قراءة في كتاب (الإسلام والغرب)الباب: مقالات الكتاب
د. وليد السراقبي كلية الآداب الثانية – حماة - سوريا |
الكتاب: (الإسلام والغرب )
المؤلف: المستشرق برنارد لويس
الناشر: الطبعة الإنكليزية الأولى جامعة أكسفورد سنة 1993.
الناشر: (الطبعة العربية) اتحاد الكتاب العرب في دمشق.
تاريخ النشر: 2007
عدد الصفحات: 271 صفحة - القطع المتوسط.
إذا ذُكر الاستشراق المعاصر لمع في أُفقه اسم برنارد لويس, وانداحت أمام الدارس قائمة من المؤلَّفات التي صنَّفها هذا المستشرق, وهي ناضحة بجوانب معرفية وثقافية مترامية الأطراف, كان من آخرها كتابه الذي يحمل عنوان (الإسلام والغرب). و(برنارد لويس) أحد مستشرقي العالم الأنجلو أميركي, تعلَّم أصول الاستشراق في (كلية الدراسات الشرقية والإفريقية) في جامعة لندن, ثم شرع في التعليم فيها, وفي جامعة باريس من بعد, وكان أحد تلاميذ لويس ماسينيون ( ت 1963م).
انضمَّ – من بعد – إلى القوات البريطانية التي أعارته إلى وزارة الخارجية, فعاش تلاقح الدراسات الشرقية والسياسة. ثم انكفأ إلى التدريس في جامعة لندن وغدا رئيساً لقسم تاريخ الشرق الأدنى فيما بين الأعوام (1957 – 1974). ثم انتقل إلى الجامعات الأمريكية أستاذاً زائراً فيما بين (1949 – 1974), وفي عام 1974 انتقل إلى أمريكا مهاجراً سنة 1974م, إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1988م. وخلال هذا العمر المديد أشرف (برنارد لويس) على جملة من الأطاريح الجامعيَّة لتلامذة كان يتخيّرهم بخبرته الواسعة, وكان كثير منهم من العرب. وكان نتاجه العلميّ موضع اهتمام كبير بين مفكري العرب والمسلمين, ونُقِل كثير منه إلى اللغات العربية والفارسية والتركية وغيرها. و«بعد انتقاله إلى الولايات المتّحدة عمل مرات عديدة مستشاراً للجان الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي, إذ أصبح عندئذ أحد أهم كبار المتخصصين والمعلقين في شؤون الشرق الأوسط ....» و «ما زال – بعد تقاعده – أستاذاً فخريَّاً في جامعة برنستون يشرف على عدَّة رسائل دكتوراه في موضوعات عربية وإسلامية مختلفة».
أثارت مؤلفاته وأطاريحه غير ما قليلٍ من النقاش في الأوساط العلمية الإنكليزية والعربية, فكتب عنه غيرما واحد, من أهمهم: عبد اللطيف الطيباوي, وإدوارد سعيد, وسمير عبد ربه, وغيرهم. وكتب الباحث (مازن مطبَّقاني) كتاباً جعل فيه كتابات (برنارد لويس) ميداناً تطبيقياً في دراسة الاستشراق وعلاقته بالاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي, وقد صدر هذا الكتاب في المملكة العربية السعودية, وهو من الكتب القيِّمة التي تُقْرأ بحق.
وإذا كان بعض المؤلفين أو المترجمين يرفعون عقائرهم مفاخرين أنهم ألفوا كذا وكذا كتاباً, أو ترجموا مثل ذلك = فإن ما خلَّفه (برنارد لويس) – عبر عمره المديد – يعكس عمق التجربة الفكرية, واتساع الثقافة, وعمق الأفكار التي يطرحها, وخير دليل على ذلك ما أثارته من مناقشات وردود أفعال في غير ما صُقْع, كما ذكرنا من قبل. فمن آثار هذا الرجل على سبيل التمثيل لا الحصر:
1. أصول الإسماعيلية: ترجمة خليل أحمد جلو وجاسم أحمد الرجب, بغداد, مكتبة المثنى, 1957م .
2. إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية, ترجمة سيد رضوان علي, جدة, الدار السعودية للنشر, 1982م.
3. اللغة السياسية في الإسلام: ترجمة محمد علي المقلد, بيروت, معهد الإنماء العربي, 1991م.
إلى جانب جملة عدد من المقالات التي نشرت في غير ما وعاء من أوعية البشر .
أما مترجم الكتاب فهو: الدكتور فؤاد عبد المطلب, يحمل شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة إسكس 1989م, وعمل باحثاً زائراً في جامعة أوبرلين– أوهايو الأمريكية في عامي 1993 / 1994, وأستاذ الأدب الإنكليزي والترجمة في جامعات حلب, ولبنان, وجامعة الملك عبد العزيز, وكلية المعلمين في الرياض, وهو الآن أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة جرش في المملكة الأردنية الهاشمية. كانت له إسهامات كثيرة في ترجمة كثير من الأعمال عن اللغة الإنكليزية كان من آخرها هذا الكتاب الذي نعرض له في هذه الصفحات, وكتاب (الأدب المقارن ) لـ (هنري) غيفورد, وقد صدر عن اتحاد الكتاب العرب سنة 2013م وهو الكتاب الخامس في سلسلة الترجمة التي يصدرها الاتحاد, وكتاب (الغرب والإسلام) لـ (أنتوني بلاك) وقد صدر برقم (394) في سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية سنة 2013م, هذا إلى جانب عدد من الأبحاث التي نشرت منجَّمة في مجّلات عدّة.
3 - الكتاب:
صدر هذا الكتاب عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق في طبعته الأولى سنة 2007م, وشغل إحدى وسبعين ومئتي صفحة من القطع المتوسِّط. والكتاب صدر في طبعته الإنكليزية الأولى عن جامعة أكسفور سنة 1993م.
أما معالم الهيكلية العامة للكتاب ففي مقدورنا أن نوزعها على مقدمتين وثلاثة أقسام على النحو الآتي:
أ- مقدمة المترجم. (ص 5 – 17).
ب- استهلال المؤلف ( ص 17 – 21 ).
ت- القسم الأول: ( الصِّدامات ). ( ص 21 – 97 ).
ث- القسم الثاني: (دراسات ومفهومات) (ص 97 – 181 ).
ج- القسم الثالث: ( الاستجابة وردّ الفعل الإسلامي) (ص 197 – 258 ).
فرش المترجم في المقدّمة اهتمام الغرب الأوربي والأمريكي بدراسة الإسلام في هذه الأيام, بهدف فهم «ظاهرة الإسلام» وسبل مواجهتها محليّاً اتكاء على وكلاء سياسيين وفكريين, وعالمياً من خلال امتطاء صهوة مراكز البحوث التي تقوم على سواعد غربية مسلمة أو عربية, وتوظيف الإمكانات العلمية والبحثية والبشرية في سبيل ذلك . فالعلاقة بين الشرق والغرب ليست وليدة الأيام أو السنوات الراهنة, ولكنها علاقة تعود إلى «بدايات تأثير حضارات الشرق القديم في التطوّر الحضاري أنساني, وتأثير المنظومة الحضارية العربية القديمة, في العراق وسوريا ومصر وشبه الجزيرة وشمال إفريقيا ... في بلاد اليونان تحديداً وفي الغرب عموماً».
فالكتاب يعكس اهتمام برنارد لويس في دراسة العلاقات بين حضارتين يسمِّي الأولى الإسلامية, ويسمِّي الثانية بالمسيحية, أو الأوربية, أو الغربية, وذلك أن «علاقات الإسلام لا يمكن مزاوجتها أو دراستها منطقياً مع القارة الأوربية أو الغرب, بل مع الدين المسيحي أو العالم المسيحي, الذي هو في الوقت نفسه مفهوم قروسطي, أخذ يضعف تدريجياً بدءاً من الربع الأخير للقرن الثامن عشر عبر تخلِّي الأمم والثقافات الأوربية عن الصفة الدينية المسيحية».
عقد المؤلف (برنارد لويس) استهلاله على دراسة هذه العلاقة بين الإسلام والمسيحية منذ بدء ظهور الإسلام, إذ إن «الكتاب والتقاليد الإسلامية, والحضارة الشاملة التي نشأت تحت رعايتها, تثبتُ, وبألف طريقة, الصّلات العميقة التي تربط الإسلام بالمسيحيّة وبأسلافها المشتركين من اليهود والهيلينين والشرق أوسطيين» . وذهب إلى أن الديانتين الإسلامية والمسيحية ديانتان شقيقتان تتقاسمان موروثاً عظيماً, وتتشاطران السيادة, ولكنّهما في الغالب تتنازعانها, فكان ذلك مفضياً إلى نزاعات وصراعات ابتدأت بما يسميها برنارد لويس بالحروب المقدّسة الأولى , وما عرف في التاريخ العربي الإسلامي بالحروب الصليبية (حروب الفرنجة) و«في هذا الصراع الطويل الأمد الذي ينتهي – للأسف – افترقت هاتان الحضارتان بما تشابهتا به أكثر مما اختلفتا فيه».
ثم يدلف برنارد لويس إلى تحديد هدف الكتاب, وهو دراسة العلاقة بين هاتين الحضارتين: المعروفة إحداهما بالإسلامية, والأخرى بالغربية, لينتقل – من بعد – إلى بَسْط بعض مضامين الأقسام الثلاثة التي تمحور حولها الكتاب. مع الإشارة إلى تعهُّد برنارد لويس مباحث الكتاب عامة بمراجعته إياها في سبيل تخليّها من الأخطاء والتداخلات, وفي سبيل تحقيق التناغم والاتّساق فيما بينها آخذاً في الحسبان آخر ما وصلت إليه أدبيات هذه العلامة بين الإسلام والغرب. وختم ذلك بما عبَّر به عن خَلّة الوفاء والامتنان لكل من ساعد في إعداد هذا الكتاب وطباعته ونشره, سواء أكانوا من ناشري الكتب والصحف ومحرريها, أم من أولئك الذين أذنوا له بإعادة نشرها بعد أن نشرت منجَّمة في صحفهم, أو الذين قرؤوا أجزاء من مخطوطة الكتاب, وعلّقوا عليها تعاليق أخذ بها وأفاد منها, مُنْهياً ذلك بعدم تحميله أحداً منهم وِزْرَ ما قد يتناثر في هذه الكتاب من أخطاء, فـ «ليكن في النهاية واضحاً أن أيَّ أخطاء متبقيّة هي في جلها أخطائي» . أمّا القسم فنجد فيه: ما يأتي:
أ- أوروبا الإسلام.
ب- الانعكاسات الشرعية والتاريخية على وضع السكان المسلمين تحت حكم غير المسلمين.
وقد أجرى برناردو لويس في هذا القسم مسحاً تاريخياً للتفاعل بين الحضارتين الإسلامية والغربية في السلم, ومسحاً آخر تناول فيه التفاعل التجاري بينهما أيضاً. وناقش كذلك قضية نشوء أقليات مسلمة كبيرة في الغرب أوجدتها الهجرة قبل كل شيء. ثم ناقش أثر وجود هذه الأقليات, إذ إنها تشكل مشكلة لغالبية المجتمعات الأوربية المضيفة, ونظر إلى المسألة من خلال وجهة نظر إسلامية لا غربية وفي سياق تاريخي إسلامي. فعلى مستوى التسمية «أبدى الأوربيون في أجزاء متعددة, من القارَّة تردّداً غريباً في تسمية المسلمين بأيّ اسم يحمل مدلولاً دينياً, مفضلين نعتهم بأسماء عرقية, وهادفين بوضوح من خلال هذا إلى إضعاف قيمتهم وأهميتهم, وتقليص دورهم في نطاق محلي أو حتّى عشائري, وقد اعتاد الأوربيون في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة, أن يسمّوا المسلمين بالعرب (saracens) = السراسين, أو المغاربة (Moors) أو الأتراك (Turks), أو التتار (Tatar) تبعاً للشعوب التي صادفوها» . وكان مصطلح «التركي» أظهر هذه الألقاب, حتّى إنّ من يعتنق الإسلام من الأوربيين كان يوصف بأنه أصبح تركياً .
وهذا يعكس إحجاماً متكرِّراً عن معرفة طبيعة الإسلام وحقيقته بوصفه ظاهرة مستقلة ومختلفة وقائمة في حدّ ذاتها, وهو إحجام يتكرّر منذ العصور الوسطى ولا يزال يكرّر, وقد وجّه برنارد لويس إلى أوربا وإلى الغرب هذا الإحجام. فهذه التسميات التي أطلقها الأوربيون على المسلمين ( الساراسين– الأتراك ........) كلها تسميات عرقية, ولفظ (الساراسين) لا أصل له, ولكنه يحمل معنى عرْقياً, وهو موجود قبل المسيحية والإسلام . فأنشودة (رولان) تصوّر (الساراسين = المسلمين) عبَّاداً لثلاثة أشخاص, أولهما: محمد صلى الله عليه وسلم مؤسس الدين. والثاني: (أبولين), والثالث: (تيرفاغانت), وهذان شيطانان. وقد نظر (برنارد لويس) إلى هذا الفهم بأنه شيء هَزْلي مضحك من إنسان العصور الوسطى الذين لم يستطع فهم الدين إلا عبر تصوّره الخاص .
القسم الثاني: ( المفهومات الناجمة عن الصّدامات السابقة )
تمحور هذا القسم حول الموضوعات الآتية:
أ- رؤية الغرب للإسلام.
ب- مشكلة الترجمة من العربية إلى اللغات الأوربية.
ت- أثر التهديد التركي للآداب والفكر في أوربا والأبحاث الغربية في الثقافة والتاريخ الإسلاميين. وقد نوقش الفكرة الأخرى من خلال الفصول الثلاثة الآتية:
ف1- دراسة ما كتبه جيبون عن النبي (محمد) صلى الله عليه وسلم في كتاب المسمَّى (انحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها).
ف 2- دراسة أصول الدراسات العربية والإسلامية وتطورها وأهدافها في العالم الغربي مع الالتفات إلى الجدال حول مسألة الاستشراق.
ف3- مشروعية دراسة تاريخ شعب آخر.
يُقرّ برنارد لويس بأن القرون الوسطى شهدت تغيّرات مثيرة في الفهم الأوربي المسيحي للإسلام ومؤسساته, «غير أنه لم يكن العالم المسيحي مستعدّاً للاعتراف بأي ميزة حسنةٍ أو أصالة للإسلام بوصفه ديناً أو رغبة حتى في التعرُّف على حقيقة كونه ديناً» واستدلّ على ذلك باستمرار الأورببين ينعتون المسلمين بأسماء عرقية على نحو ما ذكرنا فيما سبق. وقد انطلق العالم المسيحي إبان القرون الوسطى في دراسة الإسلام من هدفين اثنين, هما:
1 - حماية المسيحيين من التهديدات الإسلامية.
2 - تحويل المسلمين إلى المسيحيّة.
لقد كان معظم الباحثين آنذاك كهنة أو رهباناً, وقد خلَّفوا كمّاً وافراً من الأدبيات التي تعرض للإسلام ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم. وقد اتصفت أساليب هذه الدراسات بسوء الأسلوب وبأنها صُمِّمت لتحمي وتثبِّط الهَّمة أكثر من سعيها إلى تقديم معلومات. فالكتابات في هذه الحقبة «تحكمها التحاملات والمجادلة .... وبقي المجادلون يسيطرون على الكتابة في الموضوع ... ». وفي هذا الوقت أخذ «جيبون» بالتعرف على الإسلام عبر قراءاته عنه.
وقد كانت مصدر «جيبون» عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم الترجمات الثلاث للقرآن الكريم إلى اللاتينية والفرنسية والإنكليزية التي قام بها من كل من:
1 - ماراكسي.
2 - كلودسا فاري ( 1758 - 1788).
3 - جورج سيل ( 1597 – 1736 ).
وإلى جانبها سيرتان كتبهما كل من هامفريبريدو, والكونت دي لانفيلييه (1658 – 1722), ومقالة مرتبطة بذلك لجان غانييه. واستفاد جيبون كذلك من عملين آخرين هما: بحث عن دين محمد للباحث الهولندي (أدريان رولاند) و (نموذج من التاريخ) لـ (إدوارد بوكوك 1604 – 1691م).
فكتاب (النموذج) لبوكوك «كان عملاً مهماً في بدء عهد جديد في تطور الدراسات العربية والإسلامية في أوربا ... أما العمل الآخر فهو السيرة التي كتبها بولينفيليه. فبالرغم من إدراك (جيبون) عيوب هذا العمل, والتعليقات الساخرة التي تطلق أحياناً حوله, فإنه تأثر تأثراً كبيراً بعرض بولينفيليه لشخصية النبي» .
لم تكن أوروبا تحترم الإسلام وسمعته ومؤسسه بفعل الثقل الاجتماعي أو بالقرار الأوربي, فقد استخدم «مطية رائعة للجدل المعادي للدين والمسيحية». وقد حقق (جيبون) هذا الهدف من خلال مهاجمة الإسلام وهو يريد المسيحية, فكان يكيل المدائح للإسلام لينفذ من طَرْف خفي إلى مهاجمة الأعراف والاعتقادات والممارسات المسيحية الدارجة. وكان من الدروس التي أراد (جيبون) استخدامها من السيرة النبوية أن مؤسس الإسلام بشر خالص, وهذا - عنده – حجة ضد المذهب الذي يقول بقدسية المسيح, عليه السلام .
لقد جهد جيبون في استخلاص دروس متعدة من السيرة النبوية ليردَّ بذلك على المسيحيّة التي تجعل المسيح ابناً لله, فكان – جيبون – معتمداً في ذلك «على شيء إسلامي خالص , وأظهر ذكاء حاداً إلى أبعد من الإضافات الأسطورية إلى السيرة النبوية, فعاد إلى شخصية النبي الموثّقة, وإلى التقاليد الإسلامية الأولى التي تؤكد أمرين هما: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشريته. وجهد جيبون كذلك في إثبات استقرار العقيدة الإسلامية وفق ما جاء به النبي , وخلوّها من البدع المحلية اللاحقة على غرار تلك التي لحقت برسالة السيد المسيح. وقد ردَّ برنارد لويس على آراء جيبون هذه وخطّأه في ذلك مشيراً إلى أنَّ عليه أنْ يعير شيئاً من الانتباه إلى ما كان يمارس عليه الإسلام في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي في أيّامه.
وقد رأى برنارد لويس أنّه – أي جيبون – كان يصّر على أن الإسلام بمضمونه أكثر حريَّة لعدم وجود قساوسة وكنيسة, وأن فيه قليلاً من العقائد الجامدة, في حين أن المسيحية تنوء بأعباء ذلك, ولكن عدم وجود كهنوت ديني, لا يمنع وجود كهنوت اجتماعي – وفق رأي لويس – يمارسه رجال الدين. وقد نظر إلى جيبون على أنه أشبه بكتّاب الرسائل الفارسية والجواسيس الأتراك الذين نوّروا الغرب وشرحوا له عيوبه, ولذا لا يمكن عدّه في صف المؤرخين الجادين في الشرق, فقد كان ما قاله عن العقيدة الإسلامية قليلاً, فاهتمامه منصب على جوانبه الاجتماعية والعامة.
يؤكد برنارد لويس أن تأثير (جيبون) في فهم الغرب عن النبي والإسلام كان عظيماً, فقد «استطاع – يعني جيبون – تجسيد صورة النبي وظهور الإسلام بوضوح وروعة , وفوق كل شيء بإقناع». ولكنه – أي جيبون لم يحزم أمره بشأن موضوع التسامح, فقد وصف النبي محمداً بأنه حمل السيف بيد والقرآن باليد الأخرى, وأقام عرشه على أنقاض المسيحية وروما. وهذه مغالطة من مغالطات جيبون, «فقد استمرَّت المسيحية وروما كلتاهما بعد ظهور الإسلام» . لم ير جيبون «ظهور الإسلام على أنه سيء منفصل ومعزول, أو أنه انحراف يدعو إلى الأسف عن مسيرة الكنيسة المتقدِّمة, بل رآه على أنه من التاريخ البشري يمكن أن يُفهم في إطار إمبراطوريتي روما وفارس, وفي ضوء اليهودية والنصرانية, وفي تفاعل معقّد مع بيزنطة وآسيا وأوروبا» .
وإذا انتقلنا إلى الفصل الثاني من القسم الثاني, وهو يحمل عنوان (قضية الاستشراق) نجد برنارد لويس في هذا الفصل يسعى إلى تأصيل مصطلح (الاستشراق), ويرى أن كلمة الاستشراق كانت تعني – قبل أن تلتاث بشيء من التلوّث الفكري – في معنيين: الأول يشير إلى مدرسة الرسم التي يمثلها مجموعة من الفنانين معظمهم من أوربة الغربية, وزاروا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, ورسموا ما شاهدوه أو تخيّلوه بأسلوب رومانسي غالباً. والثاني: فرعاً من فروع البحث العلمي الذي وجه ممثلوه عنايتهم إلى دراسته وغدا خاصّاً بفقه اللغة.
وفرق في هذا الفصل بين مفهوم الشرق عند الأوربيين والأمريكان, فقد كان مفهوم الشرق عند الفريق الأول «المنطقة الواقعة مباشرة إلى الشرق من أوروبا» وهو – عندهم – مصدر الخطر بدءاً من طلائع الجيش الفارسي وانتهاءً بأواخر الجيش العثماني, ولكن مفهومه عند الأمريكيين ينطبق على أماكن «لم تكن لأوربا القديمة والوسطى معرفة كبيرة أو حتى علم بها».
وقد حفل هذا الفصل بمناقشة ضافية لمصطلح (مستشرق), فقد عدَّه فاسداً إلى حدٍّ لا يمكن إصلاحه, وفقدت كلمة مستشرق قيمتها, وكان الهجوم على ذلك في مؤتمر الاستشراق الذي عقد في باريس سنة 1973 بمناسبة مرور مئة عام على مؤتمر الاستشراق الأول الذي عقد في المدينة نفسها, وفيه انقسم الدارسون بين رافض لهذا المصلح (مستشرق) وبين مؤيد للإبقاء عليها, وكان على رأس الفريق الثاني (بابا جان غفورق) مدير معهد الاستشراق في موسكو, فقد قال: «إنَّ هذا المصطلح قد خدمنا لأكثر من قرن فلماذا يجب علينا أن نتخلّى عن كلمة تدل دلالة صحيحة على علمنا, وأوجدها بفخر أساتذتنا وأساتذتهم لعدة أجيال خلت ؟».
وعرض برناد لويس لبعض مصادر الهجوم على الاستشراق والمستشرقين, هذا الهجوم الذي مرَّ بمراحل عدَّة بدأت عند الشروع في إعداد الطبعة الثانية لدائرة المعارف الإسلامية, وكان مصدر هذا الهجوم كراتشي الباكستان. ثم قام أحد أساتذة جامعة الأزهر بوضع كتاب صغير عن المستشرقين وما يقومون به, فالمستشرقون «أكثرهم من المبشرين الذين يهدفون إلى إضعاف الإسلام وتدميره», وقد وضع هذا الباحث لائحة ضمَّت «أسماء باحثين مراوغين وخطرين ينبغي معاملتهم بحذر خاص», وكان بينهم (فيليب حتّي) من جامعة برنستون, وعدّه مؤلف الكتاب (أحد أكثر الناس المثيرين للجدل من أعداء الإسلام, يزعم أنه مدافع عن قضايا العرب في أمريكا, وهو مستشار غير رسمي لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية» . وينتصر برنارد لويس لـ ( فيليب حتّى), ويؤكِّد أنه كان «في الواقع من المدافعين الشجعان عن قضايا العرب, وكان كتابه (التاريخ) لترنيمة لمجد العرب».
ويذهب برنارد لويس في هذا الفصل إلى نفي عمليات التبشير التي رُمي بها الاستشراق, وعَدَّ ذلك «منهجاً نُبذ في العالم المسيحي منذ مدة, ما عدا قليلاً من المراكز الأمامية الدينية المتعصِّبة» وعلى الرغم من ذلك بقي هذا الفهم سائداً في العالم الإسلامي.
يرفض برنارد لويس الكتابات العربية التي تكيل الاتّهام للاستشراق, ويعرِّج على مقالة (أنور عبد الملك) المنشورة سنة (1963) بعنوان (الاستشراق في أزمة), وهي – على ما يرى برنارد لويس – مكتوبة بانفعال واضح, وهو يعبّر فيها عن مبادئ يعتنقها بقوة, ومع ذلك لم يحط لويس من قدرة, فرأى أنها تبقى في حدود المناقشة العلمية, وتعتمد اعتماداً واضحاً على دراسة متأنية لا تتعاطف مع كتابات الاستشراق .
وينظر لويس في هذا الفصل إلى ( إدوارد سعيد) على أنه الممثل الرئيس لمعاداة الاستشراق في الولايات المتحدة, فقد نشر هذا الأخير كتابه (الاستشراق) الذي يتضمّن – وفق لويس – طرحاً مفاده النظر إلى الاستشراق على أنه ناجم عن تقارب من نوع خاص بين بريطانيا وفرنسا والشرق الذي كان يعني حتى القرن التاسع عشر الهند وأراضي الكتاب المقدس . وقد شنَّع لويس على إدوارد سعيد أطاريحه, فهي عند لويس اعتباطية, تقدم على عزل الدراسات العربية من سياقاتها التاريخية الثقافية, وتعمد إلى ترتيب إدوارد سعيد جغرافية الاستشراق وتاريخه, فالشرق بالنسبة إلى إدوارد سعيد انحسر إلى الشرق الأوسط فحسب, وهذا ينحسر إلى جزء من العالم العربي.
لقد أنكر لويس على إدوارد سعيد أطاريحه, وجعل كتاباته محيِّرة, ومنافية للعاقل, وقاسية, وهي أقرب إلى روايات الخيال العلمي, وتؤكد جهله بالحقائق التاريخية, وعجزه عن التقييمات الحقيقيّة, وقدرته على تحوير الأحداث لتنسجر مع أطاريحه. إن معاداة الاستشراق في أسّها قضيّة معرفية تهتم بنظرية المنهج أو بعلم المنهج أو أرضيات المعرفة. فالمستشرق – وفق إدوارد سعيد – عميل للإمبريالية, أو أداة من أدواتها, والاستشراق مصدر للقوة. وبرنارد لويس يؤكد رفضه للتفسير الإمبريالي للاستشراق ودليله على ذلك أمور منها:
1 - عندما أسس أوّل كرسي للغة العربية في فرنسا لم يكن المغاربة قد طُردوا من أسبانيا.
2 - كان الأتراك ما زلوا يهدّدون فييبا.
3 - استمرار القراصنة البربر في مهاجمة شواطئ إنكلترا.
4 - توق فرانسيس لمساعدة سليمان الكبير في إستانبول.
5 - إن التفسير الإمبريالي للاستشراق لا يقدِّم أي شرح للتطور الكثيف في دراسة الشرق القديم.
6 - أيّ هدف إمبريالي يراد من فك رموز اللغة المصرية القديمة؟
يؤكد برنارد لويس بعد عرضه هذه الأدلة أنَّ التفسير الإمبريالي للاستشراق تفسير يسير بعكس حركة التاريخ.
وفي الإجابة عن سرّ اهتمام الغربيين بدراسة الشرق يرى أن الغربيين يجيبون على ذلك بما يأتي:
1 - الحضارات الأعلى تدريس الأدنى لا العكس.
2 - غير الأوربيين يرون أن المعرفة قوّة, وهدف الدراسات الغربية للشرق السيطرة عليه واستغلاله.
أما السؤال الأول فيرد عليه برنارد لويس بأنه لا يتطابق مع الوقائع التاريخية إذ إنَّ أوروبا عند ابتدائها دراسة الإسلام كانت هي الأدنى, والعالم الإسلامي هو الأعلى. فالحضارة الإسلاميَّة كانت أكثر تقدُّماً من أوروبا, ومع ذلك درست أوربا الإسلام, ولكن الإسلام لم يدرس أوروبا.
أما مقولة (المعرفة قوَّة) فهي مقبولة عاطفياً, لأنها تحقّق هدفين:
أولهما: إدانة الاستشراق الغربي. وثانيهما: تجعل غياب أي دراسة مرتبطة بالشعوب الغربية في الشرق فضيلة.
فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد وموجة العداء للاستشراق ناجمان عن التأثير بقراءة كتاب (النهضة الشرقية) للباحث الفرنسي (ريمون شواب) وهذا يستخدم كلمة (نهضة) بمعناها الأصلي, وهو إحياء المعرفة في أوروبا. أما مصطلح (الشرق) فالمراد به الهند مع بعض التوسّع شرقاً وغرباً, فالإطار مختلف والمنطقة مختلفة, والمجال متغيّر, والهدف متغير أيضاً.
ويعود لويس إلى التشنيع على إدوارد سعيد وكتابه (الاستشراق) ويرميه بالأمور الآتية :
1 - التخيّلات الجنسية.
2 - التشويه.
3 - الاختيار الاعتباطي لأعمال المستشرقين.
4 - التركيز على كتابات ثانوية من دون الإسهامات المهمَّة.
5 - إعادة التنظيم الاعتباطي للأحداث التاريخية والاحتيال لذلك.
6 - إعادة تفسير النصوص المقتبسة.
7 - تصنيفه بعض الإداريين الأدباء في دائرة المستشرقين.
8 - إلقاء الاتهامات الغربية.
9- التطاول على شخصيات استشراقية مهمة مثل (سلفستر دي ساسي).
10 - إغفال الاستشراق الروسي والألماني.
11 - الاستخفاف بالبحث العلمي العربي.
12 - معاداته الغرب الليبرالي الديمقراطي.
ولكن كل هذه النّقدات للكتاب لم تُعْمِ عيني برنارد لويس عما فيه من حسنات, من أهمها:
1 - الأفكار الفلسفية والأدبية المطروحة فيه أفكار شائعة حالياً.
2 - لغته الأدبية.
3 - تلبيته حاجات العالم المتزايدة في تبسيط الأمور من خلال التقليل من تعقيدات المشكلات القومية والثقافية والدينية والاجتماعية في العالم العربي.
4 - تحويل هذه التعقيدات إلى شكوى موجَّهة ضد محموعة من الأشرار يَسْهُل التعرُّف عليهم وتمييزهم.
5 - انتقاداته الصارمة للبحث العلمي النصِّي والفقهي.
إن نقد الاستشراق والمستشرقين أثار كذلك نقداً مضاداً متزايداً من الكتاب العرب, على الرغم من أنهم غالباً يشتركون والمعادون للاستشراق في تحرّرهم من هم الحضارة الغربية. وقد أعلى لويس من دراسة الفيلسوف د. فؤاد زكريا عن الذين يعادون الاستشراق، فقد قسمهم زكريا إلى:
أ- مدرسة النقد الأولى, وهي مدرسة دفاعية دينية, تدافع عن الإسلام وكماله وتماسكه ضد من يعاديه من القوى التي توصف بالمسيحية, والبعثات التبشيرية, واعتمادهم على اقتباسات مما ترجم عنها, وعدم تفهمهم البحث النقدي المعاصر الذي يشكل الاستشراق الغربي جزءاً.
ب- فئة تهاجم المستشرقين انطلاقاً من وجهة نظر سياسية لا دينية, بدليل أنَّ الأعلى صوتاً بين أفراد الفئة هم مسيحيون أو أبناء مسيحيين مهاجرين يعيشون في أوروبا الغربية أو أوروبا.
لا يخلي فؤاد زكريا الاستشراق من الشوائب, ولكن الخطر الأكبر في أن ننكر نحن أخطاءنا لأن الآخرين يتكلمون عنها لأهداف غير موضوعية, ولذلك يرى زكريا «أن مهمتنا الثقافية في هذه المرحلة هي أن نأخذ بقرون ثور التخلّف وننتقد أنفسنا قبل أن ننتقد التصور الذي يشكله الآخرون عنا حتى وإن كان مشوهاً على نحو مقصود» .
ينفي ما اتهم به الاستشراق من التحيّز ضد البلاد المدروسة أو العداء لها, لأن الباحثين ككل أنواع البشر عرضة لنوع من التحيّز, ولكن «الاختلاف الأساسي هو بين أولئك الذين يدركون تحيّزهم هذا ويحاولون تصحيحه وبين أولئك الذين يطلقون له العنان» . ولكن المسألة الأكثر أهمية هي دقة نتائج البحث الاستشراقي وصحتها, وهي مسألة قلما يتطرق إليها ناقدو الاستشراق, لانصباب تركيزهم على نتاج باحثين لهم مواقف مزعومة ودوافع تصلح أن تكون موضوع حملة النقاد عليهم.
وفي ختام هذا الفصل يؤكد أن النقد العلمي لنتاج المستشرقين ضروري فعلاً, وهو جزء من العمليّة برمّتها. وأشد نقداً وأكثره نفاذاً إلى البحث الاستشراقي سيأتي من زملاء المستشرقين أنفسهم, ولا سيما أولئك الذين يعملون في حقل متخصص واحد .
ف3 (تاريخ الشعب الآخر)
محور هذا الفصل دراسة موقف الأوربيين من التاريخ غير الأوربي, ففي القرن التاسع عشر قال الشاعر لورد ألفردتنييسون (1809-1892) في قصيدة له بعنوان (قاعة لوكسلي ): خمسون سنة من حياة أوروبا أفضل من تاريخ الصين كله, وهذا الفهم عن التاريخ الشرقي لم يكن مفهوم تينيسون وحده, لكنه عام في الكتابات الأوربية في القرن التاسع عشر. ويضرب برنارد لويس مثالاً آخر يؤكد هذه النظرة الأوربية للشعوب الأخرى من المنشور البابوي الذي كان يحمل عنوان (الإله الخالد) وقد أصدره البابا ليو الثالث عشر في الأوّل من تشرين الثاني سنة 1885م فهنّأ فيه أوربا على قدرتها التي استطاعت بها «ترويض الأمم الهمجية ونقلها من التوحش إلى الحضارة, ولأنها قائدة الشعوب ومعلمتها في التقدم والحرية وتخفيفها البؤس الإنساني.
إن الغربي الذي يتقصى ثقافة غير ثقافته تواجهه مسألتان اثنتان هما:
1 - لماذا نتهم؟
2 - هل لنا الحق؟
ويجاب على هذه المشكلة بأنه ما دام في مقدورنا – بل علينا أن نفعل ذلك – دراسة تاريخنا الخاص بعين ناقدة, فهذا يمكن فعله فيما يخصنا لا فيما يخص الآخرين. أما المنهج النقدي فلا يصحّ تطبيقه على الثقافات الأخرى, وما علينا إلا الاكتفاء «بتلقي ما ينتقيه الخلفاء الشرعيون لتلك الثقافات الأخرى ويحضرونه ويعالجونه ويقدمونه لتعليمنا». ولدراسة الحضارات سبل عديدة ومصادر متعددة, فهي تدرس في لغات أعمالها الكلاسيكية, وفي كتبها المقدّسة, ولغات أنظمة الحكم فيها, وفي التجارة. ويرى الغربيون أن الحضارات الأعلى تدرس الحضارات الأدنى وليس العكس. أما الجواب الحالي غير الأوربي فيتمثل في أن المعرفة قوة, وأن هدف الدراسة الغربية هو السيطرة والاستغلال.
لا ينفي برنارد لويس أن يكون بعض المستشرقين قد خدموا الإمبريالية أو استفادوا موضوعياً وذاتياً من الهيمنة الإمبريالية, ولكن عدَّ ذلك تفسيراً للاستشراق عامة يمثل قصوراً عبثيَّاً. وإذا كان بعض نقاد الاستشراق يجعلون السعي وراء القوة عبر المعرفة هو الدافع الوحيد أو حتى الدافع الأساسي, فإن دراسة العرب والإسلام في أوربا قد بدأت من قرون قبل أن يغادر المسلمون الفاتحون (لويس يسميهم الغزاة) أرض شرق وغرب أوروبا. ثم إن الدراسات الاستشراقية ازدهرت في بلدان أوربية لم تكن لها مساهمة في السيطرة على الوطن العربي. والسؤال الذي يبقى يلح على ذكر برنارد لويس هو: لماذا فعلنا ذلك نحن في الماضي, والأكثر منه إلحاحاً: لماذا علينا أن نفعل ذلك في المستقبل.
وفي الإجابة على سؤاله الأول يقدِّم برنارد لويس الإجابات الآتية:
1 - حاجة أوروبا المسيحية إلى توجيه أنظارها وتعلم لغات غريبة للوصول إلى منابع عقيدتها المسيحية وحضارتها, فكتبها المقدَّسة كانت مكتوبة باللغة العبرية واليونانية, وبعض الصفحات بالآرامية, وهي لغات صعبة.
2 - الخوف من تهديد المسلمين بالغزو وتحويل الدين.
3 - معظم الأراضي الإسلامية الجديدة انتزعت من العالم المسيحي (!).
4 - وجود الأماكن المسيحية في أماكن الحج التي سيطر عليها المسلمون.
5 - إشباع رغبة الأوربيين العلمية.
6 - التطور الفكري الأوربي.
7 - التوسع التجاري. فقد سُمح للأوربيين بإقامة مراكز تجارية على أراضي المسلمين ولكن أوروبا لم تسمح بشيء من ذلك, فعندما قدِّم اقتراح بإنشاء نزل للتجار الأتراك في البندقية دارت صراعات مريرة وطويلة وجدالات قبل أن توافق المدينة أخيراً على السماح لعدد قليل من التجار الأتراك بالبقاء مُدَداً قصيرة. ولا يخفى أن التجارة وما قدمه التجار من فرص, وطبيعة الجو الفكري الذي يتمخض عن المجتمع البرجوازي كان له اليد الطولى في تقدم البحث العلمي في أوروبا.
وينتهي لويس إلى إشارة إلى أهمية تبادل الدراسات في «ضوء الاعتماد المتبادل للوجود البشري في الوقت الحالي, ووحدة الثقافة البشرية التي تزداد رسوخاً كل يوم على الرغم من وجود الاختلافات السياسية والاختلافات الأخرى التي تمزّقنا فمن الجيد أن يكون على تلامذتنا أن يدرسوا (المعلقات), ومن الجيد أيضاً أن يكون على الطلاب العرب دراسة بيوولف» .
القسم الثالث: (الاستجابة ورد الفعل الإسلامي). وقد بحث فيه الموضوعات الآتية:
1 - النهضة الإسلامية, وما يسمّيه بالأصولية.
2 - مكانة الشيعة في التاريخ الإسلامي.
3 - الوطنية الغربية وتطورها.
4 -إمكانات التعايش الديني المشترك.
وعبر إضاءاته جوانب هذه الموضوعات يخلص إلى جملة من النتائج, منها:
1 - الإسلام هو الصيغة الأكثر تأثيراً للاجتماع في البلدان الإسلامية, ويزداد ذلك بازدياد تأصيل شعبية الأنظمة, فالإسلام هو الهوية الجماعية الأساسيّة بين الجماهير.
2 - إن الوطن فكرة مقدَّسة لا تشكلِّه خطوط وهميَّة مرسومة بسيف فاتح أو قلم كاتب, وهذه الفكرة «تنبع من اتحاد مشاعر نبيلة عديدة, مثل الأمة, والحرية, والخير, والأخوّة, والملكية, والسيادة, واحترام الأسلاف, وحب الأسرة, وذكرى الشباب ...» .
3 - يعني التعايش المساواة بين المجموعات المختلفة التي تشكل المجتمع السياسي بوصفه حقّاً طبيعيّاً متأصِّلاً لهم جميعاً – منحه ليس ميزةً, ومنعه أو الحد منه جريمة . وهو مصطلح يختلف كل الاختلاف عن مصطلح التسامح.
إطلالة أخيرة:
يعكس كتاب (الإسلام والغرب) برنارد لويس شخصيةً لاهثةً وراء المعرفة غنيةً المعارف, متشبعة المشارب والثقافات, فهو بحق أحد أفراد جيل من «المستشرقين الكبار الذين لا يَحدُّهم اختصاصٌ معيَّن». وتتمتع كتابات برنارد لويس بالعبارة المكثّفة, والأسلوب السامي, وهذا ما يجعل قارئه يُعدّ كل عدّة للإبحار في خضم كتاباته, وتفرض عليه أن يكون قارئاً ممعناً فيما يقرأ, يسبر أغوار ما يقع تحت أنظاره من فكر. والكتاب الذي بين أيدينا لا يمنح قارئه لحظة واحدة من تهاون, إذ عليه أن يستجمع جُماع قواه الفكرية, ويستحضر ما يستطيع من مخزونه الثقافي فهو ينتقل بقارئه من مشكلة إلى أخرى, ويثير عنده تساؤلاً بعد تساؤل ولكن ذلك لا يجعل من الكتاب خلواً من التقصير, بريئاً من الأغاليط, بعيداً عن الصواب, طافحاً بالمغالاة والتحيُّز في مقابل كثير من الموضوعية والنَّصغة اللتين تظهران في الكتاب.
فمن مظاهر الموضوعية مثلاً إقراره بالهدف الإمبريالي لبعض الكتابات الاستشراقية: «كانت هناك تقاليد للكتابة, ولا سيما في التاريخ, والهدف منها إمبريالي من دون شك, يلحظ المرء هذا في بعض الكتابات الإنكليزية عن تاريخ الهند .... وهي كتابات يتضح أن لها هدفاً مزدوجاً فهي من جهة تؤكد للقراء الإنكليز صواب حكمهم في الهند والطرائق المطلوبة للحفاظ عليه, وتحاول من جهة أن تثني الهنود عن تطوير أفكار خطيرة حول ماضيهم ومن ثم عن حاضرهم ومستقبلهم».
ومن ذلك إقراره بالتحريفات التي حصلت في الديانات السابقة على الإسلام, ونقده للممارسات الخاطئة لأوروبا تجاه المسلمين بعد استرداد صقلية والبرتغال, فقد أقرَّ بأنهم كانوا يرون استحالة وجود مسلمين بينهم وقاموا بترحيلهم أو بإكراههم على تغيير دينهم . ومن الأمثلة على تطرّفه ومغالاته قوله: «فعلى مدى ألف سنة من التقدّم الإسلامي لم يكن الغربيون بل المسلمون هم المعتدون والغزاة» . وهي مواضع قليلة لا تخفى على القارئ الحصيف.
وتأتي ترجمة الكتاب نموذجاً للترجمة الدقيقة, المتِّسمة بحسن الاختيار, وجودة الأسلوب وإشراقه, ودقة العبارة المفضية إلى سطوع الفكرة, وكل ذلك دليل واضح لا يخفى على ذي لبّ اقتدار المترجم, يضاف إلى ذلك التعليقات والهوامش التي رفد بها المترجم النصّ الأصلي لتجلو الغموض الذي يكتنف بعض المواضع أو الأسماء. وإذا كانت بعض الأخطاء تناثرت كالخيلان متباعدة في صفحات من الكتاب, فإن ذلك لا يغض من قيمة الكتاب تأليفاً وترجمة, ولا يدفع إلى الإحجام عن قراءته قراءة متأنية يجني منها ثماراً فكرية يانعة.
تغريد
اكتب تعليقك