خاصة عند الكاتب والمخرج المسرحي الألماني الشهير برتولت بريخت الذي رسخ هذه التقنيات في تحديه لتقاليد الفن المسرح السائدة من خلال إيجاد حوار مباشر بين الشخصيات والجمهور وبل ومشاركة الجمهور فعليًا في الفعل المسرحي. أراد بريخت أن يمنع الجمهور من التماهي النفسي مع أحداث وشخصيات المسرحية بكسر ذلك الحاجز مما سيدفع الجمهور إلى التفاعل مع المسرحية من منظور نقدي يؤدي إلى التغيير الاجتماعي. لقد أدرك العديد من النقاد الماركسيين أن الشكل الفني منتج يرتبط بعلاقات الإنتاج المادي في المجتمع، وأن فعل التثوير لا ينحصر فقط في الأفكار، بل في الأشكال الفنية ذاتها(10).

وبالعودة للسرد، نجد تقنيات سردية مشابهة مهمتها كسر حاجز الوهم السردي يطلق عليها (metalepsis) يتم فيها تخطي مباغت للحواجز بين مختلف العوالم السردية التي لا يمكن تخطيها في الواقع المعاش مثل التدخل المباشر للراوي العليم في أحداث يفترض أنه لا يعيش زمانها ولا يوجد في مكانها فيكشف عن ماهيته التخييلية كشخصية وعن تخييلية الأحداث برمتها. وأحد التقنيات التي تتضمن هذا التأثير، إعادة سرد حدث أو أحداث الحبكة من زوايا مختلفة، ففي قصة روبرت كوفر القصيرة (The Babysitter)، على سبيل المثال، تتشظى الحبكة لعدة سرديات تنتهي نهايات مختلفة فيما يشبه التقنية السينمائية "التشعب الشوكي" (forking-path).

وهكذا تتنوع وتتمازج في النص الإشارات الدالة على تخييليته أو حقائقيته، ويظل السؤال مفتوحًا حول مدى حقائقية التخييلي وتخييلية الحقائقي، كما تتنوع طرق تجاوز كل من القارئ والنص لتلك الإشارات ليمزج القارئ بين الواقع والمتخيل، ويكشف النص طبيعته التخييلية ويضع حقائقية الواقع موضع التساؤل. فهل بهذا يساعد النص التخييلي قارئه على تمييز الحقيقية في عصر ما بعد الحقيقة، أم أنه جزء من عقدة هذا العصر؟

 

الهوامش:

 1 - Phelan, James & Peter J. Rabinowitz (eds). A Companion to Narrative Theory. Oxford: Blackwell, 2005. P. 5

Cohn, Dorrit. “Signposts of Fictionality: A Narratological Perspective.” Poetics Today, vol. 11, no. 4, 1990. P. 775

 - 2Bareis, J. Alexander. "The role of fictionality in narrative theory." In Lars-Ake Skalin, Narrativity, Fictionality, and Literariness: The Narrative Turn and the Study of Literary Fiction. Örebro: Örebro University Library, 2008. P. 153-4.

 -3 Konrad, Eva-Maria, “Signposts of Factuality: On Genuine Assertions in Fictional Literature.” In Ema Sullivan-Bissett, Helen Bradley, and Paul Noordhof (eds), Art and Belief. Oxford: Oxford Academic. 2017. P. 42

 -4 Bareis. P. 167

 -5 Walsh, Richard. “The Pragmatics of Narrative Fictionality” in Phelan & Rabinowitz, A Companion to Narrative Theory. Oxford: Blackwell, 2005. P. 151

 - 6Iser, Wolfgang. (1993). The Fictive and the Imaginary: Charting Literary Anthropology. Baltimore: The John Hopkins UP. P. 12

 - 7Jauss, Hans Robert. Towards an Aesthetic of Reception. Trans. Timothy Bahi. Minneapolis: Minnesota UP, 1982. P. 23

 - 8Iser. P.12

 - 9Iser. P.7

 - 10Eagleton, Terry. Marxism and Literary Criticism. London & New York: Routledge, 2002 (1976). P. 60- 62


عدد القراء: 1678

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-