الهوية اللغوية: المفهوم والملامحالباب: مقالات الكتاب
د. وليد السراقبي كلية الآداب الثانية – حماة - سوريا |
يقصد بالهوية التعبير «عن الوجود الإنساني لفريق من الناس في أرض معينة، وهذا التعبير يحمل السمات التفصيلية لهذه الـ(هو) الفردية والجماعية في ائتلافها واختلافها، ولكنها في النتيجة تصدر عن تراث واحد ينتمي إليها في شتى شؤون الحياة»1 ومفهوم الهويّة وثيق الصلة دائمًا بأصل الشخص وجذوره, وبالوشائج التي تربطه بالآخرين.
فكل من علم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة النفسي، وعلم الإنسان الاجتماعي واللغوي يشير إلى مركزية الارتباط الحاصل بين اللغة والهوية2. فقد غدت بصمة الصوت جزءًا أساسيًّا في الكشف عن الجرائم، ما يدفع إلى تأكيد أنه لا شيء أشد مماثلة لمشاعرنا من إيقاعات أصواتنا...وأن العقل متأصل في المحتوى القضوي للغة مع دخول العاطفة في الصوت حتى النخاع3.
واللغة الأم هويّة حاملها من جهة, وهويّة المجتمع الصغير والكبير الذي ينتسب إليه, وأهم مميزاته الثقافية المنبئة عن هويتها .. وتتكون هويته الشخصية والاجتماعية والثقافية من خلال الانتماء والارتباط بالآخرين عبر سيرورة دينامية مستمرة, وأداتها في ذلك مختلف العناصر الثقافية و الحضارية, معارفَ ومعتقدات وأخلاقًا وأعرافًا وعاداتٍ, التي يكتسبها الطفل من خلال التنشئة الاجتماعية التي تؤدي دور الناقل في الوقت نفسه, فهي معين ثقافته وأداة تفكيره4. فاللغة تحتم على ناطقيها رؤية معينة للواقع, وتصورًا له، وطريقة تنظيم الثقافة الناطقة بتلك اللغة, حتى أطلق على هذه الرؤية مصطلح (الحتمية اللغوية).
تتأتى أهمية اللغة من جوانب عدة منها:
1 - أن اللغة أداة تعبير وإفصاح, ووسيلة تفكير, ومصدر أُنس اجتماعي إنساني بين الناطقين بها, ولا غرابة في ذلك، فهم يولدون حاملين نظامًا لغويًّا يتهدّون بقواعده, ويستوعبون معطيات المجتمع الذي فتحوا أعينهم بين ظهرانيه. وقديمًا نظر سقراط إلى أحد تلاميذه الصامتين وخاطبه بقوله: تكلّم حدّثني حتى أراك. فهذه المقولة تدلّ على أن اللغة هي مقوّم الوجود الحقيقة للإنسان, فليس له وجود بغير اللغة, وهي عبارة تحمل في طيّاتها الإشارة إلى أهمية اللغة في التواصل الإنساني, وإلى الوجود الاجتماعي أيضًا.
2 - أن اللغة أهم مقوّم من مقوّمات التراكم الحضاري والمعرفي لأي مجتمع إنساني. إنها خزان أشكال ثقافية من التمثل. وهذه القيمة الأخيرة هي وحدها القيمة التي تمتلك سندًا شرعيًّا. وهذا مرجعه إلى أن اللغة المحلية تحمل الهوية الأصيلة لمتحدثيها.
3 - أنّ اللغة هي السياجُ الأهمُّ الذي يوحّد الأمّة الناطقة بها, ويعمل على حماية المجتمع من عوامل الانحلال والذّوبان, لأنها (مستودع لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد والفلسفة والدين ... إن روح الشعب يكمن في لغته الآباء والأجداد 5.
ولغتنا العربية الفصيحة إلى جانب كونها أداة تفكير ووسيلة تعبير, وأداة تواصل هي «جامعة شملنا, وأساس قوميتنا, والرابطة التي تجمع بين أبناء أمتنا ..... وذاكرة الأمة ومستودع تراثها, وجسرها للعبور من الماضي إلى الحاضر, أو من الحاضر إلى المستقبل, وهي قلعتنا الحصينة للذود عن هوّيتنا وذاتيتنا الثقافية, ووحدتنا القومية .... أسهمت في مسيرة الحضارة البشرية أيّما إسهام, فكانت لغة العلم والثقافة ..... وإنّ إهمالنا لها اجتثاث لشخصيتها من مسارها التاريخي, ومن ثقافة مجتمعنا, فتغدو هذه الشخصية دون هويّة, ويضيع طابعها, وتُمحى ملامحها ..»6 .
وللغتنا العربية من المقوِّمات والخصائص ما لا نجده عند غيرها من اللغات التي نحترمها جميعًا. ولعلّ من أهم هذه المزايا:
1 - البعد الديني للعربية, فهي لغة القرآن الكريم الذي حملها عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان, ووقف بها سدًّا منيعًا أمام كل الحملات الشعوبية التي عصفت بمنطقتنا العربية بدءًا من التعجيم فالتتريك فالفرنسة.
2 - الوضوح والسهولة.
3 - الحيوية والمرونة والتطوّر والطواعيّة.
4 - غنى في الألفاظ والتراكيب.
5 - التنظيم: فهي لغة جامعة مانعة, غانية بنفسها, لا تحتاج إلى قواعد من اللغات الأخرى أو ترفض أي عنصر استغنت عنه عبر تاريخها الطويل, فمنذ أن فُرِّع الكلام إلى أقسامه الأساسية لم يضف إلى التقسيمات شيء جديد لم يكن في اللغة نفسها (إنها ذات نظام كلي ذي أنظمة متفرعة عنه, فهناك نظام صوتي وآخر مقطعي, وآخر تنغيمي, ونظام صرفي ونحوي ....)
7 - الإيجاز والاقتصاد: ومن مظاهره تعدد المعاني لمبنى صرفي واحد فصيغة مثل صيغة (استفعل) في العربية يكون لها دلالات متعددة بتعدد السياقات الواردة فيها، فهي تدل على الصيرورة في قولنا: استحجر الطين, أي صار حجرًا, وتدل على الاعتقاد في قولنا: استصغر الرجل المصيبة, أي وجدها وظنها صغيرة, وتدل على الطلب في قولنا: استعلم .... ومن مظاهره أيضًا تعدد المعنى السياقي للفظ الواحد فالفعل (ضرب) يكون متعدد المعاني بتعدد السياقات, فمعناه في قولنا: ضربت مثلاً غير معناه في قولنا: ضربت الولد, وغيّر معناه في قولنا: ضرب النقود, و غير معناه في قولنا: ضرب في الأرض, وغير معناه في قولنا ضرب قبّة,......
فكم هي المصطلحات التي جدت بفعل التطور العلمي والمجتمعي، فقابل ذلك مصطلحات كثيرة جديدة بسبب طواعية البناية الصرفية لمفردات اللغة العربية، فقيل: التصحرُّ، والتأقلُم، والعَوْلمة، والعَوْربة، والحَوْسبة، واللبننة،...
لقد أبان المستشرق الأمريكي وليم ورل7 ، مدير مدرسة المباحث الشرقية عما تمتاز به العربية من لين ومرونة وقدرة على النماء والتطوّر والتكيّف وفق متطلبات العصر فقال «إنّ للغة العربية من اللين و المرونة ما يمكنانها من التكيّف وفق مقتضيات العصر, وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التي احتلّت بها, وهي ستحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليه في الماضي».
وأقرَّ المستشرق الأمريكي أيضًا رتشارد كوتهيل8 بالهوّة بين بعض الغربيين و بين تقدير اللغة العربية حق التقدير فيقول: «قلّ منا نحن الغربيين من يقدّر اللغة العربية حقّ قدرها من حيث أهميتها وغناها , فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها وبداعي انتشارها في أقاليم كثيرة, واحتكاكها بمدنيات مختلفة, قد نمت إلى أنّ أصبحت لغة مدنية بأسرها بعد أن كانت لغة قبليّة. لقد كان للعربية ماض ٍ مجيد, وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر»9.
وبيَّن برنارد لويس المستشرق الأمريكي مكانة اللغة العربية وعلاقتها بالفكر، فأثنى عليها من جانب، وخانته الموضوعية فغمز من قناة لغتنا من جانب آخر، فقال: «لكن اللغة العربية ناقل فكر دقيق، صحيح أنها غنية بالشر10 والفصاحة والآداب، ويمكن لمن يمارسونها ألا يقولوا ما يقصدونه بالضبط، أو يقصدون بالضبط ما يقولونه، لكن ذلك لا يعد واحدًا فقط من مظاهر العربية فهي أيضًا لغة تتصف بوضوح ودقة عاليين، وهي أداة تواصل علمية وفلسفية، وكانت اللغة اليونانية النظير الوحيد لها حتى العصور الحديثة»11.
الهوامش:
1 - سالم معوش، أزمة الهوية والوجود، بحوث الدائرة المستديرة، ليبيا، 2008، ص11.
2 -جوزيف، جون: اللغة والهوية، عالم المعرفة, الكويت, العدد 242 , لسنة 2007، ص31و32.
3 -المرجع السابق، ص43.
4 - السيد، د. محمود: لغتنا الأم العربية الفصيحة, مجلة مجمع اللغة العربية, مجلد 84 , ج1 , ص 13 .
5 - اللغة بين القوميّة والعالميًة: د. إبراهيم أنيس، القاهرة، 1970، ص 100.
6 - السيِّد، د. محمود: لغتنا الأم العربية الفصيحة , مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق, مجلد 84/ 1/13 - 14 .
7 - فتاوى كبار الكتاب والأدباء، الكتاب الشهري، 4، وزارة الثقافة ، دمشق، ط2، 2003م، ص15.
8 -المرجع السابق نفسه، ص8.
9 - المرجع السابق نفسه، ص8.
10 - لعله يقصد ما في اللغة العربية من استخدام أساليب التعمية والتورية والكناية ، وما إلى ذلك.
11 - لويس، برنارد: الإسلام والغرب، ترجمة د. فؤاد عبد المطلب، ط. اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2007م، ص 106.
تغريد
اكتب تعليقك