نظرات في كيمياء التراثالباب: مقالات الكتاب
د. صديق عمر الصديق عبدالله أكاديمي سوداني، قسم الكيمياء، جامعة زيفير في ولاية لويزيانا |
"يا هذا تسمع بالكيمياء وما رأيته صح قط. اجمع عقاقير التوبة في بوتقة العزم، وأوقد تحتها نار الأسى على ما سلف، فإن تصعد منها نفس أسف، صار نحاس نحوسك ذهب سعادة".
قدم ابن الجوزي هذه الوصفة الروحية الكيميائية في كتابه "المدهش" للكيفية التي يمكن بها تطهير النفس وتحويل "نحاس نحسها إلى ذهب سعادة". ثم عاد في موضع آخر من ذات الكتاب لكي يخبرنا أن "العزلة والقناعة والصبر والعفة والتواضع عقاقير كيمياء النجاة، يبلغن بمستعملهن مرتبة الغنى". يدلنا هذان الاستشهادان على ذيوع الصور الذهنية المأخوذة مما عرفه السلف على أنه علم الكيمياء آنئذ وعلى خروج الألفاظ والمصطلحات الخاصة بهذا العلم من غرف الكيميائيين المظلمة ذات الروائح النفاذة والآنية الزجاجية غريبة الشكل وتسربها إلى المخيلة الشعبية. ولعله من الطريف أن ابن الجوزي الذي سوف نصادفه كثيرًا في هذا المقال كان من أشد أهل زمانه انتقادًا لكيمياء عصره التي كان يراها على أنها "هذيان فارغ. وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاسًا لم يتصور قلب النحاس ذهبًا. فإن فاعل هذا مستحسن للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده". بيد أن كاتب هذه السطور، وهو من المشتغلين بالكيمياء في القرن الواحد والعشرين عن محبة واقتناع، يلتمس لابن الجوزي العذر لأنه يدرك أن الكيمياء التي خصها بنقده وسخطه ليست هي علم الكيمياء الحديث الذي نعرفه ونلمس فوائده واسهاماته الجليلة في الغذاء والدواء وفي كل ما يحيط بنا من أدوات الحضارة اليوم، بل هي ما نسميه الآن "الكيمياء القديمة" أو "الخيمياء" وهي الصورة البدائية من الكيمياء التي كان شغلها الشاغل السعي وراء تحويل المعادن الخسيسة كالنحاس مثلاً الى ذهب والبحث عن الأكسير الذي يشفي من كل الأمراض.
ولفظ الكيمياء، على الأرجح، يعود إلى اسم مصر القديم (Khem) المشتق من التربة السوداء التي اشتهرت بها. ومن مصر أيضًا بدأت المحاولات الباكرة لتحقيق حلم تحويل العناصر الخسيسة إلى ذهب، وتطورت بسببها تقنيات ومواد وأواني انتقلت بعد ذلك إلى المجتمعات العربية القديمة التي شغف بعض أبرز علمائها بهذا العلم الغامض والساحر. ومن أشهر هؤلاء المشتغلين بالكيمياء جابر ابن حيان وأبو بكر الرازي اللذين أسهمت أبحاثهم الكيميائية في تطوير الأدوية وفي دراسة السموم وفي الكثير من التطبيقات النافعة الأخرى لهذا العلم. غير أن الكيميائي الذي عرفه وألفه عامة الناس في مجتمعات الأسلاف كان على الأرجح شخصًا غامضًا يعمل في حجرات مظلمة وسيئة التهوية ويستخدم آلات وعدة غير مألوفة ويسعى لتحويل النحاس إلى ذهب أو فضة أو يزعم مقدرته على تحقيق ذلك فعلاً. وكثيرًا ما كان الناس يصدقونه. فها هو أبو عثمان الجاحظ في كتاب البخلاء يخبرنا عن قول أحدهم "هذا المال لم أجمعه من القصص والأكدية، ومن احتيال النهار، ومكابدة الليل. ولا يجمع مثله أبدًا إلا من معاناة ركوب البحر، ومن عمل السلطان أو من كيمياء الذهب والفضة". غير أنه كان يُنظر إلى المكاسب المادية من شغل الكيميائيين فيما يبدوا بحسبانها مالا معرضًا للتلف أكثر من غيره، ففي منتخب الكلام في تفسير الأحلام لابن سيرين نقرأ "ورأى رجل كأنه نظر إلى السماء وتأمل القمر فلم يره، ونظر إلى الأرض فرأى القمر قد تلاشى. فقص رؤياه على معبّر فقال: إن كان صاحب هذه الرؤية رجلاً فإنه صاحب كيمياء وذهب، فيذهب ماله".
وعلى الرغم من أنه كانت لكثير من الناس وقتئذ نظرة ابن الجوزي المتشككة والساخطة على الكيمياء والكيميائيين إلا إن الصور الذهنية والمجازات المستلهمة من هذا العلم الغامض المذهل كانت حاضرة في أذهانهم. خذ عندك مثلاً الشريف الجرجاني الذي ذكر ثلاثة أنواع من الكيمياء المعنوية في كتاب التعريفات وهي "كيمياء السعادة: تهذيب النفس باجتناب الرذائل وتزكيتها عنها، واكتساب الفضائل وتحليتها بها؛ وكيمياء العوام أي استبدال المتاع الأخروي الباقي بالحطام الدنيوي الفاني؛ وكيمياء الخواص وهي تخليص القلب عن الكون باستئثار المكنون". كما اتخذ أبو حامد الغزالي من هذا اللفظ "كيمياء السعادة" عنوانًا لأحد كتبه التي يقول لنا في مطلعه "اعلم أن الكيمياء الظاهرية لا تكون في خزائن العوام وإنما تكون في خزائن الملوك، فكذلك كيمياء السعادة لا تكون إلا في خزائن الله سبحانه وتعالى؛ (...) فكل من طلب هذه الكيمياء من غير حضرة النبوة فقد أخطأ الطريق، ويكون عمله كالدينار البهرج فيظن في نفسه أنه غني وهو مفلس يوم القيامة (...) ومن رحمة الله سبحانه وتعالى لعباده أنه أرسل إليهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي يعلمون الناس نسخة الكيمياء، ويعلمونهم كيف يجعلون القلب في كور المجاهدة، وكيف يطهرون القلب من الأخلاق المذمومة وكيف يؤدونه لطرق الصفاء (...) ومقصود هذه الكيمياء: أن كل ما كان من صفات النقص يتعرى منه، وكل ما يكون من صفات الكمال يلبسه. وسر هذه الكيمياء أن ترجع من الدنيا إلى الله". وجد الوعاظ أيضًا في خواص بعض العناصر المعروفة مثل الزئبق "الذي يستخدم في استخلاص الذهب" مضربًا للمثل كما في قول ابن الجوزي أيضًا "رض مهر النفس يتأت ركوبه، أمت زئبق الطبع يمكن استعماله" والمقصود هنا هو الحث على تثبيت الطبع ومنع تقلبه كما يتقلب عنصر الزئبق السائل المعروف بتدحرجه وتفلته. ويبدوا أن ابن الجوزي كان شغوفًا بتضمين وعظه تشبيهات من الكيمياء والفيزياء عمومًا، فها هو يتأمل في الزيت وهو يطفو على سطح الماء "بسبب اختلافهما في خاصية الكثافة" ويقول "إذا صب في القنديل ماء ثم صب عليه زيت، صعد الزيت فوق الماء، فيقول الماء: أنا ربيت شجرتك، فأين الأدب؟ ولم ترتفع علي؟ فيقول الزيت: أنت في رضراض الأنهار، تجري على طريق السلامة، وأنا صبرت على العصر وطحن الرحا وبالصبر يرتفع القدر".
وجدت الصور والمجازات والتشبيهات الكيميائية مكانًا أيضًا في عالم الغزل والحب. كما في قول الحويزي:
"قد أخلصت كيمياء الحب وجنته
كأنـهـــا للـهـوى العـذري إكــســير
لو لم يكن كيمياء ما تيسر
للأنفاس والدمع تصعيد وتقطير"
وكانت حاضرة أيضًا في ذهن ابن حمديس الذي تأمل احمرار مياه النهر وقت الشروق وقال:
"ومشرق كيمياء الشمس في يده
ففضة الماء من إلقائها ذهب."
وفي وصف آخر للمشمشة بقوله:
"كأنها بوتقة أحميت يجول فيها ذهب ذائب"
وفعل الكيمياء التحويلي الذي ينتقل بالمادة من حال الوضاعة إلى النفاسة كان مغريًا لمخيلة بعض الشعراء، ونرى ذلك في قول ابن الرومي:
"عجب الناس من أبي الصقر إذ
قـلــد بعد الإجـــارة الـــديــوانــا
ولعمري ما ذاك أعجب من أن
كان علجًا فصار من شيبانا
أن للجد كيمياء إذا مـــــــــــــــا
نال كلــــبًا أصــابـــــــه إنـــسانــــــا
يخلق الله ما يشاء كما شاء
إذا شـــــــــــاء كائنـــــًا مـــــا كانــــا "
ولم تخل أشعار مدح السلاطين من إشارات كيميائية. فها هو أحد الشعراء يمدح سلطانًا بقوله:
"لكم كيمياء الملك صحت وغيركم
يعالج في تحصيلها الماء والملحا
وتصبح أقلام الوقائع في الوغى
سراعًا على أعدائكم تكتب الفتحا "
والشواهد غير ما ذكرنا كثيرة، لكن لو لم تستسغ هذه الأبيات أو رأيت نقصًا في شاعريتها، فلربما سرك أن ابن سنان الخفاجي يوافقك الرأي فها هو ذا يقول في كتابه "سر الفصاحة": "وكيمياء من ألفاظ العوام المبتذلة وليست من ألفاظ الخاصة ولا يحسن نظم مثلها"!
أولى الملوك والسلاطين الكيمياء اهتمامًا كبيرًا بسبب وعودها المغرية بمضاعفة الثروة التي تمكنهم من زيادة قوتهم وبسط سلطانهم. وليس هذا بالأمر المستغرب. غير أن كثيرًا من الوزراء والناصحين كانوا متوجسين جدًا من هذا العلم الغامض كما يخبرنا ابن الجوزي في المنتظم عن أحد هؤلاء ممن "دخل يومًا على المتوكل وعنده الفتح بن خاقان، وهما ينظران في أخلاط الكيمياء ويتراجعان القول فيه فلم يخض معهما في ذلك، فقال له المتوكل يا أبا إسحاق ما لك لا تتكلم معنا في هذا الباب؟ فقال يا أمير المؤمنين الكيمياء شيء لم يتعرض له الملوك قبلك، ولا نظر فيه آباؤك، ولكن أدلك على كيمياء هو الحق الصحيح. قال: ما هو؟ قال تسلفني خمسين ألف دينار من بيت المال أنفقها على مصالح السواد، ثم تنظر ما يرتفع إليك من الزيادة في العمارة" وتتمة القصة أن مشورة أبي إسحاق هذه آتت أكلها حين حال الحول وعاد فيء ما أنفقه المتوكل بنسبة إثنين وثلاثين دينارًا لكل دينار تم إنفاقه على المصالح العامة الأمر الذي سر المتوكل وجعله يقول: "هذا الكيمياء الذي يجب على الخلفاء النظر فيه".
لكن الملك نور الدين بن زنكي لم يجد من ينصحه حين وقع في فخ أحد النصابين من أهل صنعة الكيمياء في عصره في القصة التي أوردها الجوبري في كتاب المختار في كشف الأسرار. يحدثنا الجوبري عن أعجمي قدم إلى دمشق ذات يوم "فأخذ ألف دينار مصرية فبردها برادةً ناعمة، ثم أخذ دق الفحم وأضاف إليه عقاقير مجمعة، وطحن الجميع وعجنه بغراء السمك، ثم جعله بنادق وجففها تجفيفًا ناعمًا، (...) ثم أتى إلى بعض العطارين فقال له: أتشتري مني هذا؟ فقال له العطار: ولأي شيء ينفع هذا؟، قال: ينفع من السموم القاتلة (...)، فقال العطار: وبكم هو؟ فقال: بعشرة دراهم. فاتفقا على خمسة دراهم، فأخذ العجمي الدراهم، وجعل العطار الطبرمك الخراساني في علبة عتيقة (...) فلما انفصل من عند العطار جاء إلى منزله، ولبس أحسن ما يكون من ملابس الوزراء والملوك (...)، وصار يخرج إلى الجامع، ويتعرف بالأكابر من أهل البلد، (...) ويدعي الوصول في علم الصناعة (أي الكيمياء) وأنه يقدر يعمل في يوم واحد جملةً من المال.
وشاع ذلك عنه في دمشق، فسأله الكبراء أن يعمل عندهم فامتنع، وقال: "ما أنا محتاج إلى أحد؛ فإني في يوم واحد أعمل بمقدار نعمة من يريد أن أعمل عنده...، وإن كان لأجل جاه فأنا ما أعمل شيئًا عليَّ دركُهُ فإن الذي أعمله ما فيه غش ولا زغل حتى أطلب فيه جاه أحد، هذه صنعة إلهية، وقد آليت على نفسي ألا أعمل بها إلا لملك بعد أن يعاهدني أنه لا ينفق منه شيئًا إلا في سبيل الله"(...).
فلما سمع الوزير ذلك قال: والله، هذه سعادة للمسلمين وللسلطان، ثم قال للرجل: أُعرِّف السلطان بالأمر؟ قال: نعم" وبقية الحكاية إن هذا النصاب وعد الملك نور الدين بتوليد الثروة الطائلة، بشرط أن يوفر له الملك ما يحتاجه من مواد، من بينها الطبرمك الذي لم يتم العثور عليه بالطبع إلا عند ذلك العطار. أفلح المحتال في الاختبار الأول حين أخذ برادة الذهب الذي لا يعلم غيره أنها موجودة في الطبرمك وسبكها بالنار وأخرجها ذهبًا يخطف الأبصار ويطمئن الملك الذي رغب، كما هو متوقع، في المزيد من المعدن النفيس، وحينها رد المحتال بالسمع والطاعة لكنه اشترط الحصول على مزيد من الطبرمك الذي زعم أنه نبات متوفر في نواحي خراسان فقط. وحينها أنفذه الملك في بعثة لجلب الطبرمك وزوده بالأموال الطائلة والعتاد وبالكتب التي توصي جميع العمال بمعاونته وخدمته. وبطبيعة الحال ذهب ذلك النصاب ولم يسمع عن خبره بعدها. غير أن الطريف في الأمر هو أن أحد الدمشقيين كان يعد قائمة بالمغفلين والمحارفين، فلما سمع بقصة الطبرمك، وضع اسم الملك نور الدين على رأسها وحينها استدعاه الملك، الذي كان يتمتع فيما يبدوا بما نسميه اليوم روحًا رياضية، وسأله عن سبب ورود اسمه في قائمة المغفلين، أخبره أن صاحب الطبرمك لا بد وأن يكون محتالًا، لكن الملك الذي لم يكن قد فقد الأمل بعد، أخبره أن صاحب الطبرمك سوف يعود، حينها قال له الدمشقي "إن جاء محوت اسمك، وكتبت اسمه" فضحك الملك ووهبه أموالاً.
نخلص إلى أن علم الكيمياء الغامض والمحير كان له حضور وتأثير في المخيلة الشعبية للأسلاف. كما كانت الكيمياء بالنسبة لهم مادة وجسمًا له المقدرة على إجراء التحويلات المذهلة في الثروة وفي الصحة، كما أنها كانت أيضًا قوة تحويلية خفية. وعلى الرغم من توجس الكثيرين منها إلا أن ذلك لم يمنعهم من استكشاف ما يمكنها أن تقدمه لهم كما لم يحل دون أن يدرجوا مصطلحاتها والصور الذهنية المرتبطة بأبخرتها وبواتقها وآنيتها في وعظهم وغزلهم وتشبيهاتهم وجوانب أخرى من تعابيرهم.
تغريد
اكتب تعليقك